فى ظل استمرار آلة القتل الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة والذى عكسته الأرقام المفزعة من الشهداء والمصابين والمفقودين والتى تتجاوز 60 ألف شخص, وتدمير ثلثى مبانى القطاع, ومع تفاقم المأساة الإنسانية والتى دعت الأمين العام للأمم المتحدة جوتيريش لأول مرة خلال ولايته لتفعيل المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة, والتى تنص على أن للأمين العام أن يلفت انتباه مجلس الأمن بشأن مسألة ما تمثل تهديدا للسلم والأمن الدوليين, وهو ما ينطبق على الوضع فى غزة, مع استمرار العدوان الإسرائيلى الشامل والحصار التام والعقاب الجماعى, ومع تقديم الإمارات العربية مشروع قرار لوقف إنسانى لإطلاق النار, وافقت عليه 13 دولة وامتناع بريطانيا, استخدمت أمريكا حق الفيتو لإجهاضه, وسط حالة من الغضب العالمى والانتقادات المتزايدة لإدارة بايدن فى دعمها المطلق لإسرائيل.
ورغم أن أمريكا استخدمت حق الفيتو عدة مرات خلال الحرب الإسرائيلية على غزة ضد مشروعات قرارات تطالب بهدن إنسانية, وكان من أبرزها المشروعان الروسيان, والمشروع البرازيلى, واستخدمت فى السابق حق الفيتو 45 مرة ضد مشروعات قرارات تدين الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين فى كل الأراضى الفلسطينية المحتلة, إلا أن استخدام أمريكا لحق الفيتو ضد مشروع القرار الأخير يحمل دلالات مهمة وتداعيات خطيرة.
أولا: إن تصويت أمريكا بمفردها ضد القرار يعكس عزلتها دوليا ووقوفها إلى جانب حليفتها إسرائيل ضد إرادة المجتمع الدولى, خاصة أن مشروع القرار أيدته أكثر من 100 دولة فى الأمم المتحدة, كما يؤكد تزايد الانقسام المتزايد داخل المعسكر الغربى المؤيد لإسرائيل، حيث أيدته فرنسا وهو ما يعكس تأثير التغير فى الرأى العام الغربى باتجاه رفض العدوان الإسرائيلى والمذابح فى غزة وضغطه على الحكومات الغربية لتغيير مواقفها الداعمة بشكل مطلق لإسرائيل.
ثانيا: إن التبرير الأمريكى لاستخدام الفيتو بأن القرار يقوض فرص السلام ويخدم المقاومة الفلسطينية هو غير مبرر, بل على العكس فإن ما تقوم به إسرائيل من عدوان شامل على المدنيين والبنية الأساسية فى غزة هو الذى يقوض فرص السلام والاستقرار, لأن منطق القوة وفرض الأمر الواقع لن يحقق الاستقرار أو الأمن للمواطن الإسرائيلى, وإنما السلام العادل والشامل والدائم القائم على إعطاء الشعب الفلسطينى حقوقه المشروعة وعلى رأسها حقه فى إقامة دولته المستقلة على حدود 4 يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية وحق عودة اللاجئين, هو السياج الحقيقى لتوفير الأمن وإقامة علاقات طبيعية للتعايش والتعاون بين شعوب المنطقة. وبالتالى الحل هو معالجة المرض ومنع المواجهات الدموية المستقبلية من خلال إنهاء الاحتلال ووقف الممارسات العدوانية ضد الشعب الفلسطينى وإقامة الدولة الفلسطينية فى إطار حل الدولتين.
ثالثا: إن هذا الدعم الأمريكى لإسرائيل دون قيود, سواء الدعم العسكرى وتزويدها بالأسلحة الحديثة والقنابل الذكية والفسفورية وقاذفات الدبابات, أو الدعم السياسى أو الدعم القانونى فى مجلس الأمن ومنع صدور أية قرارات لوقف إطلاق نار سواء دائم أو إنسانى, يحمل تداعيات خطيرة, فهو يشجع الحكومة الإسرائيلية الحالية على المضى قدما فى استراتيجيتها وحربها الشعواء الهيستيرية ضد سكان قطاع غزة, ويجعلها تتحدى المجتمع الدولى كله والرأى العام العالمى طالما أنها تحظى بالمظلة الحمائية الأمريكية وبمنأى عن المحاسبة والعقاب, وبالتالى تفاقم الأوضاع الإنسانية واستمرار ارتفاع عداد الشهداء والجرحى الفلسطينيين بمتوالية هندسية, بل يهدد بوقوع كارثة إنسانية شاملة مع نقص أدنى مقومات الحياة من غذاء ودواء ومياه نظيفة ووقود فى ظل استمرار استهداف المستشفيات وخروج معظمها عن الخدمة.
رابعا: إن استخدام الفيتو الأمريكى يقوض مصداقية أمريكا تماما فى مجال حقوق الإنسان والقانون الدولى الإنسانى, والتى كانت تتغنى بها فى الماضى وتحاول تصديرها للعالم, لكنها سقطت بامتياز فى اختبار غزة, حيث تدعم إسرائيل بشكل أعمى بغض النظر عن التداعيات الإنسانية الكارثية على الأرض, وهذا ما يؤكد الازدواجية الأمريكية فى التعامل مع حرب إسرائيل على غزة, فهى من ناحية تؤكد ضرورة حماية المدنيين وإدخال المساعدات الإنسانية وتطالب قوات الاحتلال بعدم تكرار ما حدث فى شمال قطاع غزة قبل الهدنة, وهو خطاب فقط لتجميل الصورة واستيعاب الضغوط الداخلية والعالمية المتزايدة, ومن ناحية أخرى تطلق يد إسرائيل فى استمرار عدوانها وتزودها بكل أنوع الأسلحة فى حرب غير متكافئة يدفع ثمنها بالأساس المدنيون الأبرياء من النساء والأطفال.
خامسا: إن هذا الانحياز والدعم المطلق لإسرائيل يضر بالمصالح الإستراتيجية الأمريكية فى منطقة الشرق الأوسط. كما أنه يغذى بيئة التطرف والعنف, حيث تستغل التنظيمات الإرهابية والمتطرفة ما يحدث فى غزة لتبرير شرعية أعمالها, إضافة إلى إشعال ثقافة الكراهية والصدام بين الديانات والحضارات.
سادسا: أثبت الفيتو الأمريكى مجددا أنه لابد من إصلاح مجلس الأمن الدولى الذى أصبح عاجزا عن أداء دوره فى حفظ السلم والأمن الدوليين, بسبب الفيتو الذى تحظى به الدول الكبرى وعدم تمثيل المجلس للمجتمع الدولى. وفى الوقت الذى طالب فيه الرئيس بايدن بإصلاح المجلس ووضع ضوابط على استخدام الفيتو وإدخال دول جديدة لعضوية المجلس بسبب استخدام روسيا حق الفيتو فى الأزمة الأوكرانية, نجده يستخدم الفيتو بشكل غير مبرر لصالح إسرائيل، وهو ما يعكس الازدواجية الأمريكية وعدم الرغبة الحقيقية فى إصلاح المجلس.