تمثل الصراعات تهديدًا لأمن الدول، وتمتد آثارها إلى مختلف فئات المجتمعات؛ إذ تنعكس تداعياتها على الرجال والنساء والأطفال على حد سواء، غير أن المرأة أكثر تأثرًا بها وذلك في ضوء الخصوصية التي تتمتع بها في المجتمعات. وقد ألقت الحرب الروسية الأوكرانية بظلالها على المرأة الأوكرانية في إطار مجموعة من الأدوار، إذ كانت فاعلًا تارة ومفعولًا به تارة أخرى داخل هذا المشهد المتشابك، ومن ثم تسعى هذه الورقة إلى تسليط الضوء على الدور الذي تقوم بها النساء في الحرب الروسية الأوكرانية مع استعراض التداعيات التي تنصرف عليهن خلال أعقاب الحرب.
المرأة الأوكرانية كفاعل خلال الحرب
تتعدد نماذج وأشكال توظيف النساء في الحرب الروسية الأوكرانية، ويمكن استعراض بعض منها على النحو التالي:
مجندات في الجيش:
تلعب النساء أدوارًا بارزة في عدد كبير من الجيوش الوطنية، وبالنسبة لأوكرانيا كانت النساء جزءًا من القوات المسلحة الوطنية منذ عام 1993، أي بعد عامين فقط من إعلان البلاد استقلالها. وقد شهد تجنيد النساء في الجيش النظامي الأوكراني تطورًا مُطردًا، حيث ساهمت المقاومة الأوكرانية ومشاركة النساء في احتجاجات الميادين عام 2013 في إعادة تشكيل أدوار المرأة في حمل السلاح. ومنذ الغزو الروسي لمنطقة دونباس عام 2014، عملت النساء الأوكرانيات “في الخطوط الأمامية كمشاة ومسعفين قتاليين وقناصة”، علاوة على مساهماتهن الطوعية كمدنيات.
وفي عام 2018، تم إقرار قانون عسكري يحث على المساواة بين الجنسين، ومنح هذا القانون المرأة حقوقًا متساوية في الجيش، مما أدى إلى تحول مجتمعي عميق، حيث تم رفع القيود المفروضة على قبول الإناث في دراسة بعض التخصصات العسكرية، وتم السماح للمرأة بالحصول على مناصب ضابط في وحدات عسكرية هامة مثل العمليات الخاصة، وارتفعت نسبهن ما بين عامي 2019 و2020 في معظم الأدوار كما هو موضح بالشكل (1). وفي ديسمبر الماضي أجرت وزارة الدفاع تحديثًا للوائح يقتضي بموجبه فتح باب التجنيد للنساء اللائي تتراوح أعمارهن بين 18 و60 عامًا لتوظيفهن أثناء الحرب.
وفي اليوم العالمي للمرأة لهذا العام، غردت وزارة الخارجية عبر حسابها الرسمي على منصة “تويتر” شاكرة المجندات الأوكرانيات، وأكدت أن النساء يمثلن 15% من الجيش الأوكراني وفق إحصائيات ما قبل اندلاع الحرب، والآن فهن يفقن هذه النسبة بكثير، والتي يستحيل حصرها على حد ما ورد بالتصريح.
المصدر/ الكتاب الأبيض 2019-2020: القوات المسلحة لأوكرانيا ودائرة النقل الحكومية الخاصة، ص 97، متاح على الرابط التالي: https://www.mil.gov.ua/content/files/whitebook/WB_2019_2020_eng.pdf
الدعم المعنوي:
تلعب النساء في أوكرانيا دورًا كبيرًا في تقديم الدعم المعنوي، إذ تبلغ نسبتهن في البرلمان الأوكراني نحو 21%، ويمثلن جبهة مقاومة قوية عبر الأثير، فلهن صوت ذو صدى من خلال وسائل الإعلام المختلفة لتعزيز التضامن لمقاومة الغزو الروسي، ولهنّ كذلك دور فعال في إعداد الدفاع المدني والغذاء والمأوى في المدن التي تعرضت للقصف، علاوة على الدعم المعنوي للجيش من خلال مشاركة مقاطع فيديو وصور على وسائل التواصل الاجتماعي تحكي قصص النساء اللواتي يتُقن إلى محاربة روسيا.
الحرب النفسية:
تشارك المرأة الأوكرانية في الحرب من خلال توظيفها في الحرب النفسية، عبر استدعاء ذكرى الحرب العالمية الثانية في الصراع، عن طريق تداول أسطورة “الجوارب البيضاء” White Tights. ويعد هذا المصطلح كناية عن القناصين القساة، وينسب إلى بدلات التمويه البيضاء التي يرتديها الجنود الفنلنديون الذين ألحقوا خسائر فادحة بالجنود السوفيت خلال الحرب العالمية الثانية.
وفي أعقاب أحداث شبه جزيرة القرم في 2014 انتشر هذا المصطلح من جديد ولكنه اقترن بالملابس الرياضية، حيث زخرت منصات التواصل الاجتماعي بتداول صورة للاعبة الأوليمبية الأوكرانية “أولينا بيدروشنا” ترتدي فيها زيًا عسكريًا، وكانت من الدوافع المهمة على تحفيز النساء وخاصة الرياضيات منهن للمشاركة في الحرب.
ويمكن القول إن استدعاء أسطورة “الجوارب البيضاء” يأتي في إطار سببين؛ الأول: هو أن القنص يمثل أحد أهم مخاوف المقاتلين في ساحات القتال، فهو يعتمد على إطلاق النار بغتةً ومن العدم. والسبب الثاني يتمثل في أن القنص لا يحتاج إلى القوة البدنية، ولكنه يعتمد على مهارات كالصبر والدقة والدهاء، وجميعها تُعد من خصائص النساء.
المرأة الأوكرانية كمفعول به خلال الحرب
تبرهن الحرب الروسية الأوكرانية على أن النساء يواجهن تهديدات أكبر من الرجال تحت وطأة النزاعات المسلحة، ويمكن مناقشة تداعيات الحرب الحالية على النساء في ضوء انعكاسات مشهد الصراع عام 2014 عليهن، لا سيما وأنه حمل العديد من التداعيات السلبية، التي يمكن تناولها على النحو التالي:
ارتفاع معدلات لجوء النساء:
أثرت الحرب بشدة على التماسك الاجتماعي وأمن المجتمع وصمود المجتمعات المحلية، وخاصة النساء والفتيات، حيث أدى الافتقار إلى الوصول إلى الخدمات الاجتماعية بما في ذلك المدارس وموارد المجتمع المرهقة إلى زيادة عبء الرعاية على عاتق النساء المحليات المسئولات عن رعاية الأطفال والمعوقين وكبار السن من أفراد الأسرة.
وفي ضوء هذا المشهد، تشير التقديرات الأخيرة إلى أن 54 % ممن يحتاجون إلى المساعدة بسبب الأزمة المستمرة هم من النساء، إذ أعلنت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين عن وجود ما يزيد على 3.8 ملايين لاجي في الفترة من 24 فبراير 2022 إلى 26 مارس 2022 (الغالبية العظمى منهم من النساء والأطفال) إلى البلدان المجاورة، ونزح آخرون داخل البلاد. ومن المتوقع أن تزداد هذه الأرقام بشكل كبير مع استمرار الصراع.
الحرمان من الرعاية الصحية:
منذ أن بدأت روسيا عملية عسكرية في أوكرانيا، انتشرت صور لنساء يلدن في محطات المترو تحت الأرض، وتم نقل الأطفال حديثي الولادة إلى ملاجئ غير مؤهلة، وذلك في ضوء تعذر الوصول للمرافق الصحية. وكذلك أعلنت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية “USAID” في مارس الفائت أن هناك نحو 80 ألف امرأة حامل، سوف يلدن في الأشهر الثلاثة المقبلة، وكثير منهن لن يحصلن على الرعاية الصحية الأساسية للأمهات إذا استمر الصراع في تعطيل الخدمات الصحية الأساسية، بل وستصبح الولادة تجربة مهددة للحياة بالنسبة للعديد منهن، خاصة مع صعوبة الوصول إلى مراكز الدعم الصحي والنفسي.
ويمكن القول إن الآثار النفسية للعنف أثناء الحرب تمثل انتهاكًا خطيرًا لحقوق للمرأة المنصوص عليها في الاتفاقيات الدولية، وتهدد صحتهن البدنية والعقلية والجنسية والإنجابية، فقد أكدت دراسة بعنوان “العوامل المرتبطة بالتعرض للعنف الجنسي بين الناجيات من العنف القائم على النوع الاجتماعي في شرق أوكرانيا المنكوبة بالنزاع” صادرة عام 2021 أن نسبة الناجيات من العنف الجنسي اللاتي حصلن على خدمات الصحة النفسية والاجتماعية والعقلية بعد الاغتصاب بلغت 3.2٪ فقط للحصول على الرعاية خلال 72 ساعة من واقعة الاغتصاب، وأكثر من 33% حصلن على الخدمات الصحية بعد مرور عام على الواقعة، ويُعزى ذلك إلى أسباب تتعلق بعمر المجني عليهن ودرجة قرابة المغتصب.
وإلى جانب صعوبة إمكانية الوصول لخدمات الدعم، يمثل الإبلاغ عن العنف عاملًا هامًا لتلقي الدعم المطلوب، فقد وجد استطلاع صندوق الأمم المتحدة للسكان الصادر عام 2019 أن النساء النازحات في أوكرانيا يملن إلى إبلاغ سلطات إنفاذ القانون بمعدلات أقل من النساء غير النازحات، فقد أبلغ 16٪ فقط من الناجيات من العنف القائم على النوع الاجتماعي بالحادثة للشرطة مقابل 25٪ من السكان المحليين، وأفصح 5٪ من النازحات و3٪ من السكان المحليين عن تجربتهن لأخصائيي الرعاية الصحية، واختار 60% من الناجيات التأقلم مع تجربتهن من خلال الوثوق بالعائلة والأصدقاء، و10٪ فقط طالبن بالدعم النفسي والاجتماعي بشكل رسمي.
الاختطاف وممارسة البغاء:
مع بداية الغزو الروسي لأوكرانيا، تعددت الانتهاكات الموجهة للنساء، حيث ذاعت أخبار عدة عن عمليات اختطاف شابات على الحدود الأوكرانية من قبل القوادين، سواء في مخيمات اللاجئين، أو داخل أوكرانيا، وأصبحت ممارسة الجنس سبيلًا من أجل البقاء في “المناطق الرمادية” خلف خطوط المواجهة المسلحة. وفي هذا السياق، كشف تقرير صادر عن المفوضية السامية لحقوق الإنسان في 2014 عن كيفية إجبار النساء الأوكرانيات على ممارسة الجنس مقابل المال أو الطعام بشكل ممنهج من قبل عصابات إجرامية تستهدف اللاجئات الأوكرانيات.
وتجدر الإشارة إلى أن عدد النساء العاملات في الدعارة قبل الحرب بلغ أكثر من 80 ألف امرأة، ولا عجب أن هذا العدد الضخم كان سببًا رئيسيًا في تصنيف أوكرانيا كثاني أكبر دولة في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى بها أكبر تعداد لمرضى فيروس نقص المناعة البشرية “الإيدز”، حيث يقدر عدد المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية بنحو 250 ألف شخص، وفي أعقاب الحرب عام 2016 ارتفعت نسبة النساء المصابات بفيروس نقص المناعة من 5.2% إلى 38.2%، حيث زادت النسبة بشكل كبير في مناطق الصراع وتحديدًا في دونيتسك.
العنف القائم على النوع الاجتماعي:
يرتفع العنف ضد النساء والفتيات أثناء النزعات، بما في ذلك الاعتداءات الجنسية والاستغلال. وبصفة عامة، يمثل العنف القائم على النوع الاجتماعي مشكلة خطيرة لملايين النساء والفتيات الأخريات بمن فيهن اللائي عشن في ظل الصراع المستمر في شرق أوكرانيا على مدى السنوات الثماني الماضي.
ومع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، أفادت صحيفة “بيلد” الألمانية، بقيام لاجئين باغتصاب لاجئة أوكرانية في السادس من مارس الجاري على متن سفينة “أوسكار وايلد”، التي تستخدم كمسكن للاجئين القادمين من أوكرانيا، وترسو على ضفاف مدينة “دوسلدورف” الألمانية. كما لفتت “ماريا ميزينتسيفا” (المشرعة بالبرلمان الأوكراني) إلى تعرض عدد من النساء الأوكرانيات لانتهاكات جنسية من قبل بعض الجنود الروس خلال الغزو الروسي لأوكرانيا.
وفي هذا السياق، أكدت دراسة أجراها صندوق الأمم المتحدة للسكان لعام 2019، بأن حوالي 75 % من النساء في أوكرانيا يتعرضن لشكل من أشكال العنف منذ سن 15 عامًا، وأكدت الدراسة أن امرأة من كل ثلاث نساء عانت الاعتداء الجسدي أو الجنسي، ومنذ عام 2014 تضاعفت نسبة النساء اللاتي تعرضن للعنف الجنسي في سن الإنجاب في أوكرانيا، حيث بلغت أكثر من 8٪ مقابل نسبتهن عام 2007 التي كانت تقدر بحوالي 5 ٪ فقط.
وتتفق هذه الإحصائيات مع البيانات الصادرة عن دراسة لصندوق الأمم المتحدة للسكان عام 2018، ومسح حول العنف ضد المرأة الذي أجرته منظمة الأمن والتعاون في أوروبا عام 2019، حيث أشارت الدراستان إلى مصدر إضافي لحوادث العنف القائم على النوع الاجتماعي يتمثل في نقاط التفتيش عند الدخول والخروج على طول خط الاتصال الذي يفصل بين الحكومة والمناطق غير الخاضعة لسيطرة أوكرانيا، وأكد تقرير صادر عن مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في فبراير 2017 أنه لم يتم استخدام العنف الجنسي بشكل منهجي كسلاح حرب في أوكرانيا، لكن تم رصد العديد من حالات العنف القائم على النوع الاجتماعي المنفذة من قبل عسكريين.
مجمل القول، لا ينبغي النظر إلى النساء على أنهن ضحايا للنزاع وعدم الاستقرار فقط، بل لا بد من التأكيد على أدوارهن الفاعلة في أوقات الصراعات، حيث لعبن أدوارًا متعددة، سواء كمقاتلات، وأعضاء في حركات المقاومة، وكعناصر فاعلة في عمليات بناء السلام، ومن ثم يجب على المجتمع الدولي تعزيز وضع النساء عبر دعم قدراتهن من ناحية ومراعاة مواطن ضعفهن من ناحية أخرى، وذلك من خلال دعم المبادرات التي توفر الحماية من العنف القائم على النوع الاجتماعي، بجانب توفير الرعاية الصحية الجيدة، بالإضافة إلى العمل على تنمية مهاراتهن، على أن يأتي ذلك بالتوازي مع تقديم المساعدة التي تدعم تمكينهن الاقتصادي.