تضم اتفاقيات جنيف لعام 1949 وبروتوكولاتها الإضافية أكثر القواعد أهمية للحد من همجية الحروب. وينظم عدد من المعاهدات الدولية معاملة المدنيين والجنود وأسرى الحرب فى نظام يعرف باسم «قانون النزاعات المسلحة» أو «القانون الإنسانى الدولى». ويعتمد هذا القانون على مبدأ أساسى فى الحروب وهو: صوابية النزاع أو عدمها لا تنزع وجوبية الالتزام بمبادئ ونصوص القوانين مرعية الإجراء. ويحظر ذات القانون من تعمد تجويع المدنيين باعتباره أسلوبا من أساليب الحرب، وهى القاعدة التى قد يرقى انتهاكها إلى اعتبار هذا الفعل جريمة حرب.
وتتضمن اتفاقيات جنيف العديد من الأحكام التى تحظر الهجمات على المستشفيات أو المدارس أو دور العبادة. وتحظر المادة 51 من البروتوكولين الإضافيين لعام 1977 الهجمات العشوائية على منطقة تضم عسكريين ومدنيين، نظرا لخطر أن الهجوم قد يلحق الضرر بهؤلاء. وتنص ذات المادة على أن المدنيين لا يجوز أن يكونوا هدفا للهجوم، وأن أعمال العنف أو التهديد بها التى يكون غرضها الأساسى نشر الرعب بين السكان المدنيين محظورة. هكذا تقول القوانين والمعاهدات الدولية التى صادقت عليها جميع الدول الأعضاء فى الأمم المتحدة. وهكذا درسوا لنا فى كليات الحقوق. اعتقدت، شخصيا، ان القوانين الدولية والمواثيق والمعاهدات أنشئت وصودق عليها من اجل ان تنظم العلاقات الدولية على هذا الكوكب وتجعلها اقل فوضوية وأكثر عدلا. واعتقدت انها قوانين حيادية ويتوجب على كل الدول احترامها والالتزام بموادها. لكن لأننا نعيش فى عالم يعانى الازدواجية فى أبهى حللها، اكتشفت أنها قوانين تقاس بحسب على من سوف يتم تطبيقها؟ وفى أى نطاق؟ ولمصلحة من؟ عندما شنت روسيا حربها على أوكرانيا، انتفض العالم الغربى بالكامل، وطالب بالدفاع عن أوكرانيا التى تعرضت لاعتداء روسى، واعتبر أن الاوكران يعانون بشكل لا يصدق، وطالب الغرب بفرض عقوبات غير مسبوقة على موسكو، بالإضافة الى تقديم مساعدات عسكرية ومدنية ولوجستية لكييف، هى الأكبر فى تاريخ حروب العالم. لكن عندما تعلق الامر بحرب غزة، دعم الغرب وأيد الهجمة الوحشية للمحتل بدعوى الحق فى الدفاع عن النفس، وسكت عن القصف المستمر لغزة واستهداف المستشفيات، والمدارس، ودور العبادة، والمدنيين، والنساء والاطفال. لم يحرك الغرب ساكنا وشعب بأكمله يقتل وتمنع عنه المساعدات الإنسانية. وكأن الشعب الفلسطينى غير مشمول بمبادئ المسئولية عن الحماية والنظام القائم على القوانين. وكأن تلك القوانين خلقت فقط للدفاع عن أهواء الغرب وميوله ومصالحه، وفيما عدا ذلك يتم اللجوء لقانون الغاب. وبما أننا نعايش مظاهر الازدواجية الفجة، فإننا نتابع مأساة إخواننا فى غزة وما يتعرضون له من مجازر. وبينما نحن نندد بمرور 75 عاما على الاحتلال الإسرائيلى دون أفق واضح، فإنه فى نفس الوقت يحتفل المجتمع الدولى بمرور 75 عاما عن الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، و75 عاما عن اتفاقيات جنيف. طوال هذه الأعوام لم تستطع القوانين والاتفاقيات إيجاد حل عادل ومنصف للقضية الفلسطينية. 75 عاما والقانون الدولى يقف عاجزا عن إيجاد مخرج لقضية عادلة. وكيف يجد الحل والمحتل وكل المدافعين عنه يتجاهلون المواثيق والعرف وحقوق الانسان، ولا يعترفون سوى بشيء واحد: وهو إعطاء الحق والأرض لمن لا ارض له ولا حق له. عندما أرى موقف المعسكر الغربى من حرب غزة، وقبلها كل مواقفه الداعمة لإسرائيل، وتجريمه لمعاداة السامية، والآن تجريمه لكل ما يتعلق بالدعم او التضامن مع فلسطين، استغرب كيف تحولت مواقفه من النقيض الى النقيض؟ كيف يدافع الغرب اليوم عن وجود اسرائيل وهو الذى عيّش اليهود فى الغرب حياة الجحيم الحقيقى لعدة قرون، وعرّضهم لكل أشكال الاضطهاد والتمييز والاحتقار والنبذ، واتهمهم بأنهم يقفون خلف كل ما فى العالم من مظاهر التآمر والسقوط الأخلاقى، بوصفهم يديرون الأنشطة المدمرة للمجتمعات؟ فماذا اختلف بين الامس واليوم؟ أسباب تغير المواقف كثيرة ومتداخلة بين ما هو تاريخى، سياسى، أخلاقى وديني. كما ان المواقع التى وصل إليها اليهود فى الدوائر السياسية والأكاديمية والإعلامية فى أهم بلدان العالم، وحصولهم على الكثير من المناصب القيادية النافذة، قد منحهم القدرة على التأثير والضغط وفرض توجهاتهم السياسية إلى أبعد حد. لكن ماذا إذا تفاقم النزاع فى المنطقة والعالم؟ هل ستظل الدول الغربية راضخة لعُقَدها التاريخية وضغوطات القوى اليهودية، وتستمر فى انتهاك القوانين الدولية والمعاهدات الإنسانية، وتتسبب فى خلق مظالم جديدة؟ ام أنها ستسعى جديا لإيجاد حل عادل وشامل يعيد للمنطقة والعالم استقراره ومصداقية قوانينه؟