يحكى الفيلم الأمريكى «أوبنهايمر» قصة إنتاج القنبلة النووية وإلقائها على هيروشيما ونجازاكى اليابانية. تأجل عرض الفيلم فى اليابان المنكوبة عدة مرات مراعاة لمشاعر وطنية وإنسانية. يرى اليابانيون أن ضرب بلدهم بالسلاح النووى لم يكن ضروريا لأن حكومتهم كانت قد نقلت للأمريكيين استعدادها للتفاوض من أجل وقف الحرب. أيقن الأمريكيون أن الحرب انتهت، وأن عليهم الإعداد لما يأتى بعدها عبر إظهار تفوق قوتهم الجبارة على كل المنافسين. ضرب اليابان بالقنبلة النووية كان هو طريقة أمريكا لتأكيد تفوقها فى عالم ما بعد الحرب. غير أن التصرف بهذه الطريقة ينطوى على وحشية وقسوة يصعب قبولها، لهذا روج الأمريكيون لكذبة تقول إن استخدام السلاح النووى عجل بإنهاء الحرب، وأنقذ آلاف الأرواح التى كانت ستزهق فى العمليات العسكرية التالية. أتقن الأمريكيون الترويج لهذه الرواية المكذوبة، فصدقها العالم، حتى أصبحت تمثل الرواية الأكثر قبولا فى العالم، وعليها قام النظام الدولى لعالم ما بعد الحرب الثانية.
كذبة أمريكية أخرى جرت وقائعها فى جوارنا الإقليمي. منذ نهاية الثمانينيات فى القرن الماضى شاعت فى العالم أنباء الإبادة الجماعية التى ارتكبها نظام الرئيس العراقى الأسبق صدام حسين ضد الشعب الكردى فى منطقة حلابجة مستخدما السلاح الكيماوى. لقد تبين بعد ذلك كذب هذه الرواية، وتم نشر وثائق للمخابرات الأمريكية تؤكد هذا. هناك ضحايا أكراد سقطوا فعلا فى حلابجة، لكن هؤلاء لم يسقطوا خلال عملية إبادة نظمها جيش صدام حسين. حقيقة الأمر هو أنه فى إطار حرب السنوات الثمانى بين العراق وإيران، جرت فى هذه المنطقة معركة تبادل خلالها الطرفان ضربات الغاز، وسقط الضحايا الأكراد نتيجة لذلك. الاختبارات التى أجرتها استخبارات الجيش الأمريكى بينت أن العدد الأكبر من الضحايا سقط بسبب الغاز الإيرانى وليس الغاز العراقي. كان العراقيون يستخدمون غاز الخردل كعنصر قاتل فى أسلحتهم الكيماوية، فى حين كان الإيرانيون يستخدمون السيانيد، وهو ما مات به أغلب الضحايا الأكراد. عرف الأمريكيون عن مأساة الشعب الكردى فى حلابجة فور وقوعها فى مارس 1988، لكنهم لم يهتموا كثيرا بالأمر بسبب انشغالهم بنتائج الحرب المصيرية الدائرة بين العراق وإيران. انتهت الحرب فى أغسطس، وخرج العراق منتصرا، وخشى الأمريكيون من هيمنة عراقية على المنطقة، فبدأوا فى توجيه حملاتهم ضد العراق. فى هذا الإطار خرجت رواية ضربات الغاز والإبادة الجماعية فى حلابجة بالشكل الذى مازال رائجا إلى اليوم.
الحكومة الأمريكية تكذب، وكذلك تفعل حكومات كثيرة غيرها حول العالم. الميزة التى يتمتع بها الأمريكيون هو أن العالم يميل لتصديق أكاذيبهم أكثر مما يصدق الأكاذيب القادمة من بلاد أخرى. السبب فى ذلك هو أن الأمريكيين يكذبون باحترافية أكثر من الآخرين.
كشف الأمريكيون عن المعلومات الجديدة حول مأساة حلابجة تدريجيا، أولا عبر رفع الحظر تدريجيا عن وثائق تتعلق بالموضوع، وثانيا عبر صدور مقالات وكتب تتحدث عن الأمر. يمكنك أن تنظر لطريقة نشر الوثائق وتناولها بالتحليل باعتباره أسلوبا فعالا لإحكام الكذبة التالية. فعندما يشيع عن النظام تمتعه بالشفافية، ويقدم الأدلة على ذلك عبر نشر الوثائق القديمة، فإنه فى الحقيقة يقدم بعض التنازلات المتعلقة بوقائع تاريخية انتهت صلاحيتها، مقابل تعزيز مصداقية السلطة الحالية. سيغير الناس رأيهم فى الكذبة القديمة التى حدثت قبل عقود، لكنهم سيكونون مستعدين لتصديق الكذبة التالية، وهذا هو المهم. يسمى الرئيس الروسى بوتين الولايات المتحدة إمبراطورية الكذب.هذا وصف شديد الدقة، ليس لأن الأمريكيين يكذبون أكثر من غيرهم، ولكن لأنهم يتقنون الكذب إلى درجة لم يصل إليها أحد قبلهم. الأمريكيون لا يكتفون بإطلاق الكذبة، ولكنهم يحرصون على إحكامها بحيث يتم تصديقها بالفعل، على الأقل لبعض الوقت. يستثمر الأمريكيون الكثير من الموارد ليس فى إطلاق الأكاذيب، ولكن فى إحكامها وصناعة جهاز قادر على ترويجها بمصداقية. الكذب فى أمريكا هو الزيت الذى يسهل دوران ماكينة السياسة الأمريكية ويمنع احتكاك تروسها، لهذا تنطلى الأكاذيب الأمريكية على الناس. فى بلاد أخرى تتحول الأكاذيب إلى الماكينة دائمة الدوران، المشكلة هى أنه لا يوجد زيت يمكنه تشحيم ماكينة من هذا النوع، لهذا تخرج منتجاتها معيوبة، لا تجد سوى قليلين مستعدين لاستهلاك منتجاتها.
يروج الأكاذيب الأمريكية جهاز إعلامى محترف، لديه تقاليد فى الصحافة الاستقصائية، وتحرى الدقة، وهو جهاز متنوع، يعزف نغمات متعددة، لهذا فإن قوته تكون هائلة عندما يجمع على ترويج رواية بعينها، مثلما حدث مع مأساة حلابجة، التى حولها الإعلام الأمريكى إلى حقيقة لا تقبل الشك، بل وتحوم حول منكريها شبهات دعم الديكتاتور، والعنصرية وكراهية الأكراد، فالأمريكيون يجيدون ربط أكاذيبهم بمبادئ وقيم سامية، تتخفى وراءها المصالح الأمريكية.
الكذب فى أمريكا امتياز يمنحه النظام لقلة صغيرة منتقاة، تحتل أعلى المناصب وتجلس فى أكثر الأماكن حساسية. تحظى أكاذيب هؤلاء بدعم وتغطية وتعزيز وترويج فتتحول إلى حقائق. ليس لأى موظف أو مسئول صغير فى أمريكا أن يتوقع دعما مماثلا إذا كذب، فالصغار عندما يكذبون لتحقيق مصلحة فردية تافهة يتم تركهم لمصيرهم مع الصحافة لتتولى فضحهم، فتتعزز مصداقية النظام والإعلام الأمريكى، ويصبح الناس أكثر استعدادا لتصديق الكذبة الكبرى التالية. الأكاذيب الأمريكية قليلة، لكنها متقنة الصنع، يصعب تمييزها من بين آلاف الأخبار الصحيحة القادمة من هناك، مع أنها أكاذيب شديدة الخطورة تحدد مصائر أمم وثروات وأقاليم.