في خضم الانشغال العالمي بانتشار وباء فيروس كورونا وتداعياته، جاء تقرير مسح شفافية الموازنة الدولي، وبالتالي لم يأخذ حقه من الدراسة والتحليل رغم أهميته القصوى خاصة في هذا التوقيت.
إذ إنه يتزامن مع تزايد المطالب بزيادة الإنفاق العام خاصة على الجوانب الاجتماعية كالصحة والتعليم، فضلا عن البدء في مناقشة مشروع الموازنة العامة للدولة عن العام المالي 2020/2021 داخل البرلمان المصري. ويهدف التقرير الى قياس ثلاثة أمور تتعلق بالشفافية وإتاحة القدر الكافي من المعلومات عن الإنفاق العام ومصادر تمويله، بما يضمن المشاركة الفعالة من المجتمع في النقاش وتحديد أولويات هذا الإنفاق.
هذا فضلا عن أنه يحقق نوعين من الرقابة، الأولى دستورية حيث تعد الموازنة وثيقة سياسية وقانونية تخدم أهداف الرقابة الدستورية وتضمن المشاركة الفعالة من جانب جميع فئات المجتمع والثانية اقتصادية ومالية، وهو ما يتطلب بدوره المعرفة الكاملة بالأوضاع المالية. وبالتالي، الشفافية المطلقة في عرض بنود الموازنة ليس فقط للأغراض الاقتصادية، ولكن وهو الأهم من أجل المزيد من المساءلة السياسية أمام السلطات الرقابية والتشريعية والشعبية، حيث تعد الرقابة على المال العام أحد الأدوار الأساسية المميزة لجميع المجتمعات الحديثة، بل إن نشأة البرلمانات أساسا جاءت لتحقيق هذه العملية. ولذلك كان من الضروري العمل على تدعيم وتعزيز الرقابة المالية بصورة تجعلها قادرة على الحيلولة دون العبث بالمال العام أو إهداره، من هنا تأتى أهمية شفافية الموازنة باعتبارها من العوامل الضرورية التي تمكن مجلس النواب والمجتمع بوجه عام من مراقبة الحكومة ومحاسبتها. ويستلزم تحقيق الشفافية توضيح أهداف الموازنة وكذلك توزيع الإنفاق على البنود المختلفة بالإضافة إلى توفير بعض المؤشرات التي تساعد على متابعة الموازنة، فضلا عن ضرورة نشر المعلومات حول ما تم تنفيذه من أهداف الموازنة.
وهذه الأمور تتحقق عند صنع الموازنة وكذلك عند التنفيذ الفعلي لها. ففي المرحلة الأولى تطرح عدة تساؤلات عن مدى الاستجابة لاحتياجات المجتمع؟ ومدى العدالة في الإيرادات والنفقات؟ ومدى المساواة في الأعباء؟ وأخيرا مقدار الشفافية التي تتمتع بها؟ من هذا المنطلق تبرز أهمية الفهم التام والإدراك الكامل لهذه الأمور جميعا. ولهذا تشترط الشفافية توافر المعلومات الدقيقة في مواقيتها وإفساح المجال أمام الجميع للاطلاع عليها، ولذلك يجب أن تنشر بعلنية ودورية من أجل توسيع دائرة المشاركة والرقابة والمحاسبة ومحاصرة الفساد من جهة، والمساعدة على اتخاذ القرارات الصالحة في السياسة العامة من جهة أخرى.
وجدير بالذكر أن هذا هو المسح السابع في سلسلة هذه البحوث والتي تتم كل عامين منذ عام 2006 وحتى الآن، وأصبح يمثل مرجعا أساسيا لدى جهات التمويل الدولية والاسواق العالمية، ولذلك ارتفع عدد الدول المشاركة من 40 دولة عام 2006 الى 117 دولة عام 2019، ويحتوي على 145 سؤالا تشمل تقييم مدى توافر المعلومات المتعلقة بالموازنة للجمهور وتقييم فرصه في المشاركة في صنع الموازنة ودور الهيئات التشريعية والمؤسسية العليا لمراجعة الحسابات.
ومن الملاحظ أن هناك تقدما ملحوظا لوضع مصر في هذا التقرير فبينما حصلت على 16 نقطة من 100 عام 2006 ارتفعت الى 49 نقطة عام 2010، وهو أعلى مستوى وصلت إليه حتى الآن، إذ إنها حصلت على 43 نقطة عام 2019 ويرجع السبب في ذلك الى تأخر نشر البيان التمهيدي وموازنة المواطن في التوقيت المناسب. وهى مسألة يمكن تلافيها خلال الفترة المقبلة، خاصة في ظل التقدم الملحوظ في صنع الموازنة وميكنتها مع تطبيق نظام الميكنة الجديد GFMIS، هذا فضلا عن إنشاء وحدة الشفافية والمشاركة المجتمعية وتتبع وزير المالية مباشرة، والتي تعمل على نشر المفاهيم والثقافة المالية والإفصاح ومد جسور التواصل والمشاركة المجتمعية عن طريق إطلاق موقع إلكتروني تفاعلي خاص بموازنة المواطن وغيرها من الجهود في هذا الصدد.
ورغم هذه الجهود فأنها تحتاج الى بعض الأمور الإضافية منها إعادة النظر في عملية صنع وتخطيط وإعداد الموازنة وتنفيذها، مع ضرورة التحديد الواضح للأدوار لكل من السلطتين التشريعية والتنفيذية. على ان تتسم هذه العملية بالشفافية الكاملة في جميع مراحلها. وهو ما لن يتم إلا عبر انشاء «مجلس موازنة مستقل» ككيان وسيط بين السلطتين التشريعية ممثلة في مجلس النواب، والتنفيذية ممثلة في الحكومة، يناط به مراجعة المشروع كاملا قبل عرضه على البرلمان، واقتراح ما يلزم من تعديلات وإجراءات.
وهي الفكرة المطبقة منذ عقود في العديد من البلدان، حيث أنشئ أول مجلس في هولندا عام 1945 وفى الدنمارك عام 1962 وفى النمسا عام 1970 وفى الولايات المتحدة الامريكية عام 1974 إلا أن العدد الأكبر تم إنشاؤه عقب الازمة المالية العالمية عام 2008 وتوسعت البلدان في إيجاد هذا المجلس. وبعبارة أخرى فالأمر لا يقتصر على مجرد تحسينات في صنع الموازنة، وهي مهمة وضرورية، ولكن الأمور أعقد من ذلك. إذ إنه يسهم في تحديد أولويات الإنفاق العام وفقا للخطط التنموية وبما يعكس مصالح السواد الأعظم من المجتمع، وهي مسألة غاية في الأهمية في ضوء الواقع المصري المعاش، حيث إن مناقشة مشروعي الموازنة العامة للدولة وخطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، داخل البرلمان يشوبها العديد من أوجه القصور، بل ولا تحظى إلا بالنذر اليسير من المناقشات، التي تقتصر على المناقشة بين ممثلي الوزارات المختلفة مع وزارة المالية فيما يعد تكرار لما تم عند إعداد المشروع، ولذلك فإن مساهمة البرلمان في مناقشتها أو تعديلاتها محدودة للغاية. ويرجع السبب في ذلك إلى آليات صنع القرار داخل البرلمان، حيث لا يتم عقد جلسات استماع للخبراء والجهات المعنيّة، مثل اتحادات العمال والصناعات والغرف التجارية وضعف مشاركة المجتمع المدني والمنظمات الأهلية في النقاش والحوار حولها.
من هذا المنطلق يجب الحرص على إنشاء المجلس المستقل للموازنة، بحيث يتبع البرلمان مباشرة الأمر الذي يساعد على توسيع قاعدة المشاركة فيها بما يضمن له تحقيق الأهداف المنوطة به وعلى رأسها كفاءة السياسة المالية، والمتابعة الدقيقة للسياسات المطبقة لتقويم آثارها الاجتماعية والاقتصادية وتضمن المشاركة الفعالة من جانب جميع فئات المجتمع.
نقلا عن جريدة الأهرام، 20/5/2020