ربما لم يكن هناك ما ينافس في الصحافة العالمية «كوفيد- ١٩» و«الانتخابات الأمريكية» ونتائجها، حتى محاكمة ترامب وتولى بايدن السلطة- سوى حصاد ما سمى الربيع العربي بعد عشر سنوات جرت فيها موجتان من «الثورات»، واحدة كانت في ٢٠١١ والثانية في ٢٠١٩. ومهما كان المصدر على اليمين أو اليسار، فإن ما اتفق عليه الجميع هو نوع من خيبة الأمل، لأن ما جرى فيه كان «إسقاط النظام»، وبعد ذلك فإن التغيير لم يحدث رغما عن «الثوار» الذين كانوا يريدون الديمقراطية التي يتم فيها تداول السلطة، والليبرالية التي يتسامح فيها الجميع مع الجميع. الانطباع العام عما حدث في عشر سنوات هو أن «ريما قد عادت إلى عاداتها القديمة»، ولا شيء يحدث في «الاستثناء العربي» الذي يتحول فيه العالم في اتجاه ما يراه الغرب مناسبا، بينما العرب يعودون دائما إلى ما كانوا عليه. ومع هذه الأوصاف المظلمة والمحبطة، فإن خاتمة ما يقال دائما هو أن الثورات ولدت روحًا من الصعب لها أن تموت؛ ومن ثم فإن المستقبل سوف يحمل ثورات أخرى صائبة التقدير وقادرة الفعل ولها فى الفوز حظ.
الدراسات والمقالات لم تخرج كثيرا عن هذه الخطوط العامة، والمدهش فيها أن لا أحد عرف بالفعل حقيقة ما حدث، والأخطر، ولا عرف حقيقة ما جرى بعد الأحداث التي جرت، وما الذي حدث بعدها. مصر كما هي العادة في مثل هذه الأمور الإقليمية تتصدر المشهد، وفى كثير من الأحيان تتحمل المسؤولية عما حدث وما لم يحدث، وفى الحالتين هناك الكثير من المغالطة والجهل والانحيازات الفكرية التي تريد تثبيت أنواع مختلفة من الأشكال النمطية عن الاستبداد في ناحية والمطالبين بالديمقراطية من ناحية أخرى، وهي صورة لا توجد إلا في ذهن الكاتب. لم يلحظ أحد حالة التفتيت الشديد الذي كان موجودا في الميادين المختلفة، ولا كانت النتيجة بالضرورة هي ما حدث بأنه لم يكن هناك برنامج أو خطة عمل لإقامة تلك الديمقراطية، وحين حلت ساعة الانتخاب فإن أحدا لم يهتم بها، ولا حتى ذهب إلى صناديق الاقتراع، وإذا ذهب فإن حصافته السياسية لم تزد على الحصول على مقعد واحد جاء أحيانا بالتحالف مع جماعة فاشية.
سقط دور «الإخوان المسلمين» من حصاد السنوات العشر، ولا جرى احتساب ذلك المشهد الذي جاء فيه الشيخ يوسف القرضاوي لكي يستقر في ميدان التحرير بالقاهرة مستدعيًا مشهد آية الله الخميني ساعة وصوله إلى طهران. لم يكن في مسيرة مجلس الإرشاد الذي يشابه «البوليتبرو» في الأحزاب الشيوعية ومثيلتها في الأحزاب الفاشية من واجبات السمع والطاعة ما يستحق الرصد ولا التحليل، ولا ما تولد من هذا التنظيم من تنظيمات أخرى نمت وترعرعت وتعلمت وتدربت في أحضان الإخوان.
الدراما الكبيرة في الكتب والرصد هي صراع بين «الثورة» و«الثورة المضادة» التي يحاول فيها النظام القديم أن يعود مرة أخرى. ما حدث فعليا هو أن نتائج ما حدث في مطلع العقد ونهايته اختلف من بلد إلى آخر؛ وهناك حروب أهلية وحروب للتدخل الإقليمي والدولي لا تزال جارية في سوريا واليمن، وحتى وقت قريب في ليبيا. مشاهد هذه الحروب مع الضحايا واللاجئين والنازحين خطفت من الصورة مشاهد البلدان العربية التي لم يحدث فيها إطلاقا ذلك «الربيع العربي». وما لا يقل أهمية عن ذلك كله وغاب تماما عن أعين الراصدين والمحللين هو الموجة الإصلاحية العميقة التي شملت بلدانا عربية متعددة كما هو حادث في مصر والسعودية والإمارات والبحرين والكويت والأردن والمغرب وعمان؛ مع بدايات إصلاحية في العراق والسودان وحتى تونس التي بات عليها أن تواجه ما يفعله الإخوان بالسياسة في البلاد التي يهيمنون عليها، وآثار ذلك على الاقتصاد والتنمية والثقافة العامة.
الدرس الإصلاحي للسنوات العشر السابقة هو ضرورة وجود الدولة واستقرارها وثباتها، وشجاعة القرار في اتخاذ قرارات هيكلية، سواء تمس الاقتصاد كما هو الحال في مصر؛ أو الاقتصاد والمجتمع كما هو الحال في السعودية؛ أو استعادة الدولة لتماسكها كما هو الحال الآن في السودان والعراق. مثل هذه الدولة في ممارستها للإصلاح لا يوجد فيها مكان للإخوان، كما لا يوجد فيها مكان للتحريض أو التلاعب بالأزمات، أو البحث عن الانقسام الطائفي أو الحزبي؛ وإنما يوجد فيها مكان واسع للمساهمة في مشروع قومي عريض الجبهات للممارسة السياسية والاقتصادية في التنمية والتقدم. المساحة هنا متسعة للإنتاج، والفضاء رحب للتجديد، والساحة واسعة للإبداع.