فى أقل من أسبوع شهد العرب، شرقاً وغرباً، نوعاً من الحراك، كثيره إيجابى وبعضه يسير بخطى عكسية. حيث نجح العراق فى عقد قمة جمعت قادة وممثلى عدد من الدول العربية ومنظمات دولية وعربية تحت عنوان التعاون والشراكة. وبعد أقل من ثلاثة أيام، وبدعوة جزائرية، تم اجتماع دول جوار ليبيا لمناقشة التطورات السياسية والعسكرية، والمقرر أن تنتهى بعقد انتخابات نهاية العام الجارى. وبين الحدثين وقبلهما أيضاً تستمر المساندة العربية للإجراءات التى اتخذها الرئيس قيس سعيد لتطهير البلاد من رموز الفساد وإعادة هيكلة نظام الحكم فى تونس، وأخيراً قرار الجزائر قطع العلاقات الدبلوماسية مع المغرب، لأسباب عدة فصّلها وزير الخارجية الجزائرى، ومجملها استمرار الخطوات العدائية المغربية ضد الجزائر، بينما نفى المغرب الأمر تماماً.
الحراك العربى يعكس اتجاهات عدة؛ أبرزها أن هناك إدراكاً عربياً ينطلق من المشرق العربى بأن حالة التشتت والانقسام الراهنة وما ترتب عليها من صراعات أفقدت دولاً عربية سيادتها، وسمحت بتدخلات خارجية بغيضة يجب أن تتوقف، وأن تبدأ دورة جديدة من الشراكة والاستقرار الإقليمى وفق قواعد حسن الجوار والتكاتف لمواجهة التحديات الراهنة؛ كالإرهاب والتطرف والتنمية، واسترداد السيادة بكل أبعادها، واستعادة مؤسسات الدولة العراقية عافيتها وتماسكها، والتضامن العربى لمساعدة من يجب مساعدته على المرور من عنق الزجاجة الذى يحيط به. وهو اتجاه تجسّد بوضوح فى قمة بغداد، وما جرى فيها من لقاءات بين قادة دول عانت فى الفترات السابقة تراجعاً فى العلاقات الثنائية، والاتفاق على تجاوز تلك المرحلة والتطلع إلى تعاون حقيقى يفيد الجميع.
والراجح أن مشاركة مصر فى القمة بمستوى الرئاسة، ممثلة فى الرئيس السيسى، كانت رسالة دعم ومساندة للعراق فى مرحلته الراهنة، لا سيما أن التوجهات العراقية الجديدة عربياً وإقليمياً تعد تأكيداً على صواب الرؤية المصرية الخاصة بالدولة الوطنية ذات المؤسسات الفاعلة والسياسات التنموية الشاملة، فى الوقت ذاته، وكما أوضح الرئيس السيسى، فإن مصر لن تبخل على الأشقاء العراقيين بالخبرات التنموية فى مختلف المجالات، وهو ما ترجمته دعوة الرئيس السيسى أن يتعاون العراقيون جميعاً، وأن يعمروا بلدهم وأن يضعوا مصلحة بلدهم فوق أى اعتبار.
كما تجسّد اتجاه التعاضد العربى أيضاً فى اجتماع دول جوار ليبيا بالجزائر، الذى بلور بدوره رؤية توافقية عربية بشأن عملية التسوية السياسية الليبية، مفادها الالتزام بخطة العمل الأممية سياسياً وعسكرياً، وتجاوز العقبات التى يفتعلها البعض فى الداخل الليبى لتعطيل الاستحقاق الانتخابى المنتظر، وضرورة تطبيق تفاهمات اللجنة العسكرية الليبية، لا سيما خروج القوات الأجنبية وجميع العناصر المسلحة.
التعاضد العربى بات واضحاً فى حالة تونس، حيث التأييد والمباركة للإجراءات التى اتخذها الرئيس قيس سعيد، والهادفة بدورها لانتشال البلاد من براثن الفساد والتطرف وضعف المؤسسات. فى السياق ذاته نلمح توجه الدولة العراقية لإعادة التموضع عربياً وإقليمياً، وله بعدان؛ أولهما يعكس توجهات نخبة الحكم العراقية والساعية إلى ترسيخ البعد العربى فى سياستها الخارجية بعد فترة عصيبة قيدت تفاعلات العراق العربية، مع الحفاظ على علاقات جيدة وطبيعية مع الجوار غير العربى؛ إيرانيا وتركيا، دون تدخلات سافرة أو مضمرة، وضمان ألا يكون العراق منصة لتصفية حسابات لا شأن للعراق بها. وهو توجه حميد لكنه يواجه مشكلات داخلية عصيبة، ومن هنا تأتى أهمية أن يجد العراق الآن قدراً كبيراً من الدعم العربى على كل المستويات، وفى الوقت نفسه تفهماً من الجيران غير العرب بأن التوجهات العروبية للعراق هى توجهات متجذرة فى تاريخ العراق وفى حاضره، ولا تعنى بأى حال عداء لمن هم غير عرب، بل انفتاح وشراكة بما يفيد الجميع. وبالقدر نفسه يسعى العراق للعب دور إيجابى فى التواصل والحوار بين الأشقاء العرب والجيران غير العرب، وبما يسهم فى بناء حالة استقرار إقليمى حتماً تفيد الجميع إن قامت على التعاون الصحيح والمتوازن.
والبعد الثانى فى إعادة تموضع العراق عربياً وإقليمياً يرتبط بنوايا وسياسات القوى الإقليمية والدولية تجاه الدولة العراقية وتوجهاتها العروبية المستعادة، والواضح أن هناك من لا يريد للعراق الجديد أن ينهض وأن يسترد مكانته عربياً ودولياً، والواضح أيضاً أن المصالح الكبرى التى حققتها القوى الإقليمية فى العراق فى العقدين الماضيين تجعلها فى حالة توجس من عراق قوى ومتماسك وله توجهات مستقلة، وهو ما يضع عبئاً على الدولة العراقية وتحدياً للنخبة السياسية بكل أطيافها، لا سيما التى ارتبطت بالخارج فى أن تثبت انتماءها للوطن وسيادته واستقلاله، وأن تضع حماية العراق ومصالحه على قمة أولويات تحركها. وفى المقابل أن تدرك القوى الإقليمية أن العراق القوى والمستقل والآمن هو فى مصلحة الجميع عرباً وغير عرب.
بيد أن التوجهات المشار إليها، بما فيها من دلالات إيجابية عربياً، تجد لحظة انقطاع وتراجع، تمثلت فى قطع العلاقات الدبلوماسية بين الجزائر والمغرب.
والبلدان معروف عنهما قدر من التنافس فى سياسات المغرب العربى كإقليم فرعى فى العالم العربى، ولكل وجهة نظر تجاه قضايا رئيسية تهم البلد الآخر، فالجزائر يتأثر موقفها مع المغرب برؤيتها الخاصة لمصير الصحراء المغربية، استناداً إلى حق تقرير المصير للشعب الصحراوى، بينما تتمسك المغرب بمغربية الصحراء، وأن الحل الأول والأخير يتمثل فى الإدارة الذاتية. ومع ذلك كانت هناك مصالح كبرى تجمع البلدين تمثلت فى أنبوب الغاز الجزائرى المار بالمغرب والمتجه إلى إسبانيا والبرتغال، والذى حقق عائداً للبلدين، وينتهى عقده فى نهاية أكتوبر المقبل.
وفى خلفيات قرار الجزائر قطع العلاقات مع المغرب مزيج من التضارب بشأن مصير هذا الأنبوب، وسعى جزائرى لإنشاء أنبوب آخر يتجه مباشرة من الجزائر عبر البحر المتوسط إلى إسبانيا والبرتغال، فضلاً عن هواجس أخرى حول مواقف عدائية متبادلة، ورفض جزائرى لتطبيع المغرب علاقاته مع إسرائيل. يرافق ذلك مشاعر عدائية شعبية متبادلة عبر وسائل التواصل الاجتماعى، الأمر الذى يزيد من عمق الأزمة ويضع قيوداً وعقبات أمام أى محاولة لإصلاح ذات البين.
والواضح أن المرحلة التى تمر بها الجزائر لها تأثير مباشر حول قرار قطع العلاقات مع المغرب، فى حين تتحرك إيجابياً إزاء الوضع الليبى، ومن ثم فإن اتصالات مصر والسعودية بشأن دفع البلدين الشقيقين إلى الحوار واحتواء ما بينهما من هواجس ومخاوف متبادلة ينطلق من الإيمان بأن التغيرات الصاخبة فى العالم تتطلب التعاون والشراكة وليس الانكفاء على الذات.