مثلت الظاهرة الإرهابية تهديدًا لأمن الدول والمجتمعات، وامتدت تداعياتها إلى كافة جوانب الحياة، الأمر الذي دفع العديد من الدول إلى اتباع سياسات واستراتيجيات من شأنها تقويض نفوذ التنظيمات الإرهابية، وتفكيك بنيتها الهيكلية، وظل سؤال “هل يمكن أن ينتهي الإرهاب؟” سؤال ملح على مختلف الأصعدة الأمنية والأكاديمية والانسانية. وفي هذا السياق جاءت العديد من الأطروحات التي حاولت بحث ودراسة إمكانية وكيفية القضاء على التهديد الإرهابي.
ومن ثم تسعى هذه الورقة إلى استعراض وتحليل دراستين سلطتا الضوء على مقاربات مختلفة ومتعددة لتوقف نشاط التنظيمات الإرهابية. إذ جاءت الأولى تحت عنوان “كيف ينتهي العنف الديني” لعالم الاجتماع “مارك جورجنسماير” حيث صدرت عام 2022، في مرحلة الهزيمة الجغرافية لتنظيم “داعش” )( بينما جاءت الثانية تحت عنوان ” كيف ينتهي الإرهاب: فهم تراجع الحملات الإرهابية وزوالها” لأستاذة العلاقات الدولية “أودري كورث كرونين” إذ صدرت عام 2009، مرحلة ما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 أي مع بزوغ نجم تنظيم “القاعدة”() وعلى الرغم من اختلاف سياقاتهما خاصة فيما يتعلق بتحولات الظاهرة الإرهابية، إلا أن بعض أفكارهما جاءت متشابه.
“كيف ينتهي العنف الديني “
اعتمد “جورجنسماير” في دراسته المتعلقة بتحليل أسباب انهيار التنظيمات الإرهابية على وجهه نظر بعض المنتميين إليها، وذلك عبر عقد مقابلات ولقاءات مع أعضاء سابقين في ثلاثة تنظيمات إرهابية وهم: تنظيم “داعش”، وحركة “خالصتان” في الهند (هي حركة انفصالية سيخية تسعى لإنشاء وطن للسيخ من خلال إقامة دولة ذات سيادة تحمل اسم خالصستان في منطقة بنجاب)، وجبهة “تحرير مورو الإسلامية” في الفلبين (هي جبهة تسعي لتحرير شعب مورو المسلم). وتوصل “جورجنسماير”إلى وجود ثلاثة أسباب رئيسية متعلقة بانهيار التنظيمات الإرهابية، وهم فقدان الثقة، الاقتتال الداخلي، والأمل في التسوية، وسوف يتم تناولهم تفصيًلا على النحو التالي:
فقدان الثقة: أوضح “جورجنسماير” أن فقدان الثقة في أهداف التنظيمات الإرهابية يمثل أحد العوامل التي ساهمت في انهيارها، وذلك طبقًا لوجهه نظر بعض أعضائها، فبناء على لقاءات أجراها مع زوجات لمقتلي تنظيم “داعش” محتجزين في مخيم في العراق، أفادوا بأنهن استشعرن انهيار التنظيم حين عجز عن تحقيق هدفه المعلن المتمثل في إقامة الخلافة، وتدشين نمط حياة مشابه للحياة المتصورة في أرض الخلافة التي وعد بها، وبالتالي جاء فقدان الثقة في التنظيم على خلفية فشله في توفير متطلبات الحياة الأساسية.
الأمر ذاته انطبق على حركة “خالصتان “، إذ صرح بعض عناصر الحركة أن بداية انهيارها مع ابتعادها عن تحقيق هدفها المعلن المتمثل في القتال من أجل خالصستان ومن أجل كرامة مجتمع السيخ، حيث انخرطت في مرحلة لاحقة في الأعمال الإجرامية والشغب. أما بالنسبة لأعضاء جبهة “تحرير مورو الإسلامية” فقد رأوا أن نهاية التنظيم وانهياره تزامن مع تخليه عن مثله الدينية النبيلة على حد وصفهم، وارتباطه بتجارة المخدرات وخطف الرهائن.
وأضاف البعض منهم أن جماعة “أبو سياف” التي انشقت في أوائل التسعينات عن جبهة “تحرير مورو الإسلامية”، أعلنت في 2014 مبايعتها لتنظيم “داعش” بهدف استعاده مصداقيتها، إلا أن تلك المبايعة جاءت كغطاء لنشاطها الإجرامي. ومن ثم في ضوء استعراض النماذج الثلاثة سالفة الذكر، يمكن القول إن عجز التنظيمات الإرهابية عن تحقيق أهدافها المعلنة وتحول أجندة عملها لأهداف أخرى، أسفر عن فقدان عناصرها الثقة فيها، وبالتالي تغير تعاطيهم معها.
الاقتتال الداخلي: لفت “جورجنسماير” إلى أن الاقتتال الداخلي يعد أحد الأسباب التي تقف خلف تراجع نشاط التنظيمات الإرهابية، وذلك طبقًا لرؤية بعض أعضائها، فبناء على ما افاد به أحد عناصر تنظيم “داعش”، شهد التنظيم حالة من الاقتتال الداخلي في صفوفه، حيث صرح قائلًا ” كانوا يقاتلون بعضهم بقدر ما كانوا يقاتلون أعدائهم”، إلا أن عنصر التنظيم لفت إلى دور “أبو بكر البغدادي” (قائد تنظيم داعش السابق) في الحفاظ على تماسك التنظيم على الرغم من الاقتتال الداخلي.
غير أن المشهد بالنسبة لكل من حركة “خالصتان”، وجبهة “تحرير مورو الإسلامية” كان مختلف، حيث أدت حالة الاقتتال الداخلي داخلها إلى تضاعف الانقسامات؛ فبالنسبة للأولى تحدث “وسان سينغ زافاروال” (قائد قوة كوماندوز خالصتان السابق) في مقابله مع “جورجنسماير” عن إحباطه نتيجة لعدم نجاح محاولته في توحيد جميع الحركات المتمردة تحت مظلة منظمة واحدة، وبصفة عامة يمكن القول أن عجز الحركة في العثور على شخصية كاريزمية لتوحيدها، لاسيما بعد مقتل “جارنايل سينغ بيندرانويل” ( الزعيم السيخي المتشدد) في عملية النجم الأزرق التي قام بها الجيش الهندي في عام 1984، ساهم في زيادة انقسام الحركة إلى منظمات منشقة تنافست مع بعضها البعض .
أما بالنسبة للثانية، فقد انشقت منها جماعة عرفت باسم ” مناضلو بانغسامورو الإسلاميين في سبيل الحرية” عام 1997، وذلك على خلفية رفضهم فكرة مفاوضات الجبهة مع حكومة الفلبين وتخليهم عن المطلب الأساسي لشعب مورو وهو الاستقلال والاكتفاء بفكرة إقامة حكم ذاتي. وقد أفاد “بوتش مالانج”(قائد قوات جبهة مورو الإسلامية) في حواره مع “جورجنسماير”، أن هذه الجماعة المنشقة مثلت تهديدًا إلى الجبهة بقدر التهديد الذي مثلته القوات الحكومية الفلبينية، وارجع مشهد الانقسام الداخلي إلى عدم وجود قيادة مركزية موحده للجبهة. وباستعراض الحالات الثلاث المذكورة، يتسنى لنا القول إن الاقتتال الداخلي داخل التنظيمات مثلت عاملًا رئيسيًا في تفكيكها وتراجع نشاطها.
الأمل في التسوية: أشار”جورجنسماير” إلى أن التسوية تمثل مدخًلا في بعض الحالات لتوقف التنظيمات الإرهابية عن نشاطها، وهنا يبرز نموذج جبهة “تحرير مورو الإسلامية”، فبناء على تصريحات أحد العناصر السابقة فيها لـــــ”جورجنسماير”، أوضح أن المفاوضات مع الحكومة الفلبينية مهدت الطريق لتوقف نشاط الجبهة، إذ أن المفاوضات حققت المطالب التي تطالب بها الجبهة، وبالتالي لم يعد القتال مرغوبًا. وفي هذا السياق، وقعت الحكومة الفلبينية مع جبهة ” تحرير مورو الإسلامية ” في 24 يناير 2014 اتفاق سلام، حيث نص الاتفاق على منح الحكم الذاتي للمسلمين في أجزاء من جنوبي الفلبين، في المقابل قيام الجبهة بوقف أطلاق النار.
أما المشهد المتعلق بحركة “خالصتان” كان سياقه مختلف، حيث تحول بعض القادة القدامى في الحركة إلى المشاركة في العملية الانتخابية في السنوات التي أعقبت توقف نشاطها، ومن ثم كانوا قادرين على رؤية دور لأنفسهم في الحياة العامة. وبصفة عامة توصل”جورجنسماير” إلى أن التسوية قد تساعد في توقف نشاط التنظيمات لا سيما عندما تعطي الحكومات أدوارًا لخصومها القدامى، وتعزز ذلك ببرنامج إعادة تأهيل المقاتلين السابقين.
أما فيما يتعلق بتنظيم “داعش”، فقد صرح العديد من المؤيدين السابقين للتنظيم المتواجدين في مخيمات اللاجئين أن الشيعة في العراق يسيئون معامله السنة، كذا أضاف أحد عناصر التنظيم السابقين أنه لا يرحب بعنف “القاعدة” و”داعش” لكنه وجد أن هذا العنف كان ضروريًا، وذلك على خلفية عنف الحكومة الشيعية. ومن ثم أكد “جورجنسماير” إلى أن هناك حاجة لقبول العرب السنة في العملية السياسية في العراق وسوريا. موضحًا أنه في حالة عدم حدوث ذلك، ستستمر الحرب وستكون الظروف مهيأة لإحياء المواجهات المسلحة في المستقبل.
كيف ينتهي الإرهاب: فهم تراجع الحملات الإرهابية وزوالها
اعتمدت ” كرونين” في بحثها عن أسباب نهاية نشاط التنظيمات الإرهابية على دراسة عدد كبير من هذه التنظيمات مع تحليل الاستراتيجيات المحتملة لتوقف نشاطها، وقد تضمن الكتاب ستة استراتيجيات محتملة في هذا الصدد، وهو ما سيتم إيضاحه تفصيًلا على النحو التالي:
استراتيجية قطع الرأس: تشير “كرونين” إلى أن المقصود باستراتيجية قطع الرأس هو تحييد كبار قادة التنظيمات عن إدارتها وذلك عبر الاغتيال أو الاعتقال، فبالنسبة للاغتيال، وجدت صعوبة في العثور على حالات توقف فيها نشاط التنظيم بعد مقتل زعمائه الرئيسيين، وأكدت على أن الحالات التي تم دراستها في الكتاب تنفى فرضية أن تصفية قائد التنظيم تنصرف إلى توقف نشاط التنظيم.
وفي هذا السياق، أوضحت أن الروس في إطار حربهم في الشيشان، قتلوا كل زعيم شيشاني رئيسي، إلا أن العنف ضد الدولة امتد إلى منطقة القوقاز، وخاصة داغستان وإنغوشيتيا وأوسيتيا الشمالية، وذلك على الرغم من أن الشيشان أصبحت الآن تحت سيطرة الحكومة
كذلك لفتت إلى أن أحد أهم القضايا المرتبطة بقتل قادة التنظيمات الإرهابية، هي التداعيات المرتبطة بها بمعني انعكاسها على طبيعية التهديد الإرهابي، إذ يمكن أن تحمل تداعيات سلبية قد تؤدي إلى تضخيم التهديد سواء عبر إلهام مجندين جدد أو قيام التنظيم تنفيذ عمليات بهدف الثأر. وتوصلت إلى وجود متغيرين رئيسيين في تحديد مدى نجاح استراتيجية الاغتيال؛ يتعلق أولهما بوجود قبول مجتمعي أو عدمه، وينصرف ثانيهما إلى الدرجة التي يعتمد فيها التنظيم على زعيمه.
أما بالنسبة للاعتقال، فقد أكدت “كرونين” على أن اعتقال زعيم التنظيم أكثر فاعلية في إلحاق الضرر بالتنظيم من قتله، لأن السجن يزيل الغموض عنه ويظهر سلطة الدولة وشرعيتها. لكنه في الوقت ذاته أوضحت بأن الاعتقال يمكن أن يأتي بنتائج عكسية إذا استمر الزعيم المسجون في التواصل مع التنظيم من داخل السجن.
المفاوضات: جادلت “كرونين” بأن المفاوضات نادرًا ما تؤدي إلى توقف نشاط التنظيمات، لكن الدبلوماسية يمكن أن تكون أداة استراتيجية لإدارة تراجع العنف والإرهاب على المدى الطويل، ومن الأفضل التفكير في المفاوضات كعنصر أساسي ضمن نطاق أوسع من السياسات لتقويض تنظيم ما. ولفتت إلى المفاوضات بين سريلانكا وحركة نمور تحرير تاميل (وهي حركة انفصالية تسعى للاستقلال الذاتي في إيلام التاميلية وهي المناطق التي تقطنها عرقية التاميل) حيث مرت هذه المفاوضات بفترات مختلفة ما بين تقدم وانتكاس (وتجدر الإشارة إلى أنه تم التوصل في فبراير 2002 إلى اتفاق سلام بين الجانبين في تايلاند برعاية نرويجية).
وأشارت إلى وجود عدد من المحددات الرئيسية التي تساهم في نجاح المفاوضات؛ يتعلق أولها باحتياج طرفي المفاوضات وهما الحكومة والتنظيم إلى تلك المفاوضات، بمعني وجودهما في موقف يكون فيه المزيد من العنف غير مثمر. وينصرف ثانيهما إلى وجود قيادة قوية في كل من التنظيم والحكومة، فبدون قادة أقوياء، لا تحرز المفاوضات اي تقدم. ويتصل ثالثهما بوجود رعاة ملتزمين – سواء كانوا وسطاء أو ضامنين خارجيين – يرغبون في دفع المحادثات إلى الأمام.
ولفتت إلى أن المفاوضات قد تؤدي إلى انقسام التنظيم إلى فصائل أصغر تكون معترضة على النمط التفاوضي، ما يزيد العنف على المدى القصير، لكنها في الوقت ذاته تكشف عن العناصر الأكثر راديكالية وتوفر معلومات استخباراتية يمكن أن تكون مفيدة على المدى الطويل
النجاح: أوضحت “كرونين” أن الغالبية العظمى من التنظيمات تفشل في تحقيق أهدافها غير أن هناك حالات نادرة تمكنت فيها التنظيمات من إحراز غاياتها، وعلى خلفيه هذا النجاح يقوم التنظيم بحل نفسه أو يتوقف عن انخراطه في العنف، وقد أشارت إلى عدد من الامثلة في هذا السياق، إذ تنازلت الحكومة الكولومبية في عام 1998عن “منطقة محررة” جنوب بوغوتا (عاصمة كولومبيا) إلى القوات المسلحة الثورية الكولومبية “فارك”( وهو تنظيم ثوري يساري مسلح)، وهي خطوة وصفها البعض بأنها نجاح للإرهاب، غير أن هذه المنطقة تمت استعادتها فعليًا في عام 2002، وبالتالي من الواضح أنها ليست مثالًا على النجاح الاستراتيجي.
وفي السياق ذاته، غالبًا ما يُقال إن الجيش الجمهوري الإيرلندي قد كوفئ على إرهابه من خلال اتفاقية تقاسم السلطة في أيرلندا الشمالية، غير أن الهدف الاستراتيجي لحملة “الجيش الجمهوري الإيرلندي” تمثل في أيرلندا الموحدة، لكنه فشل في تحقيق هذا الهدف. كذا لا يمكن اغفال الدور الذي لعبته منظمة “الإرغون” (هي منظمة صهيونية شبه عسكرية تواجدت في فلسطين بين الفترة 1931 حتي1948) في نشأة إسرائيل، حيث ارتكبت عشرات الجرائم ضد أبناء الشعب الفلسطيني منذ تأسيسها وحتى قرار حلها عام 1948.
الفشل: أشارت “كرونين ” إلى أن التنظيمات الإرهابية يمكن أن تدمر نفسها ذاتيًا ما ينصرف إلى توقف نشاطها، إذ أن هناك عوامل متعددة تقف خلف انهيار التنظيمات؛ يتعلق أولها بالانتحار التنظيمي، بمعني عجز التنظيم عن نقل أيدلوجيته المتطرفة إلى الجيل الثاني والثالث من ابنائه، وينصرف ثانيها إلى استسلام التنظيم إلى الاقتتال الداخلي بين عناصره. ويتصل ثالثها بفقدانها الدعم المجتمعي، ما يعني حرمانها من الموارد والمجندين، إذ يُعد أحد الأسباب الأكثر شيوعًا للنفور المجتمعي هو الهجمات الإرهابية نفسها. وفي هذا السياق اشارت إلى الهجمات الإرهابية التي ارتكبتها كل من جماعة “الألوية الحمراء” في إيطاليا، كذلك الهجمات التي نفذتها “الجماعة الإسلامية” في مصر، إذ تسببت هذه الهجمات في حالة كبيرة من النفور المجتمعي، على خلفيه استهدفها أمن المواطن ذاته
القمع: أكدت “كرونين ” على أن معظم الدول تلجأ دائمًا إلى استخدام القوة العسكرية للرد على الهجمات الإرهابية، فمن الصعب العثور على حالات لم تستخدم فيها الدول الإجراءات القمعية، والمقصود هنا بالإجراءات القمعية طبقا لما أوردته “كرونين” هو استخدام القوة الساحقة، بحيث يشمل التدخل الخارجي، عندما يكون التهديد خارج حدود الدولة، والقمع الداخلي، عندما يكون التهديد محليًا.
ولفتت إلى أن القمع نادرًا ما يقضي على الإرهاب، فمن المرجح أن يؤدي إلى انتكاس للتنظيم أو تراجع نفوذه ألا أنه لا يقضي عليه، لا سيما مع استمرار الأفكار المتطرفة التي تشكل البنية الفكرية للتنظيمات وعدم وجود معالجة متكاملة لها. وأوضحت إن استخدام القمع ضد الإرهاب يمكن أن ينقل التهديد إلى مكان آخر، مشيرة إلى تجربة حزب العمال الكردستاني، حيث تم سحقه في جنوب شرق تركيا من قبل الحكومة التركية، لكن العديد من مقاتليه انتقلوا إلى ملاذات في شمال العراق.
تحول الاستراتيجيات: نوهت”كرونين” إلى انتهاء نشاط التنظيمات يمكن أن يقترن بتحوله إلى نوع أخر من العنف، حيث تعيد التنظيمات توجيه نشاطها بعيدًا عن الاعتماد الأساسي على الهجمات الإرهابية تجاه المدنيين، إما نحو السلوك الإجرامي أو نحو حركات التمرد، مستعرضة نموذج جماعة “أبو سياف” التي انتقلت إلى نمط العصابات الإجرامية.
ولفتت إلى أن تحول التنظيمات الإرهابية إلى الممارسات الاجرامية، بما في ذلك عمليات الخطف والسطو والاتجار بالمخدرات وغيرها، ليس بالطرح الجيد، ولكنه على الأقل يمكن التحكم فيه في إطار النظام الدولي الحالي من ناحية، كما أنه يمثل أحد المسارات المحتملة لإنهاء الهجمات الإرهابية، من ناحية أخرى. غير أنها أوضحت أن التنظيمات الإرهابية التي تتحول إلى حركات تمرد، تتجه نحو استخدام نوع أكثر فاعلية من العنف، إذ تستهدف القوات العسكرية، وتستولي على الأراضي، وتحاكي بشكل عام قوة وسلوك الدول.
الملاحظات أساسية
في ضوء ما تقدم، هناك جُملة من الملاحظات الأساسية، والتي يمكن استعراضها على النحو التالي:
الملاحظة الأولى: تشير إلى محورية العلاقة بين الحاضنة الاجتماعية والإرهاب، حيث اتفق كل من “جورجنسماير” و”كرونين” على أن تجريد الإرهاب من حواضنه الاجتماعية يمثل عنصرًا رئيسًا في تراجع نشاطه، ويمكن القول إن هذا الطرح يأتي في ضوء سياقين أساسيين؛ يتعلق أولهما بتحقيق التنمية الشاملة وما يترتب عليها من تجفيف منابع التجنيد، إذ تعد التنمية هي السلاح الأمثل لمكافحة الإرهاب. وينصرف ثانيهما إلى تعزيز الأمن الفكري، والذي يقصد به تحصين ومعالجة المعتقد من الانحرافات الفكرية سواء كانت خاصة بالعقائد أو السلوكيات. وبالتالي فإن غياب الحد الأدنى من التعاطف المجتمعي مع التنظيمات الإرهابية، ينعكس على غياب المجندين والموارد، ومن ثم يجعل من الصعب عليها العمل بفاعليه.
الملاحظة الثانية: تشير إلى المفاوضات كاستراتيجية لتوقف النشاط الإرهابي، إذجادل كل من “جورجنسماير” و “كرونين” بأن المفاوضات يمكن أن تلعب دور في توقف النشاط الإرهابي. وقد تصاعد الحديث عن هذا الطرح مؤخرا لا سيما مع انخرط الولايات المتحدة مع حركة “طالبان” في مفاوضات أسفرت عن توقيع اتفاق سلام بينهما في فبراير 2020، وانسحاب الأولى من الأراضي الأفغانية، حيث عد نجاح الثانية نموذجًا ملهما لعدد من التنظيمات الإرهابية. ومن ثم تسعى التنظيمات الإرهابية إلى تقديم نفسها كفاعل سياسي داخل الدول عبر الجلوس على طاولة المفاوضات.
وبصفة عامة تنقسم الاتجاهات المتعلقة بالتفاوض مع التنظيمات الإرهابية ما بين مؤيد ومعارض؛ فهناك اتجاه يتبنى الطرح القائم على أن اتباع نهج التفاوض مع التنظيمات الإرهابية من شأنه التحريض على مزيد من العنف، وهناك اتجاه اخر ينطلق من قناعة مفادها أن نهج التفاوض قد يؤدي إلى حقن المزيد من الدماء، إلا أن ما يرجح هذا الاتجاه أو ذاك هو قوة أو ضعف الدولة من ناحية، ونفوذ التنظيم سواء على صعيد السيطرة على الأرض أو على صعيد القبول المجتمعي من ناحية ثانية.
الملاحظة الثالثة: تنصرف إلى فاعلية برامج التأهيل والدمج الاجتماعي للمقاتلين السابقين، إذ أوضحت “جورجنسماير” أن احدى أليات تقويض نفوذ التنظيمات الإرهابية تتمثل في التسوية ويرتبط بها تعزيز برامج الدمج الاجتماعي، وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى تصاعد الجدل حول فاعلية برامج الدمج الاجتماعي، إذ تعددت الحالات والنماذج المختلفة التي فشلت فيها تلك البرامج في تحقيق أهدافها، وذلك نتيجة لصعوبة نزع عقيدة التطرف والعنف التي تم غرسها في نفوس هؤلاء من جهة، وعجز برامج الدمج الاجتماعي عن تقديم رؤية بديلة للعالم تستند على القيم الإيجابية والتفاعلات الصحيحة مع الآخرين من جهة أخرى.
الملاحظة الرابعة: تدور حول التدمير الذاتي للتنظيمات الإرهابية، حيث أشارت “كرونين ” إلى أن التنظيمات الإرهابية يمكن أن تدمر نفسها ذاتيًا حينما تعجز عن نقل أيدولوجيتها المتطرفة إلى الجيل الثاني والثالث من عناصرها. ما يجدد الحديث عن معضلة مخيم “الهول”، وسعي تنظيم “داعش” إلى الحفاظ على بقاءه الأيديولوجي والبيولوجي، والمتمثل في أطفال عناصره المتواجدون في المخيم، ويتجاوز عددهم أكثر من (25 ألف)، وهؤلاء معرضون لخطر اعتناق الفكر الداعشي، وعليه، يتطلب هذا المشهد ضرورة تعامل المجتمع الدولي مع معضلة مخيم “الهول”، وذلك عبر طرح رؤى وحلول قابلة للتنفيذ على أرض الواقع.
الملاحظة الخامسة: تنصرف إلى التحول الذي قد يطرأ على استراتيجيات التنظيمات الإرهابية، إذ نوهت”كرونين” بأن الإرهاب ممكن أن يتحول إلى نمط أخر من أنماط العنف ممثل في التنظيمات الإجرامية، أو حركات التمرد، وبالنظر إلى هذا التقسيم نجده تقسيمًا نظريًا، غير أن الواقع العملي الحالي يعكس الاندماج البراجماتي، وتلاقي المصالح، وغياب الحدود الفاصلة بين المجموعات الثلاثة سالفة الذكر.
فقد شكلت المجموعات الثلاثة –بجانب المرتزقة– تحالفات لتحقيق مصالحها، فلا يمكن فصل الارتباط القائم بين التنظيمات الإرهابية وعصابات الجريمة المنظمة، حيث تمول الأولى عملياتها بأنشطة إجرامية، كذا لا يمكن أيضًا اغفال العلاقة الوظيفية بين التنظيمات الإرهابية وحركات التمرد، حيث الدعم اللوجستي والبشرى المتبادل بينهما.
مجمل القول، استهلت الورقة بسؤال حول إمكانية نهاية الظاهرة الإرهابية وتوقف نشاطها، إذ استعرضت أبرز الاستراتيجيات التي تناولتها الدراستان سالفتان الذكر، وتنوعت هذه الاستراتيجيات ما بين ما هو داخلي أي متعلق بطبيعة التنظيمات ذاتها، وما هو خارجي أي منصرف إلى سياسات الدول تجاهها. غير أن معظم الاطروحات أغفلت متغير مهم متعلق بالمرونة الحالية التي تتمتع بها التنظيمات الإرهابية لاسيما تنظيمي ” القاعدة” و”داعش”، حيث القدرة على التكيف ولا مركزية الحركة والبحث عن ساحات جديدة للحركة ما ينصرف إلى صعوبة تقويض نشاطها، والقضاء على نفوذها، لكن يظل العنصر الحاسم في نهاية نشاط التنظيمات مرتبط بفقدانها جاذبيتها الفكرية، وتجريدها من حواضنها الاجتماعية.