انطلقت أمس الأربعاء 9 سبتمبر انتخابات إقليم التيجراى رغم قرار الحكومة الفيدرالية الاثيوبية والمجلس الوطني للانتخابات تأجيل الانتخابات على المستوى الفيدرالي التي كان مقررا لها مايو من العام الجاري، لمدة عام بسبب تفشي وباء كورونا المستجد، وقرار البرلمان الفيدرالي استمرار آبى أحمد رئيسا للوزراء لمدة عام ولحين إجراء الانتخابات الجديدة. قرار حكومة التيجراى الإقليمية التي تسيطر عليها الجبهة الشعبية لتحرير تيجراى كحزب حاكم يمثل تحديا لسلطة الحكومة الفيدرالية، ولسلطة آبى أحمد رئيس الوزراء شخصيا، وتنظر إليه دوائر غربية، خاصة البريطانية والأمريكية، باعتباره خطوة قد تنطوي على مخاطر تفكك الدولة الإثيوبية، إذ قد يؤدى إلى برلمان إقليمي وحكومة متشددة تطالب بالانفصال عن الدولة، وتشجع بالتالي مطالب عرقيات وأقاليم أخرى للسير على النهج ذاته.
قصة أقلية التيجراى تتضمن الكثير من الجوانب المثيرة سياسيا والمليئة بالدروس، لاسيما بعد انتهاء حكم ديسالين وتولى آبى أحمد رئاسة الوزراء في أبريل 2018، واتخاذه عددا من الخطوات المُسماة بالإصلاحية والتي في ظلها اسُتهدف رموز الجبهة الشعبية لتحرير التيجراى بتهم الفساد واستغلال السلطة، وهي التي اعتادت الحكم والسلطة والنفوذ والتحكم في مؤسسات الدولة، لا سيما الجيش والشرطة الفيدرالية والمؤسسات العامة، أكثر من ثلاثة عقود، رغم أن أقلية التيجراى العرقية لا تمثل سوى 8 الى 10 في المائة من إجمالي سكان البلاد.
إذا ما جرت انتخابات التيجراى، ولم يعطلها شيء ما، سيظل الأمر مثيرا للجدل حول مدى شرعيتها القانونية، وهل ستقبل الحكومة الفيدرالية التعامل مع نتائجها، أم ستظل على موقفها أنها انتخابات باطلة وما ينتج عنها هو باطل بالضرورة. في الحالتين هناك معضلة قانونية ستفرض نفسها، وأهم جانب لها هو أن نجاح التيجراى في إتمام الانتخابات سيؤكد بدوره عدم مشروعية تأجيل الانتخابات الفيدرالية من جانب، وفى الآن نفسه عدم مشروعية تمديد رئاسة آبى أحمد للوزراء، ومعضلة سياسية قانونية بهذا الشكل تجسد حالة تمرد على السلطة الفيدرالية من شأنها أن تفصل بين الشأن الفيدرالي والشأن الخاص بالأقاليم العرقية، ما قد يُحفز أقاليم أخرى على اتباع النهج ذاته لاحقا لأسباب تتعلق برفضها ما يعرف بإصلاحات آبى أحمد، ونزعته الفردية في السلطة، أو لاستمرار شعورها بالتهميش السياسي على المستوى الفيدرالي، ولغياب التعويضات المناسبة عن مظالم عرقية سابقة لاسيما التي تمت في عهد ميليس زيناوى، وما زالت تشكل مظلمة كبرى لكثير من العرقيات كالأورومو والصوماليين وشعب سيداما وشعب ولايتا في الجنوب. والمهم أن هذا الفصل بين المستويين الفيدرالي والإقليمي العرقي لا يعنى بالضرورة أنه سيقود مباشرة إلى انفصال الإقليم وتشكيل دولة مستقلة، فتفكك إثيوبيا ليس مقبولا إفريقيا أو دوليا، لاسيما إن انطوى الأمر على عمليات عنف ومواجهات بين السلطات الفيدرالية وتلك المحلية الإقليمية. ولنفي تهمة السعي وراء الانفصال أكد حاكم إقليم التيجراى على بقاء الإقليم ضمن حدود الدولة، ولكن اتمام الانتخابات وفقا له بمثابة دفاع عن الحكم الذاتي وحق تقرير المصير، وهما أمران تعتبرهما الجبهة الشعبية لتحرير التيجراى مُعرضان للخطر في ظل سياسة آبى أحمد الخاصة ببناء دولة موحدة وقوية حسب تعبيراته، وهى السياسة التي تستفز كثيرا من الأقليات العرقية، إذ ترى فيها سياسة أبوية تلغى التمايزات العرقية وتخضعها لسلطة فردية استبدادية تخالف الدستور الإثيوبي الذي أسس لدولة فيدرالية مراعيا التمايز العرقي.
في الآن نفسه فإن استمرار تحدى إقليم التيجراى للسلطة الفيدرالية يكشف عن ضعف الأخيرة، وهنا تتراوح وسائلها لمواجهة هذا التمرد السياسي؛ إما بالمواجهة الأمنية وبالقوة المسلحة، كما حدث مع مطالب شعب ولايتا والارومو في فترات سابقة، وهو باب سيفتح الكثير من المشكلات ولن يتم إغلاقه بسهوله وغالبا سيزيد الاحتقان السياسي في البلاد. وإما بالمواجهة القانونية والدستورية وهذه قد تدعم مطلب التيجراى في الانفصال، أو مزيد من الحكم الذاتى استنادا الى أن الدستور الإثيوبي يعترف بحق الأقليات العرقية بحق تقرير المصير، لكنه حق لم يُطبق من قبل، ولا ينتظر من الحكومة الفيدرالية أن تقبل الأمر بسهولة، لما في ذلك من مخاطر تفكك فعلية ولو تدريجيا.
الحالة الإثيوبية على هذا النحو، واستنادا الى مواجهات عرقية سابقة بين الأورومو ما بين 2015 إلى 2018، راح ضحيتها المئات واعتقال أكثر من عشرة آلاف أرومى، وهم يشكلون حوالى 40 في المائة من إجمالي السكان، وضغوط فيدرالية قوية تُمارس على أقليات أخرى أقل عددا مثل سيداما و ولايتا، وهى أقليات تطالب بحقها في تشكيل أقاليم خاصة بها وترفضها الحكومة الفيدرالية، يعنى أن تجربة الحكم الفيدرالي وفق أسس عرقية وأقاليم متمايزة معرضة لتحولات درامية في حال استمر تجاهل السلطات الفيدرالية لحالات التهميش السياسي والاقتصادي لعرقيات كاملة، وهو ما ناقشته بعمق دراسة نشرتها مجلة “الفورين أفيرز” الامريكية يوليو الماضي، من خلال عمل مقارنة بين وضع دولة يوغسلافيا بعد انهيار الحكم الماركسي فيها، ثم تفككها إلى عدة دول كصربيا وكوسوفو وكرواتيا، وبين الحالة الإثيوبية ذات الفيدرالية العرقية. ووجه التشابه يكمن في أن الحالتين أسُستا على تمايز عرقي تم إدماجه في كيان فيدرالي، والفارق المهم الذي أشارت الدراسة يكمن في أن عرقيات يوغسلافيا كانت في الأصل كيانات مستقلة، لكن عرقيات اثيوبيا لم تكن كيانات ودول مستقلة، بل ضُمت إلى إثيوبيا من خلال حملات توسع عسكرية حدثت في ظل حكم الإمبراطور هيلاسيلاسى ومن سبقه. ورغم أهمية هذا الفارق الذي أسهم في تفكك يوغسلافيا من خلال نهج دموي إلى ثلاث دول، فإنه لا يحول حسب الدراسة دون تفكك السلطة الفيدرالية الاثيوبية في حال توافرت شروط مثل التحول السياسي السريع نحو سلطة فوقية أو حريات واسعة، وعدم المعالجة الجذرية لتهميش أقليات متوسطة الحجم أو صغيرة الحجم سكانيا، واستمرار فساد السلطات الفيدرالية ونمط القهر الأمني الذي يُمارس ضد المطالبين بحقوقهم الجماعية. ومغزى الدراسة والتي تقدم نصائح وتحذيرات للسلطات الفيدرالية الإثيوبية، أن النموذج الفيدرالي الإثيوبي ينطوي على عناصر خلل هيكلية هى التي قد تدفع إلى انهياره تدريجيا، وليس أسباب خارجية أو مؤامرات كالتي دائما تلجأ اليها السلطات الفيدرالية لتبرير عمليات القمع الكبرى ضد الناشطين من الأقليات المختلفة. والملفت للنظر هنا أن الحرص الذي تبديه دوائر أمريكية وأوربية على تماسك اثيوبيا وعدم وقوعها في فخ المواجهات العرقية الموسعة، لا يتجاوز النصائح العامة التي لا تقابل إلا بالتجاهل التام.