يمثل قانون العقوبات الأمريكية المعروف باسم قيصر الخاص بسوريا، والذي سيبدأ العمل به فى 17 يوليو الجارى نموذجا فريدا من القوانين التى يصدرها المشرعون الأمريكيون بحق دول أخرى، بهدف تحويل حياة شعوبها ومؤسساتها ورجال الحكم والاقتصاد والدفاع فيها إلى جحيم، قد يقود حسب تصور مؤيدى القانون إلى تآكل النظام من داخله وينتهى به الأمر إلى الاختفاء. وهو ما تأمله دوائر أمريكية عديدة تشاركها فى بذلك إسرائيل، أو أن يتنازل النظام السورى ويقبل بالشروط الواردة فى صلب القانون، ومن بينها تقييد علاقاته مع روسيا وإيران ووكلائهما المحليينن، وبذلك يتحقق هدف الانصياع وتغيير سياسات النظام بإرادته تحت المظلة الأمريكية.
منهج العقوبات الذى تبرع فيه الولايات كأسلوب لفرض إرادتها عالميا ليس جديدا، وهناك قانون للعقوبات طُبق منذ 2014 عنوانه “محاسبة سوريا”، وبالرغم مما فيه من عقوبات اقتصادية وقيود على حركة الحكومة السورية ورموزها، إلا أنه مقارنة بقانون قيصر الجديد يُعد أكثر تسامحا الى حد بعيد. ويتجلى تفرد “قانون قيصر” فى عدة سمات؛ أولها الملابسات التى أحاطت بصدوره وأدت إلى حماس المشرعين الأمريكيين من الجمهوريين والديمقراطيين معا لتبنى هذا القانون القاسى، والتى تعود إلى هروب أحد المصورين السوريين ومعه آلاف الصور قيل أنها توثق عمليات تعذيب لعدة آلاف من المعتقلين فى السجون السورية، قدمها إلى السلطات الأمريكية بهدف الضغط على النظام. وليست هناك أية معلومات عن هذا المصور المجهول، ولا الطريقة التى هرب بها من داخل سوريا وصولا إلى واشنطن، فضلا عن إمكانية التشكيك ولو نظريا فى أصالة الصور، لكن فى النهاية تم تبنى القانون تحت مسمى “قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين لعام 2019″، باعتباره يُقر معاقبة منتهكى حقوق الإنسان من المسئولين السوريين أو حلفائهم.
ثانيا، صدر القانون مدرجا في قانون موازنة الدفاع السنوية، ما يفرض متابعة تطبيقه من كل مؤسسات الدولة الأمريكية ذات الصلة. وثالثا يتميز القانون بالشمول والقسوة، إذ يتوجه إلى الأفراد والمؤسسات فى الداخل السورى، وأيضا الدول والمؤسسات الداعمة للحكومة السورية أيا كانت، ووفقا للقانون ستعاقب أي شركة عالمية أو فرد يستثمر في قطاعي الطاقة سواء النفط أو الغاز، أو الطيران وكل من يزوّد الخطوط الجويّة السورية بقطع غيار وصيانة، وكل من يقدم ديوناً أو مساعدات للنظام. وستشمل العقوبات مصرف سوريا المركزي، وتتضمن العقوبات على الأفراد تجميد الأصول ومنع دخولهم إلى الولايات المتحدة. ورابعا يُستثنى تطبيقه على مناطق شمال شرق سوريا ذات الحكم الذاتى والغالبية الكردية والمحتلة من قبل الجيش التركى والجماعات الإرهابية الموالية، وخامسا يشتمل أيضا على مجموعة من الشروط التى يُطلب من النظام السورى الالتزام بها إذا أراد أن يتقى شر العقوبات، أى أن سوريا شعبا ونظاما أمام خيارين؛ إما تحمل العقوبات وقسوتها والعزلة عن العالم وفقدان الأصدقاء ومزيد من الخراب والجوع، وإما الانصياع للشروط الأمريكية، وأبرزها العودة إلى العملية السياسية وتطبيق القرارات الدولية، ومشاركة المعارضة فى الحكم الجديد، والامتناع نهائيا عن أى تحرك يؤدى الى انتهاك حقوق الإنسان، مثل قصف المدنيين، ورفع الحصار عن المناطق المحاصرة، والسماح بمرور المساعدات الإنسانية، وإطلاق سراح كل المعتقلين السياسيين. كما يضع القانون مجموعة من الخيارات غير الإلزامية أمام الرئيس لفرض عقوبات على كبار المسئولين السوريين فى الحكومة والجيش والأجهزة الأمنية، وفقا لتقديرات البيت الأبيض.
قانون قيصر بشقيه يُعد نقلة كبرى فى السياسة الأمريكية تجاه سوريا، بغض النظر عن من يحكم فى البيت الأبيض، إذ يجسد سياسة الدولة الأمريكية التى توظف العقوبات الشاملة لتغيير النظام السورى من جهة، وضع حد للدورين الروسي والإيرانى فى الازمة السورية ككل من جهة ثانية، ويضع سقفا متدنيا جدا أمام طموحات شركات البلدين فى العقود المحتملة لإعادة إعمار سوريا، والتى يصعب البدء فيها من قبل أى طرف دولى آخر خشية التعرض للعقوبات الأمريكية كمصادرة الاموال وتجميد الارصدة المالية ومنع التعامل مع الحكومة الأمريكية.
سياسيا يعيد القانون الاعتبار نظريا مرة أخرى إلى العملية السياسية تحت مظلة الأمم المتحدة وليس برعاية روسية منفردة أو بمشاركة مع إيران وتركيا. اما عمليا فتلك قصة أخرى تتطلب التشاور مع روسيا. ويعطى القانون دفعة لقوى المعارضة السورية بعد أن تراجع دورها فى العامين الأخيريْن، ويضع روسيا أمام معضلة كبرى، إذ استثمرت كثيرا فى دعم الحكومة السورية سياسيا وعسكريا واقتصاديا، ولكنها مُعرضة الآن لعقوبات أمريكية إذا رأى الأمريكيون أنها تقدم دعما لسوريا يعين حكامها على انتهاك حقوق السوريين، أو أن إحدى شركاتها تستثمر فى مجالات النفط والطاقة والأدوية والسلاح مع سوريا. وفى كل الأحوال فإن كل التعاملات حكوميا أو من خلال شركة خاصة مع البنك المركزى السورى تُعد مجالا محتملا للعقوبات الأمريكية، وهو ما يقيد كل الجهود العربية والدولية التى تُبذل من أجل الانفتاح على سوريا والبدء فى إعمار ما تهدم فى سنوات الحرب.
ويزعم مشرعو القانون أنه مُوجه للمسئولين ومتخذى القرار سواء السياسيين أو مديرى الشركات أيا كان حجمها، كبيرا أو صغيرا، ولكنه فى التطبيق ستمتد أثاره إلى المواطن السورى العادى الذى فقد الكثير من أسس الحياة الطبيعية، وهو ما ظهرت بوادره فى انخفاض قيمة الليرة السورية أمام الدولار ستة أضعاف، والارتفاع الهائل فى الأسعار، وندرة المواد الغذائية واختفاء بعضها تماما، وإغلاق مصانع لاسيما فى مجال الدواء بسبب عدم توافر المادة الخام المستوردة من الخارج، وجمود عمل الشركات التى بدأت فى إعادة إعمار بعض المناطق المهدمة، وارتفاع البطالة إلى مستويات غير مسبوقة وتوقف عمليات تأهيل بعض حقول النفط التى تضررت من الأعمال العسكرية. ومع تردد الدول الصديقة فى تقديم المساعدات التنموية، سوف يزداد وضع المواطن قتامة سواء يعمل فى جهة حكومية أو لديه مورد خاص. وصدق من قال إن “قانون قيصر” هو نوع صارخ من الإرهاب الاقتصادى.
نقلا عن مجلة الأهرام العربي، السبت 13 يونيو 2020.