بدأ انتشار فيروس كورونا المستجد في مدينة “ووهان” الصينية في أواخر ديسمبر الماضي ليجتاح بعد ذلك أغلب دول العالم في غضون فترة قصيرة، حيث سجلت أكثر من 200 دولة حالات إصابة مما عصف بالنشاط الاقتصادي العالمي، لا سيما مع تعليق شركات الطيران عددًا كبيرًا من الرحلات الجوية، وإغلاق الحدود بين الدول لإبطاء وتيرة انتشار الفيروس. لهذا توقع العديد من الخبراء انخفاض قيمة الجنيه المصري أمام الدولار الأمريكي في ظل الأزمة الراهنة بسبب زيادة احتمالات تراجع إيرادات السياحة، وانخفاض عائدات قناة السويس وتحويلات المصريين العاملين في الخارج، مما قد يؤدي إلى انخفاض الاحتياطات النقدية الأجنبية.
لكن ما حدث كان عكس ذلك تمامًا؛ إذ استطاعت العملة المصرية الصمود أمام نظيرتها الأمريكية خلال الفترة الماضية. وبالنظر إلى البيانات المنشورة على موقع البنك المركزي المصري، سنجد أن سعر الدولار وصل إلى 15.73 جنيهًا مصريًا للشراء و15.86 جنيهًا للبيع في أوائل فبراير، لينخفض بعد ذلك بشكل طفيف في الأول من أبريل إلى 15.68 جنيهًا مصريًّا للشراء و15.81 جنيهًا للبيع. ولا يقارن هذا الانخفاض بما تحقق من انخفاض كبير في قيمة عملات بعض الاقتصادات الناشئة والكبيرة.
ونتناول في هذا المقال أهم العوامل التي ساهمت في هذا الصمود.
1- برنامج الإصلاح الاقتصادي
مهد برنامج الإصلاح الاقتصادي الطريق أمام العملة المصرية لتتخطى جميع العوائق الموضوعة أمامها بفعل أزمة كورونا الحالية؛ إذ بدأ البرنامج –الذي انطلق عام 2016- يؤتي ثماره، خاصة مع تحقيق نمو اقتصادي بأكثر من 5% خلال العامين الماضيين.
كما استطاعت الحكومة المصرية بناء أساس قوي للعملة المحلية خلال السنوات القليلة الماضية، مما ساهم في زيادة قدرتها على تحمل الصدمات المستقبلية، وذلك عن طريق معالجة جوانب الضعف الاقتصادية الكلية، وخلق فرص عمل جديدة، فضلًا عن دعم قطاع السياحة، وتعويم الجنيه، مما رفع من تنافسية الصادرات المصرية في الأسواق الخارجية، بالإضافة إلى الاهتمام بمشاريع البنية التحتية القومية، واكتشاف حقول جديدة للبترول والغاز الطبيعي، الأمر الذي أسفر عن جذب الاستثمارات الأجنبية، ورفع الاحتياطيات النقدية.
علاوة على ذلك، ساعد برنامج الإصلاح الاقتصادي الدولة في جهود محاربة فيروس كورونا من خلال توافر أرصدة آمنة وكافية لعدة أشهر من السلع الغذائية الأساسية، وذلك بدعم من استصلاح 1.5 مليون فدان ضمن خطة الرئيس “عبدالفتاح السيسي” لاستصلاح وزراعة 4 ملايين فدان.
2- معدل التضخم وتحويلات المصريين العاملين بالخارج
شهد معدل التضخم السنوي في مصر تراجعًا إلى 4.9% خلال شهر فبراير الماضي مقارنة مع 6.8% في يناير، مما ساهم أيضًا في دعم قيمة العملة المحلية. في حين ارتفعت تحويلات المصـريين العاملين بالخارج بنحو 33.6% خلال شهري يناير وفبراير من العام الجاري إلى 5.2 مليارات دولار مقابل حوالي 3.9 مليارات دولار خلال الفترة نفسها من 2019، وهو ما يمثل ارتفاعًا بمقدار 1.3 مليار دولار.
3- الصادرات
ساهم ارتفاع الصادرات المصرية خلال الفترة الماضية في زيادة رصيدها من الاحتياطي النقدي، مما عزز من وضع الجنيه أمام باقي العملات الرئيسية وخاصة الدولار. إذ ارتفعت الصادرات المصرية غير النفطية خلال الربع الأول من العام الجاري بنحو 2% إلى 6.72 مليارات دولار مقارنة مع حوالي 6.58 مليارات دولار خلال الفترة نفسها من عام 2019.
كما تراجعت الواردات بنسبة 24% إلى 13.8 مليار دولار، مما ساهم في تراجع العجز في الميزان التجاري بقيمة 4.56 مليارات دولار أو بنسبة 39% على أساس سنوي بسبب مساهمة فيروس كورونا في تقليل الواردات المصرية من السلع غير الأساسية، واعتمادها فقط على ما هو ضروري، مع زيادة الاعتماد على المنتجات الوطنية في تلبية احتياجات السوق المحلية.
وقد قفز حجم الصادرات غير البترولية خلال شهري يناير وفبراير بنحو 5% أو حوالي 140 مليون دولار لتسجل 4.393 مليارات دولار رغم تأثير فيروس كورونا على حركة التجارة العالمية بشكل عام.
وترجع هذه الزيادة إلى سيطرة صادرات الصناعات الغذائية والحاصلات الزراعية على نسبة كبيرة من إجمالي الصادرات التي لم تتأثر مع انتشار كورونا بسبب زيادة طلب الدول على المنتجات الغذائية والسلع الأساسية نتيجة زيادة الاستهلاك بشكل كبير عن المستويات الطبيعية. ومع مراقبة النمط الاستهلاكي منذ بداية ظهور الفيروس وحتى الآن، سنجد أنه قد تغير كثيرًا؛ إذ اندفع عدد كبير من الأفراد حول العالم إلى متاجر البيع بالتجزئة من أجل شراء كميات من الغذاء أكثر من احتياجاتهم الشخصية في الأوقات العادية لتخزينها خوفًا من نقص هذه السلع أثناء الأزمة.
ومما يُدلل على ذلك استحواذ عدد كبير من السلع الغذائية على قائمة الصادرات المصرية خلال فبراير مثل الخضروات والجبن والفواكه الطازجة والمخبوزات وقصب السكر وكذلك دقيق القمح. كما صدّرت مصر 68 ألف طن من البصل منذ سبتمبر الماضي، وانتعشت صادرات المنتجات الحمضية إلى الصين، وتحسنت صادرات البطاطس إلى الأسواق الأوروبية. وقد جاء ذلك نتيجة عدد من القرارات المهمة التي استهدفت إزالة العوائق القائمة، مثل: تسهيل عمليات النقل إلى الدول العربية والأوروبية، فضلًا عن استثناء السيارات التي تنقل الخضروات والفواكه من حظر التجوال، هذا إلى جانب تقديم القطاع المصرفي والبنك المركزي العديد من المبادرات الهادفة إلى تأجيل أقساط القروض الخاصة بالمزارعين ومربي الماشية لمدة 6 أشهر. كما قررت وزيرة الصناعة والتجارة “نيفين جامع” إعفاء الفاصوليا الخضراء والبازلاء والفول السوداني من المرسوم الذي يحظر تصدير البقوليات لمدة ثلاثة أشهر لتلبية الاحتياجات المحلية، مشيرة إلى تزايد الطلب المحلي والدولي على المواد الغذائية والمعدات الطبية ومنتجات التعقيم.
4- السياحة
تعتبر السياحة هي المصدر الثالث للعملات الأجنبية في مصر بعد كل من الصادرات غير النفطية وتحويلات المصريين العاملين بالخارج. وقد ارتفعت إيرادات القطاع السياحي خلال عام 2019 بنحو 67% لتصل إلى 13.03 مليار دولار، وهو المستوى الأعلى على الإطلاق الذي سجلته إيرادات القطاع.
ولكن من المرجح تراجع عائدات السياحة في ضوء تعليق حركة الطيران العالمية وإغلاق المتاحف والمواقع الأثرية. ولهذا قرر البنك المركزي، في الرابع والعشرين من مارس الماضي، تقديم قروض لمدة عامين وفترة سماح تصل إلى 6 أشهر لشركات السياحة، كما خصص حوالي 50 مليار جنيه لتمويل المنشآت السياحية.
5- إيرادات قناة السويس
سجلت قناة السويس أعلى إيرادات في تاريخها خلال العام المالي السابق 2018-2019 لتصل إلى 5.9 مليارات دولار، وهو ما يمثل زيادة بنحو 5.4% على أساس سنوي أو بحوالي 300 مليون دولار.
ولم تتأثر حركة الشحن البحري في قناة السويس بفيروس كورونا، حيث وصل عدد السفن التي مرت بالممر المائي في الاتجاهين إلى 6621 سفينة خلال مارس الماضي، بزيادة قدرها 4.6% على أساس سنوي. كما سجل الربع الأول من عام 2020 نموًا في عدد السفن بنسبة 8.4% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي. ويذكر أن قناة السويس تعتبر أسرع ممر للنقل البحري بين قارتي أوروبا وآسيا، كما أنها من أهم مصادر العملة الأجنبية للحكومة المصرية.
6- الاحتياطي النقدي
ساهمت كل العوامل سالفة الذكر في زيادة الاحتياطي النقدي الذي يعمل كحاجز أمان للجنيه المصري ضد الهبوط أمام العملات الأخرى؛ إذ ارتفع ليبلغ رصيد الاحتياطي النقدي خلال يناير الماضي 45.457 مليار دولار.
وتجلت أهمية هذا الرصيد في قرار البنك المركزي المصري باستخدام 5.4 مليارات دولار من احتياطات النقد الأجنبي خلال شهر مارس الماضي، وهو ما أدى إلى انخفاض الاحتياطي الأجنبي إلى حوالي 40 مليار دولار. وعلى الرغم من ذلك، لا يزال المتوسط الحالي للاحتياطي الأجنبي قادرًا على تغطية حوالي 8 أشهر من واردات مصر السلعية، وهو ما يؤكد أن ارتفاع هذا الاحتياطي عبر الثلاث سنوات الماضية إلى أكثر من 45 مليار دولار لأول مرة يعتبر أحد أسس استقرار الاقتصاد المصري، وتعزيز قدرته على استيعاب آثار الصدمات التي تعاني منها أكبر الاقتصادات العالمية.
في الختام، يُمكن القول إن الجنيه المصري لا يزال قادرًا على النجاة من تداعيات فيروس كورونا والضغوط التي تفرضها سرعة انتشاره، وحتى إن تأثرت قيمته مستقبلًا بشكل طفيف فلن تكون بنفس السوء الذي كان يتوقع أن تصل إليه في حالة عدم تنفيذ خطة الإصلاح الاقتصادي واتخاذ الدولة للإجراءات التي سبقت الإشارة إليها.