يُنظر إلى التغيرات المناخية على أنها واحدة من أكبر التهديدات التي تواجه العالم في الآونة الأخيرة، وذلك بسبب تأثيراتها الواضحة على جميع الأنشطة البشرية والاقتصادية، وما يمكن أن تسفر عنه أزمة المناخ من زيادة في مخاطر الجوع وسوء التغذية، ورفع عدد الفقراء حول العالم، فضلًا عن تهديد حياة الملايين من الأفراد، وزيادة أعداد الوفيات الناجمة عن الكوارث الطبيعية مثل حرائق الغابات.
ورغم أهمية هذه القضية على جميع الأصعدة، إلا أن الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” طالما قلل من أهميتها، وتجاهل ضرورة وضعها على قائمة أولوياته منذ توليه منصب الرئاسة. وبناء على ذلك، اتخذ “ترامب” العديد من القرارات التي تصب في نهاية المطاف في الابتعاد عن السياسات الهادفة للحد من التغيرات المناخية وتداعياتها السلبية. وقد أشارت بعض التقديرات إلى أن تراجع “دونالد ترامب” عن قوانين حماية البيئة ومواجهة التغير المناخي سيؤدي إلى ضخ حوالي 1.8 مليار طن إضافي من غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي حتى عام 2035، ويختلف موقف الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” عن موقف منافسه “جو بادين” جذريًا، حيث يضع “بايدن” قضية التغيرات المناخية على رأس أولوياته، وهي أيضًا إحدى أهم القضايا محل الاهتمام لدى الحزب الديمقراطي. ويهدف هذا المقال إلى عقد مقارنة بين سياسات الرئيس “دونالد ترامب” والمرشح الديمقراطي للرئاسة “جو بايدن” تجاه تلك القضية والتكلفة الاقتصادية المترتبة على كلا التوجهين على اقتصاد الولايات المتحدة الأمريكية.
الاقتصاد الأخضر والاستثمار في الطاقة النظيفة بالولايات المتحدة
أشارت دراسة أجرتها جامعة لندن إلى أن الاقتصاد الأخضر في الولايات المتحدة يدر إيرادات تزيد على 1.3 تريليون دولار سنويًا، وهو ما يمثل 16.5 ٪ من الاقتصاد الأخضر العالمي، كما أنه يُعد مصدرًا رئيسيًا للوظائف، حيث يعمل فيه ما يقدر بنحو 9.5 ملايين شخص.
ولهذا، أكد العديد من الخبراء على أهمية الاستثمارات الخضراء بالنسبة لأكبر اقتصاد في العالم من حيث النمو الاقتصادي والتوظيف، مشددين على ضرورة تراجع الرئيس “دونالد ترامب” عن ضخ المزيد من الاستثمارات في صناعة الوقود الأحفوري، الأمر الذي لا يتوافق مع الاتجاهات العالمية للحد من التغير المناخي، مما قد يؤدي إلى الإضرار بالاقتصاد الأمريكي. وعلى الرغم من دعوات “ترامب”، إلا أن الاستثمارات في الطاقة المتجددة شهدت تزايدًا ملحوظًا خلال السنوات القليلة الماضية، وتم دعم الاستثمارات الجديدة من خلال شركات طاقة الرياح والطاقة الشمسية. وفيما يلي عرض لتطور الاستثمار في الطاقة المتجددة على أساس فصلي.
الشكل (1): الاستثمارات الأمريكية في الطاقة المتجددة (مليار دولار)
Source: Bloomberg NEF, Renewable Investment.
يتضح من الشكل السابق أن الاستثمارات الأمريكية في الطاقة المتجددة والنظيفة شهدت ارتفاعًا ملحوظًا على مدار السنوات الأربع الماضية؛ إذ بلغ 7.5 مليارات دولار في الربع الأول من عام 2015 ليرتفع إلى 17 مليار دولار بحلول الربع الرابع من عام 2019، وهو ما يمثل ارتفاعًا قدره 126%.
رؤية “ترامب” حيال التغيرات المناخية
بدأ الرئيس “ترامب” على مدى السنوات الثلاث ونصف الماضية في اتخاذ عدد غير مسبوق من قرارات التراجع عن الالتزام بسياسات مكافحة تداعيات التغير المناخي وإلغاء أو تأجيل معظم الإجراءات التنظيمية والتنفيذية المتعلقة بهذه القضية. وفي الوقت ذاته، اقترحت إدارته إجراءات جديدة لتسريع عملية استخراج وإنتاج الوقود الأحفوري، وهو الأمر الذي يُمكن أن يؤثر سلبًا على الاقتصاد الأمريكي في الأجل الطويل.
ولعل أبرز الخطوات التي اتخذها “ترامب” في هذا الأمر تتمثل في الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، وهي الاتفاقية التي وقعها عدد كبير من الدول لتقليل انبعاثات الوقود الأحفوري، حيث أخطرت الحكومة الأمريكية الأمم المتحدة رسميًا في نوفمبر 2019 بانسحابها من الاتفاقية، لتكون بذلك القوة الاقتصادية الوحيدة الخارجة عن المعاهدة المناخية. وحاول وزير الخارجية “مايك بومبيو” تبرير هذه الخطوة بأن الاتفاقية تفرض أعباء اقتصادية على الولايات المتحدة، كما تفرض المزيد من القيود على العمال الأمريكيين والشركات ودافعي الضرائب بسبب الالتزامات الأمريكية بموجب الاتفاق.
علاوة على ذلك، تعهد “ترامب” في الكثير من الأحيان بضرورة تشجيع الإنتاج المحلي للوقود الأحفوري وخفض الضرائب المفروضة على منتجيه، مع إلغاء أي قواعد تقيد إنتاج الولايات المتحدة للطاقة من أجل تقديم المزيد من الحوافز لزيادة حجم الإنتاج دون أخذ مدى تأثير ذلك على التغيرات المناخية أو ارتفاع التكلفة المجتمعية لإنتاج الكربون في الاعتبار.
بالإضافة إلى ذلك، رفض “ترامب” تشريعًا يهدف إلى الحد من الملوثات فائقة الدقة الصادرة من مكيفات مثل الهيدروفلوروكربون (HFCs)، وهي غازات تتسبب في تفاقم مشكلة الاحتباس الحراري. وفي عام 2019، اقترحت الإدارة الأمريكية إلغاء المعايير التي تطالب شركات النفط والغاز بمراقبة وإصلاح تسرب غاز الميثان من المعدات الجديدة، وقدرت إحدى المنظمات البيئية حينذاك أن هذا القرار سيؤدي إلى ارتفاع انبعاثات الميثان بنحو 5 ملايين طن متري سنويًا.
وقد استمر “ترامب” على هذا المنوال حتى مارس 2020 حينما قرر تخفيف بعض القواعد المُصدرة منذ عام 2012 والتي تتطلب من صانعي السيارات إنتاج مركبات أكثر كفاءة في استهلاك الوقود، وهو الأمر الذي من المرجح أن يزيد من انبعاثات الغازات الدفيئة بمقدار 654 مليون طن متري خلال فترة تتراوح بين 2021-2035، وهو ما يُعادل إضافة 140 مليون سيارة أخرى إلى الطريق.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه السياسات قد انعكست على مقترح ميزانية الولايات المتحدة المٌقدم في فبراير 2019 لتقليل حجم الإنفاق المخصص لتطوير البرامج الفيدرالية لتطوير الطاقة النظيفة. وتمثلت أهم التخفضيات في تقليل الأموال المخصصة لمكتب كفاءة الطاقة والطاقة المتجددة (Office of Energy Efficiency and Renewable Energy) بنحو 87% إلى 343 مليون دولار في ميزانية العام الجاري. وفي الوقت ذاته، اقترح البيت الأبيض زيادة قدرها بنسبة 12% في الأموال المخصصة لأبحاث الطاقة الأحفورية لتبلغ 562 مليون دولار.
برنامج “بايدن” للاستثمار في البنية التحتية للطاقة النظيفة
يتسم برنامج الحزب الديمقراطي بشكل عام بالاهتمام بالقضايا المناخية وكيفية معالجتها واحتواء تداعياتها، ووضعها على قائمة أولويات سياساته الداخلية. وبناء عليه، أعلن المرشح الرئاسي الديمقراطي “جو بايدن” خطة مناخية تسعى لاستثمار تريليوني دولار لتعزيز الطاقة النظيفة وإعادة بناء البنية التحتية، وذلك بهدف تحقيق تطوير قطاع الطاقة الأمريكي والقضاء على الانبعاثات الكربونية بحلول 2050. وتمثل هذه الخطة زيادة كبيرة عن مبلغ 1.7 تريليون دولار كان قد اقترح إنفاقها خلال عشر سنوات ضمن خطته المناخية في حملة الانتخابات التمهيدية.
ويسعى “بايدن” في هذا السياق إلى الوصول لقطاع كهرباء خالٍ من تلوث الكربون بحلول عام 2035، فضلًا عن تمويل بناء 1.5 مليون من المنازل الجديدة الموفرة للطاقة، وتطوير معايير الأجهزة وجعل الطاقة المتجددة أولوية، علاوة على ذلك، يخطط الحزب لتركيب 500 ألف محطة شحن عامة للسيارات الكهربائية، في خطوة تهدف لتشجيع المستهلكين على شراء المركبات الكهربائية. ويدعم برنامج “بايدن” الانتخابي خطط وكالة “ناسا” لاستكشاف الفضاء وإطلاق رحلات مأهولة إلى القمر، ومراقبة الغلاف الجوي ومحاولة فهم كيف يؤثر تغير المناخ على كوكب الأرض.
وتعهد الديمقراطيون بالانضمام على الفور إلى اتفاقية باريس للمناخ مرة أخرى، وعقد قمم عالمية تهدف إلى الحد من الاحتباس الحراري. كما كشفوا عن خطط لتوسيع برنامج المساعدات الخارجية المتعلقة بمواجهة التغيرات المناخية وتحفيز الاستثمارات العالمية في الطاقة النظيفة والمتجددة.
ويأتي هذا الموقف بدعم من رؤية الحزب الديمقراطي بأهمية احتواء التداعيات الاقتصادية الكارثية المترتبة على التغير المناخي وما يصحبه من عواصف وحرائق الغابات وفيضانات، حيث تعاني المجتمعات الحضرية والريفية من خسائر اقتصادية تقدر بعشرات المليارات من الدولارات.
وغالبًا ما يؤكد “بايدن” في خطاباته على خطته لتعزيز البنية التحتية للطاقة النظيفة والمياه والصرف الصحي والنقل، مع ضمان خلق ملايين الوظائف في مجالات الطاقة المتجددة والتنمية المستدامة في جميع أنحاء الولايات المتحدة. كما أعلن عن مساعيه الهادفة إلى التشجيع على استخدام تقنيات تستهلك نِسَبًا أقل من الكربون، وكذلك دعم اللوائح التنظيمية الخاصة بانبعاثات غازات الدفيئة، وهي برامج تُعَد إحياءً لسياسات الرئيس السابق “باراك أوباما”. وقد صرّح “بايدن” أيضًا بأنه يدعم فرض ضريبة فيدرالية على الكربون للحد من اللجوء إليه واستخدامه.
وختامًا، يُمكن القول إن هناك فروقًا شاسعة بين رؤيتي “ترامب” و”بايدن” تجاه قضية التغير المناخي التي تعتبر من الشواغل الكبرى لصانعي السياسات حول العالم في الوقت الراهن، ولهذا من المرجح أن تختلف السياسات الأمريكية في التعامل مع تلك المشكلة وفقًا للمرشح الفائز في انتخابات نوفمبر المقبل.