تعالت مع الأسف في الفترة الأخيرة موجة من النقد العنيف المنظم تجاه مؤسسة الأزهر الشريف، تمثلت في تحميله المسؤولية المباشرة عن انتشار الفكر المتطرف في المجتمع، وذلك لأسباب عديدة جاءت على لسان المنتقدين، كان أبرزها عدم قيامه بإصدار الفتاوى التي تكفر العناصر الخسيسة التي تقوم بالعمليات الإرهابية في مصر، وعدم قيامه بتنقية مناهجه حتى الآن مما علق بها من آراء وأفكار يرى البعض أنه يمكن تفسيرها على نحو متشدد، وعدم قيامه ببذل الجهد الواجب نحو قضية تطوير الخطاب الديني التي تمثل أحد أهم الأولويات الفكرية لدى الدولة في الفترة الأخيرة.
ومع كل التقدير والاحترام لكل الآراء، أرى أن تحميل الأزهر للخطايا الفكرية، والثقافية، والسلوكية التي يعاني منها مجتمعنا منذ فترة طويلة، فيه ظلم شديد لهذه المؤسسة العريقة.
فلطالما تربينا فكرياً وأخلاقياً على أيدى نخبة أجلاء من علماء الأزهر الشريف، فتعلمنا منهم كل ما يرتقى بفكرنا ويسمو بأخلاقنا، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: الشيخ الجليل عبد الحليم محمود، والشيخ محمود شلتوت، والشيخ محمد عبد الرحمن بيصار، والشيخ جاد الحق على جاد الحق، وجميعهم تركوا ورائهم تراثًا علميًا، وأدبيًا، واخلاقيًا رائعًا، يذخر بالرحمة والمحبة والتسامح، والعلم الحقيقي الذى يستحق أن نقتدى به ونبنى عليه. كما سار على نهجهم أيضًا الإمام الجليل الخلوق شيخ الأزهر الحالي د. أحمد الطيب، فهو شخصية علمية رفيعة المستوى، واسعة الخبرة، عميقة الثقافة، منفتحة على العصر ودارسة للفكر الإنساني ومحيطة بتياراته، وهو من المفكرين المستنيرين، الذين يعملون بإخلاص في سبيل نشر الفكر الديني الصحيح المبرأ من الغرض والهوى والغلوّ والتشدّد، وتشهد له بذلك عشرات المواقف التي لا يمكن أن تنسى لفضيلته في إدارته للأزمات، وفي مساعيه المتتالية لجمع كل الأطراف حول مائدة الحوار تحت قبة الأزهر. ولقد تمكن الإمام الأكبر منذ توليه أمانة المسئولية من إعادة الأزهر وعلمائه إلى مكانتهم التي يستحقونها، واستطاع اكتساب احترام وثقة كبار قادة العالم، فقد حقق فضيلته مكاسب جمة للأزهر من خلال زياراته الخارجية المتعددة لدول العالم شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا.. ونلاحظ أيضًا حرص قادة العالم السياسيين على زيارة مشيخة الأزهر ضمن برنامج زياراتهم لمصر، وأبرزهم على سبيل المثال: أمين عام الأمم المتحدة، والمستشارة الألمانية “ميركل”، ورئيس البرتغال وكافة الرؤساء الأفارقة والآسيويون. وفى خلال جولاته الخارجية زار فضيلة الإمام الأكبر عدة دول أوروبية منها فرنسا وإيطاليا والفاتيكان وسويسرا وألمانيا والبرتغال، وأعاد للغرب ثقته في الأزهر منبع الوسطية الدينية الإسلامية التي تناقض وتحارب الفكر الدموي للجماعات الإرهابية التي أساءت للإسلام كثيرًا، وبات العالم يدرك الدور المحوري للأزهر في مواجهة الإرهاب وترسيخ أسس السلام العالمي.
وامتدت جولات فضيلته من أوروبا إلى أفريقيا وآسيا لترسيخ مكانة الأزهر التي لم تهتز أبدًا في نفوس أبناء هذه الدول. وفى كل مكان كان يحل فيه شيخ الأزهر، كان يلقى استقبال زعماء الدول، ليس فقط من رؤساء تلك الدول ورؤساء وزرائها وكبار مفكريها، بل أيضا من أبناء الشعب الذين كانوا يلتفون حوله يرحبون به حاملين أعلام مصر ويغنون نشيد مصر الوطني، وقد رأينا ذلك في العديد من الفيديوهات الموثقة التي تجعل الدموع تفر من أعيننا من فرط جمالها ورونقها، ودلالة رسالاتها.
وقد تجلى هذا التأثير الكبير لفضيلة الإمام الأكبر في اختياره الشخصية الإسلامية الأكثر تأثيرًا في العالم لعامين متتاليين.
وقد كان لقاء فضيلة الإمام الأكبر مع حضرة البابا فرانسيس، بابا الفاتيكان، مرتين الأولى في القاهرة والثانية في روما عام 2018 من أبرز اللقاءات، باعتبارهما يمثلان أكبر مؤسستين دينيتين في العالم، وخلال اللقاءين كان العنوان الأهم هو التأكيد على العمل المشترك من أجل السلام الشامل بين جميع البشر.
وبالإضافة إلى أن الأزهر الشريف هو أيقونة ومنارة العلوم الدينية في الدول العربية والأفريقية والآسيوية، وفى العالم أجمع، فإنه يعتبر أيضًا مع الكنيسة المصرية حجرا الزاوية لجموع المواطنين في الاسترشاد بالعلوم والآراء الدينية والأخلاقية الصحيحة، كما يشكلان سويًا أحد أهم أدوات القوى الناعمة المصرية.
ويحضرني هنا أول مرة أزور فيها كيانًا تابعًا للأزهر الشريف، وكان ذلك خلال العام الماضي عندما تشرفت بإلقاء عدة محاضرات في ندوات رائعة نظمتها جامعة الأزهر داخل وخارج القاهرة، وبكل أمانة استمتعت للغاية بالمستوى العلمي والثقافي والسلوكي لجميع الحاضرين، سواء من السادة أعضاء هيئة التدريس أو الطلاب، وتركوا لدى انطباعًا شديد الايجابية عن هذه المؤسسة العريقة.
رفقاً بالأزهر يا سادة، فهو ليس مسؤولاً عن العديد من الخطايا التي ارتكبناها على مدى سنوات طويلة وكان لها الدور الرئيسي في انتشار الفكر المتشدد والمتطرف. فهو ليس مسئولًا بالتأكيد عن انهيار منظومتي التعليم والثقافة، ولا عن تراجع دور الأسرة في التنشئة الأخلاقية السليمة، ولا عن انتشار المناطق العشوائية كانتشار النار في الهشيم، وما نتج عنها من كوارث فكرية وسلوكية نعلمها جميعًا، ولا عن مهادنة وترك عناصر جماعة الإخوان الإرهابية تعمل بمنتهى الأريحية لعدة عقود في استقطاب وتجنيد الشباب، والأطفال لاعتناق أفكارهم الظلامية العفنة، وتجريدهم من أعظم نعمة حباها الله لبنى الإنسان وهى نعمة التفكير، وتحويلهم لمسوخ بشرية مغيبة قابلة للانفجار في أي وقت كما رأينا رؤى العين في السنوات الأخيرة.
وقد وصفت الكلمة التاريخية الرائعة التي ألقاها الإمام الطيب في القمة الإسلامية- الأمريكية بالرياض منذ 3 سنوات في مايو عام 2017، والتي حضرها عدد من كبار العلماء وزعماء الدول وقادة سياسيين ودبلوماسيين وشباب إلى جانب مفكرين وصناع رأي في مجال مكافحة الإرهاب من أكثر من 40 دولة، بالإضافة إلى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، توصيفًا دقيقًا لأصل مشكلة التطرف في الوقت الراهن بكل أبعادها، وسبل علاجها، على المستوى المحلى والإقليمي والدولي. وأرى أنه من المهم للغاية أن نسترجع معًا أبرز ما قاله فضيلته فيها، لأننا نحتاج الآن أكثر من أي وقت مضى أن نستحضر معانيها العميقة، وأن نعمل بها.
يقول الإمام الطيب في هذه الكلمة المهمة: “لننظُر أيهَا السَّادَة من حولنا، هل نجد لهذه الحُروب التي تأكلُ الأخضر واليابسَ من سببٍ غيرَ التَّنازعِ وما أدَّى إليه من فشلٍ وذهابِ رِيحٍ حذَّرنا منهما القُران الكريم! ولننظر كيف أنَّ الحربَ العالميَّةَ الأولى لم يَزِد عُمرها على سنواتٍ أربع، والحَربَ العالميَّة الثانية بدأت وانتهت في غضونِ سنواتٍ سِتٍّ. فكم من سَنَةٍ مضت الآن على الحرب التي اندلعت في منطقتِنا ولم يَخْبُ لها أوارٌ حتى الآن، وكلما أوشَكَت أن تكون وميضًا بُعثت من جديدِ لتكون أذكَى ضِرامًا مِمَّا كانت عليه… وإنه وإن كانت الفُرقة هي أصلَ الدَّاء وعِلَّتَه؛ فإنَّ أمانةَ الكَلِمَة تستوجِب أنْ أضم لهذا السَّبب سببا آخر يَستغلَّ جَوَّ الاختلاف أسوأ استغلالٍ، وهو: الأطماع العالميَّة والإقليميَّة التي لا تزال تُفكِّر بعقلية المُستَعْمِرين، أو عقلية الحالمين باستعادة ماضٍ قام على نزعة التغلب العِرقي والتَّمدُّد الطائفي، وإن كانت هذه الأطماع المريضة مما لا يُقرّها الدِّينُ ولا الخُلُق الإنساني، وتأباها المواثيق الدوليَّة، ويرفُضُها شُرفاء العالَم المتحضِّر وحكماؤه.”.
ويقول أيضا: “وإذا كُنَّا بصدد البحث عن أهم أسباب هذه الظواهر الغريبةِ على الإسلام والمسلمين وحضارتهم شكلًا وموضوعًا وتاريخا؛ فإني لا أرتابُ في أن موجةً عاتية من ثقافة الكراهية غَزَت عقولَ بعضٍ من شبابنا المُغرَّرِ بهم، وهيَّأتهم لتنفيذ خطَّةٍ خبيثةٍ أُحكِم نَسجُها فيما وراء البحار، بعد ما وَجَدَت في سياسات التَّعليم ومُخرجاتِه في بلادنا منافذ أو نقاط ضعفٍ نفذوا منها إلى تجنيد هؤلاء في يُسْرٍ وسهولة ولا أريد أن أتوقَّف طويلًا عند أزمة التعليم في عالمنا العربي والإسلامي، وإنما أكتفي بالقول بأنه تعليمٌ سمحت بعضُ مناهجه بالتوقُّف عند التراكمات التاريخية لنزعات الغلوِّ والتشدُّد في تراثنا، والتي نشأت من تأويلاتٍ وتفسيراتٍ منحرفة لبعض نُصُوص القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة وأقوال الأئمة، أستُغِلَّت في فَرزِ عقائد الناس وتصنيفهم لأدنى سبب أو ملابسةٍ، ودفعت أصحاب الفهوم المعوَجَّة إلى أقوال فقهية وعقدية قيلت في نوازل ارتبطت بفترة زمنية معيَّنة، واتخذوا منها نصوصًا محكمةً وثوابتَ قطعية تُحاكي قواطع الكتاب والسُّنَّة، وجعلوا منها معيارًا للتبديع والتفسيق ثم التكفير.”
وقد أكد الإمام في كلمته تلك على أهمية إعادة النظر في التعليم الديني، إذ يقول: “وإذا كنا قد اتفقنا على أن هذا الشباب إنما اختطف من بين أيدينا للأسباب التي ذكرناها، فعلينا أن نعترف في جِدِّية وشجاعة بوجوب إعادة النظر في التعليم ومناهجه بمختلف مراحله، وهذا يتطلب تنسيقًا جادًّا بين مسؤولي مؤسسات التعليم الديني ومسؤولي التربية والتعليم والجامعات، والثقافة والشباب والرياضة، لوضع إستراتيجية تعليمية متكاملة”. بالإضافة إلى تأكيده على أهمية مواجهة خطر الاستغلال السيئ لوسائل التواصل الاجتماعي، إذ يقول “آن الأوان لنفكر جميعا للبحث عن وسيلة توقِفُ هذا الإغراق التكفيري والمذهبي والطائفي والذي يسبح في الفضاء الإلكتروني بلا ضابط ولا رابط، وتردعَ التسابق المحموم في إفساد الشباب، وتمنع المدّ التخريبي الذي يمهِّد لسياسات الاستعمار الجديد ومشاريع التقسيم والتجزئة وإذلال الشعوب.”
.. حقيقة ما أبلغها من كلمات أصاب بها شيخ الأزهر الجليل كبد الحقيقة بمنتهى الأمانة والموضوعية، لذا أرجو أن يكون الحوار فيما يخص الأزهر الشريف في المستقبل موضوعيًا وأمينًا ومهذبًا، وبما يتوافق مع قواعد وآداب الحوار التي تعلمناها صغارًا، وبعيدًا عن الصراخ، والتشنج، والتعصب والتطاول، لأن مكانة الأزهر العالية ستبقى محفورة إن شاء الله في قلوب الملايين من محبيه في جميع أنحاء العالم بمداد من ذهب إلى يوم الدين.. شاء من شاء، وأبى من أبى، ولا يمكن أبدًا أن تخدش هذه المكانة أي كلمات جاهلة أو متنطعة.
إن دعم جهود الأزهر الشريف ومساندة رسالته السمحة، ليبقى دائماً حصناً منيعاً من حصون مصر المحروسة، هو أحد أهم متطلبات الأمن القومي، وأحد أساسيات تحقيق الصالح العام لبلادنا الغالية، وواجب مشترك لا يحتمل أي لبس بين كل المسئولين والمواطنين، فيجب علينا جميعًا أن نحرص على تحقيق ذلك.
حفظ الله بلادنا الغالية من كل مكروه وسوء.
نقلا عن جريدة فيتو، الإثنين 18 مايو 2020.