تاريخ مصر والعرب الحديث غنى بالكفاح والنضال، لكن ليس فيه سوى القليل من الانتصارات الحقيقية، وأكتوبر هو واحد من أهم هذه الانتصارات، لذا فإن الاحتفاء بأكتوبر لن يكون أبدا أمرا مبالغا فيه. من حقنا وحق جيشنا تجديد الاحتفال كل عام بأكتوبر، ليس فقط عبر الأناشيد والفصاحة البلاغية، وإنما من خلال الدراسة الجدية للأسباب التى مكنتنا من النصر.
تحقق نصر أكتوبر بعد ست سنوات من هزيمة يونيو، التى كشفت عن أوجه نقص وعوار خطير وعميق فى الأداء العام. لن نفهم دروس أكتوبر جيدا ونثمنها حق قدرها دون أن نقارنها بما كان قبلها، ودون أن نفهم أسباب النكسة التى جاء أكتوبر لإزالة آثارها، فنحن لم ننتصر فى أكتوبر إلا لأننا توقفنا عن ارتكاب الأخطاء التى تسببت فى هزيمة يونيو. فى 1967 كان لدينا تقدير مبالغ فيه لقدراتنا وما يمكننا أن نفعله بمواردنا المحدودة. كنا نشعر بالزهو بعد الانتصارات الرائعة التى حققناها ضد أعداء متفوقين فى حرب السويس عام 1956. بقينا محمولين على موجة من الزهو والمفاخرة، وتصورنا إمكانية إعادة إنتاج انتصار السويس، وكأن العالم قد توقف عند اللحظة التى أتاحت لنا الانتصار قبل عشر سنوات. ضعفت حساسيتنا لملاحظة التغيرات التى تجرى فى العالم من حولنا، فتصرفنا بنفس الجرأة التى تصرفنا بها فى المرة السابقة، لكن العالم كان قد تغير، ولم تعد الجرأة كافية لتحقيق النصر.
فى يونيو كنا نحارب معركة الماضى، بينما العالم قد تغير، فأصبح يعمل وفق موازين مختلفة وقواعد جديدة لإدارة شئون الحرب والسلام. فى أكتوبر تخلينا عن التصورات غير الواقعية، وعدنا لملامسة أرض الواقع بكل ما فيه من تفاصيل وأخبار غير سارة.
فى حرب يونيو خضنا غمار الأزمة ولدينا إجابات غير مكتملة عن أسئلة كثيرة، مراهنين على حسن الحظ والتوفيق.الأخيار أيضا يخسرون لو تخلوا عن الأخذ الدقيق بالأسباب. لم يرد على ذهننا أن أسوأ الاحتمالات قد يحدث لنا،مقتنعين بأن الله لن يتخلى عن مصر المذكورة فى كتابه العزيز.فى أكتوبر، على النقيض، تخيلنا كل السيناريوهات المحتملة، وبنينا حساباتنا على أننا سنواجه أكثرها قتامة وصعوبة، وأن الحظ سيعاندنا ولن يكون حليفا لنا، فكنا مستعدين للمفاجآت.
فى يونيو لم يكن هناك فى خطة الحشد التى طبقناها شىء جديد، بل تكرار لأشياء جربناها فى حربى 1948 و1956.
كانت أفكار القادة العسكريين فى يونيو كتابا مفتوحا يقرأ العدو خطوطه بوضوح. على العكس من ذلك كان كل شيء فى حرب أكتوبر جديدا ومفاجئا، فقد جلبنا أفكارنا تماما من خارج الصندوق. الحرب المحدودة، والجنود خريجى الجامعات، وتوقيت الحرب فى نهار رمضان، ومدافع المياه، والتدريب الجاد الراقى، والتنسيق العسكرى والسياسى مع أشقاء عرب، والخداع الاستراتيجى المحكم؛ كلها أشياء جديدة فاجأت العدو بشكل كامل.
لم نمارس الحرب فى يونيو بما تستحقه من أداء احترافى منضبط. كان ثلث جيشنا يحارب فى اليمن فى ميدان قتال جبلى قبلى، يختلف تماما عن ميدان القتال فى صحراء سيناء والنقب، فكانت أى خبرات وبطولات تتحقق هناك غير ذات صلة بميدان المعركة الحقيقي. كان جيشنا مثقلا بالمشاركة فى تنفيذ مهام التحول الثورى الاشتراكى من تصفية الإقطاع إلى إدارة قطاعات التنمية، وبعض من مهام الإدارة الرياضية والفنية. لقد تخلصنا من كل هذا استعدادا لحرب أكتوبر، فكان الأداء الاحترافى المنضبط، والتركيز الكامل على تنفيذ المهمة هو أهم ما ميز أداء قواتنا المسلحة الباسلة فى أكتوبر.
فى يونيو كنا مشتتين، أثقلنا كاهلنا بأهداف عدة أردنا تحقيقها فى وقت واحد. كنا نساند الثورة فى اليمن، وأردنا التدخل لردع إسرائيل عن الاعتداء على الشقيقة سوريا، ومنع سفن إسرائيل من المرور فى خليج العقبة، ونمنى أنفسنا بتحرير فلسطين،وتأكيد زعامتنا العربية، وإسكات أصوت عربية تنافسنا على الزعامة وتتحدى وضعنا القيادى.
فى حرب أكتوبر لم يكن على جدول أعمالنا سوى هدف وحيد هو شن هجوم ناجح، يخلق وضعا جديدا، يسمح بإطلاق عملية سياسية، تنتهى بتحرير الأرض المحتلة. التركيز على الهدف ووضوح الأولويات هو أهم ما ميز الأداء القيادى للرئيس السادات.
فى حرب يونيو كان هناك كثير من السياسة وقليل من الاستراتيجية. الفعل الاستراتيجى هو نشاط بعيد المدى، يتم التفكير فيه وتقريره مسبقا، فيأتى متحررا من غواية رد الفعل. لو خضع الرئيس السادات لضغوط احتجاجات الطلاب المطالبين بالحرب الفورية لانتهينا بيونيو جديد. فى أكتوبر أصبح لدينا هدف استراتيجى واحد هو تحرير التراب الوطنى، نطوع كل القدرات والظروف لتحقيقه، ولا نسمح لأى شيء بأن يصرف انتباهنا عنه. الهدف الاستراتيجى هو هدف بعيد المدى، لا يمكن تحقيقه عن طريق فعل واحد مباشر، وإنما عبر التنسيق بين عدد كبير من الأنشطة التى قد يبدو بعضها مقطوع الصلة بالهدف الاستراتيجى البعيد. الاقتراب المتعرج غير المباشر هو الطريق لتحقيق الأهداف الاستراتيجية. هكذا تحقق نصر أكتوبر.
هذا هو ما قصده الرئيس السادات عندما تحدث عن روح أكتوبر، وأظن أننا فى حاجة مستمرة لتدارس خبرات أكتوبر، ليس فقط فى الإعلام والتعليم، ولكن أيضا فى مؤسسات الدولة المختلفة. ذكرى أكتوبر الخمسون التى نحتفل بها اليوم هى أكبر من مناسبة للاحتفال بالنصر، فالأهم من بهجة الانتصارات هو التعمق فى فهم دروس تنفع حاضرنا ومستقبلنا.