عرفت العلاقات الدولية ما اُصطلح على تسميته المبدأ أو “العقيدة السياسية” لبعض القيادات التي لعبت دورا مؤثرا في السياسات الدولية والإقليمية. كان هناك على سبيل المثال “مبدأ مونرو” Monroe Doctrine الذي صاغه الرئيس الأمريكي جيمس مونرو في ديسمبر 1812 والذي قام على رفض الوجود الاستعماري الأوروبي في الأميركتين، وعدم التدخل الأمريكي في الشئون الداخلية الأوروبية، واعتبار أي محاولة أوروبية لفرض نظام سياسي بعينة على أي من دول الأميركتين بمثابة خطر وتهديد للأمن الإقليمي. من ذلك أيضا “مبدأ ويلسون” Wilson Doctrine الذي صاغه الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون في يناير 1918، والذي تضمن 14 مبدأ فرعيا كان لها تأثيرها على السياسات العالمية بعد الحرب العالمية الأولى، بما في ذلك حريات التجارة والملاحة، وسباق التسلح، وحقوق الأقليات.. إلخ، وصولا إلى “مبدأ ترامب” أو “أمريكا أولا”، الذي قام على إعطاء الأولوية للمصالح الأمريكية في علاقاتها مع العالم الخارجي والنظام العالمي، وإعادة النظر في حجم وطبيعة الالتزامات الخارجية بما في ذلك تجاه الحلفاء. ولا يقتصر تطور مثل هذه المبادئ على الرؤساء الأمريكيين، فقد درج رؤساء الصين أيضا على طرح عقائدهم السياسية التي مثلت “بوصلة” الحركة الصينية على المستويين الإقليمي والعالمي. الأمر ذاته فيما يتعلق بالقوى الإقليمية.
طَرْحْ مثل هذه المبادئ أو العقائد السياسية قد يتم بشكل معلن ومباشر (حالة مبدأي مونرو، وويلسون اللذان أُعلن عنهما من داخل الكونجرس الأمريكي) وقد تتطور في بعض الحالات الأخرى بشكل ضمني وغير مكتوب، حيث يصبح استخلاصها مهمة دارسي العلاقات الدولية. لكن يظل القاسم المشترك فيما بينها أنها تتطور في ظل مراحل انتقال أو تحول ضخمة في السياسات العالمية أو الإقليمية، لتلعب دور الضابط للسياسات الخارجية للدولة ونمط علاقاتها مع النظامين الإقليمي أو العالمي، بل وصياغة السياسات العالمية في بعض الحالات. كما يُشترط للقول بوجود هذا “المبدأ” أن يتسم بالتماسك والانسجام، بمعنى عدم التناقض بين مكوناته، من ناحية، وعدم الازدواجية في التطبيق، من ناحية أخرى؛ فإذا كان “مبدأ” ما يُعنى ببناء السياسات الإقليمية للدولة وعلاقتها بالإقليم، فيجب أن تخضع جميع سياساتها تجاه الإقليم لهذا المبدأ دونما تمييز بين وحداته أو قضاياه.
متابعة الخطاب السياسي للرئيس السيسي بشأن العلاقة مع الإقليم والعالم خلال ست سنوات منذ توليه السلطة في يونيو 2014 تسمح بالقول بتطور مبدأ أو “عقيدة السيسي” Al Sisi Doctrine. لم يتم طرح هذه “العقيدة” بشكل مباشر وصريح، لكنها تظل حاضرة في السياسة الخارجية للدولة المصرية تجاه الإقليم، وعلاقاتها مع القوى الكبرى. ويمكن هنا طرح أربعة مكونات أساسية في هذه العقيدة.
المكون الأول، أولوية حماية الدولة الوطنية والحفاظ عليها، باعتبارها الركيزة الأساسية للأمن القومي والأمن الإقليمي معا، بل والأمن العالمي. القاسم المشترك بين السياسات المصرية تجاه أزمات سوريا واليمن وليبيا هو الانحياز الصريح لأولوية الحفاظ على الدولة الوطنية، وأن إعادة بناء هذه الدولة ووضعها على مسارها الطبيعي يظل هو المنهج الأكثر فعالية لتسوية هذه الأزمات، بما يتضمنه ذلك من بناء/ إعادة بناء مؤسسات الدولة -وعلى رأسها الجيش- على أسس وطنية تتجاوز الانتماءات الطائفية والعرقية. وبما يتضمنه ذلك من عدم وقوع الدولة أسيرة تنظيمات دينية أو ميليشيات عسكرية. لقد اكتسب هذا المكون مصداقيته في “عقيدة السيسي” على خلفية الدور الذي لعبه في حماية الدولة المصرية واستعادتها من قبضة الإخوان المسلمين وحلفاؤهم من خلال الانحياز لثورة يونيو 2013، ثم العمل على “تثبيت” مؤسسات الدولة بعد الثورة.
المكون الثاني، هو عدم التدخل في الشئون الداخلية. لا ينسحب ذلك على السياسة المصرية في الإقليم فحسب، لكنه ينسحب كذلك على الموقف من سياسات القوى الكبرى والقوى الإقليمية، واعتبار هذا التدخل جزء من أزمة الإقليم وليس جزءا من الحل. وقد اكتسب هذا المكون مصداقيته عبر تأكيد الالتزام به حتى فيما يتعلق بالأزمة الليبية التي ترتبط ارتباطا مباشرا بالأمن القومي المصري؛ فمع خصوصية المسألة الليبية بالنسبة لمصر، لكنها لم تنتقل من دعم عملية بناء المؤسسات الوطنية الليبية وتسهيل التسوية السياسية إلى التدخل في الشئون الداخلية الليبية. ويرتبط بهذا المكون رفض عسكرة السياسة الخارجية إلا في حالة وجود تهديد واضح للأمن القومي.
المكون الثالث، هو ما يمكن وصفه بالتمسك بأخلاقية السياسة الخارجية، وهي مسألة موضوع جدل قديم. البعض يذهب إلى أنه لا أخلاق في السياسة بشكل عام، والعلاقات الدولية بشكل خاص، وأن الأمر عندما يتعلق بالمصالح فلا مجال للقواعد الأخلاقية. السيسي ينتصر لوجهة نظر أخرى تقول بأن العلاقات الدولية يجب أن تحكمها القواعد الأخلاقية أيضا، وأنه يمكن للدولة تحقيق مصالحها في إطار من الالتزام بالقواعد الأخلاقية.
المكون الرابع، المهم، أن الموارد الإقليمية يمكن أن تكون موضوعا للتعاون أكثر منها موضوعا للصراع. يعكس ذلك بوضوح الموقف المصري من قضيتي سد النهضة الإثيوبي وغاز شرق المتوسط. في الأول، لازال السيسي يرى أن السد يمكن أن يكون موضوعا للتعاون الإقليمي طالما التزمت الأطراف بقواعد عدم الإضرار المتبادل، وفي الثانية نجح في بناء شبكة للتعاون الإقليمي حول الغاز.
هذه بعض المكونات الأساسية لمبدأ أو “عقيدة السيسي” التي تطورت خلال السنوات الست السابقة، والتي يمكن استنتاجها من الخطاب السياسي للرئيس عبد الفتاح السيسي. ربما لا تكون هذه المكونات هي المكونات الوحيدة في هذه “العقيدة”، لكنها تمثل المكونات الأكثر وضوحا. هذه العقيدة تمثل بلا شك المدخل والشرط الأكثر فعالية لبناء إقليم مستقر وتوزان أكثر استدامة بين مصالح القوى الإقليمية.
نقلا عن جريدة الأهرام، 7 يونيو 2020.