لا يمكن الفصل بين صراع المحاكمات الدائر حالياً بين الجمهوريين والديمقراطيين وبين الانتخابات الرئاسية المقبلة، والتى تعد فارقة فى التاريخ السياسى الأمريكى لما لها من تداعيات مهمة على السياسة الداخلية وعلى السياسة الخارجية فى ظل التحولات الكبرى التى يشهدها النظام الدولى والذى يتجه إلى تكريس التعددية القطبية مع تزايد الصعود الصينى والروسى فى مقابل التراجع الأمريكى وتزايد حدة الانقسام الأمريكى الداخلى.
لاشك أن قرار كيفين مكارثى، رئيس مجلس النواب الأمريكى، مؤخراً بفتح تحقيق فى المجلس، تمهيداً لعزل الرئيس بايدن على خلفية اتهامات له بالفساد والرشوة، والتغطية على مخالفات ابنه هانتر عندما كان نائباً للرئيس أوباما بين 2009 و2017، يعكس حدة الصراع السياسى بين الحزبين على خلفية الانتخابات الرئاسية، واستخدام كل منهما سلاح المحاكمات ضد الطرف الآخر، كما أنه يعكس لجوء الجمهوريين لنفس السلاح الذى استخدمه الديمقراطيون ضد الرئيس ترامب عندما كان فى السلطة وبعد خروجه من السلطة من خلال استخدام السلطة التشريعية لعزله برلمانياً ومحاكمته قضائياً.
فقد وظف الديمقراطيون أغلبيتهم فى مجلس النواب فى عام 2019 لعزل ترامب على خلفية ما اعتبروه توطئة فى التدخل الروسى فى الانتخابات الرئاسية عام 2016، لكنهم فشلوا بسبب الأغلبية الجمهورية فى مجلس الشيوخ حيث يتطلب قرار عزل الرئيس ثلثى الأصوات، كما أعادوا المحاولة مرة أخرى فى عام 2021 ضد ترامب على خلفية ما اعتبروه توطئة ودوره فى التحريض على اقتحام الكونجرس فى 6 يناير 2021 لمنع التصديق على نتائج الانتخابات الرئاسية وفوز الرئيس بايدن وفشلوا أيضاً بسبب لعبة الأغلبية فى مجلس الشيوخ.
ثم ملاحقتهم لترامب بعد خروجه من السلطة، ومطاردته قضائياً عبر توجيه أربع لوائح من الاتهامات الفيدرالية والجنائية ضده فى نيويورك وفلوريدا وواشنطن وجورجيا، تتضمن مخالفات تزوير سجلات ضريبية والاحتفاظ بوثائق سرية بعد خروجه من البيت الأبيض، والتحريض على اقتحام الكونجرس لمنع التصديق على الانتخابات والاحتيال والضغط من أجل تزوير نتائج الانتخابات فى جورجيا لصالح ترامب، والهدف الأساسى من وراء ذلك هو سعى الديمقراطيين لمنع ترامب من الترشح أو الفوز فى الانتخابات الرئاسية القادمة، رغم أن هذه المحاكمات قانونياً لن تمنعه من الترشح، كما أنها قد تؤدى إلى فوزه فى ظل تصاعد شعبية ترامب، سواء داخل الحزب الجمهورى أو على المستوى الوطنى مع بايدن وفقا لاستطلاعات الرأى الأخيرة.
تبنى الجمهوريون فى المقابل إستراتيجية الهجوم المضاد على الديمقراطيين ولجأوا لسلاح العزل والملاحقات القضائية مع الرئيس بايدن واتهامه باستغلال منصبه لمصلحة ابنه، بعد تعيين مدع خاص فى يوليو الماضى للتحقيق مع هانتر بايدن على خلفية قضايا التهرب الضريبى وحيازة سلاح أثناء تعاطيه المخدرات. ورغم الصعوبات الكبيرة التى تقف أمام محاولة عزل الرئيس بايدن فى الكونجرس، وعلى رأسها إثبات الأدلة على تورطه فى قضايا رشوة وتلقى مدفوعات بـ 20 مليون دولار من دول أجنبية والتدخل فى أوكرانيا لإيقاف المدعى الخاص بالتحقيق فى قضايا فساد تخص شركة بوريسما الأوكرانية التى كان هانتر وقتها يشغل منصب عضو مجلس إداراتها،
وكذلك صعوبة حشد ثلثى الأصوات فى مجلس الشيوخ لعزل بايدن بسب الأغلبية الديمقراطية فى المجلس، إلا أن هذه المحاولة لها أبعاد سياسية وتستهدف أيضاً إظهار الرئيس بايدن بأنه متورط فى قضايا فساد واستغلال للنفوذ، وهو ما قد يؤثر سلباً على صورته لدى المواطن الأمريكى، ومن ثم التأثير على فرص فوزه فى الانتخابات المقبلة، خاصة فى ظل التحديات الاقتصادية الكبيرة وأبرزها الأزمة الاقتصادية وارتفاع معدلات التضخم مع ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة بشكل غير مسبوق واتهامه بتبنى سياسة خارجية ترتكز على إشعال الأزمات والصراعات مع روسيا, كما حدث فى الأزمة الأوكرانية, وكذلك مع الصين وتصاعد التوتر فى شرق آسيا وهو ما كان لها ارتدادات سلبية على الاقتصاد وعلى مستوى معيشة المواطن الأمريكى.
والواقع أن انخراط الحزبين، الجمهورى والديمقراطى، فى حرب المحاكمات والملاحقات القضائية سيكون لها تداعيات سلبية على كلا الحزبين وبشكل أكبر على الحزب الديمقراطى، باعتباره الحزب الحاكم حاليا. أولاً: إن استخدام السلطة التشريعية، الكونجرس، فى عمليات العزل سواء ضد ترامب فى السابق وبايدن حالياً، يعكس انشغال الحزبين بالتنافس السياسى والانتخابى وإهدار وقت وأولويات الكونجرس على حساب مناقشة قضايا المواطنين الحقيقية والمتعلقة بكيفية معالجة الأوضاع الاقتصادية وتوحيد الجبهة الداخلية وإنهاء الانقسام. و
ثانياً: أن الإسراف فى رفع القضايا خاصة ضد ترامب يعكس الخلط بين السياسى والقانونى، واستخدام القضاء ووزارة العدل كسلاح سياسى ضد الخصوم، وهو ما يخل بمبدأ توازن السلطات فى أمريكا. وثالثاً: أن هذا التراشق السياسى والقضائى بين الحزبين يعكس الشيخوخة السياسية فى أمريكا والتى تكرسها شيخوخة المرشحين (ترامب وبايدن) لارتفاع أعمارهم التى تقارب الثمانين عاما، وفشل النخبة السياسية فى الحزبين فى توليد كوادر جديدة قادرة على قيادة أمريكا والتعامل مع التحديات المتزايدة، ومنافسة الصين كقوة صاعدة، والمستفيد الأكبر من تزايد حدة الانقسام الأمريكى الداخلى. ولذلك فإن معركة المحاكمات بين الحزبين ستفضى إلى خسائر كبيرة ليس فقط على الحزب الديمقراطى واحتمالات خسارته للانتخابات الرئاسية، وكذلك تزايد حدة الانقسام السياسى والمجتمعى وتسييس العدالة الأمريكية، ولكن أيضاً ستؤثر سلباً على تراجع مكانة أمريكا فى النظام الدولى.