طُرحت قضية الذكاء الاصطناعي واستخداماته الأمنية ضمن أجندة مؤتمر ميونيخ في دورته رقم 55 التي عُقدت خلال الفترة (15-17 فبراير 2019). وأشار تقرير ميونيخ للأمن 2019، إلى ارتفاع حجم الاستثمار في هذا المجال إلى أعلى مستوياته خلال عام 2018 ليصل إلى أكثر من 50 مليار دولار، أي حوالي ضعف حجم الاستثمارات في المجال نفسه خلال عام 2017، ما يعني أن المجتمع الدولي بات مُدركًا أهمية توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي والثورة الرقمية والتكنولوجيا في مختلف المجالات.
ويسعى هذا التقرير إلى إلقاء الضوء على أبرز تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المجال الأمني، وحدود الدور الذي يمكن أن يلعبه عسكريًّا وأمنيًّا، مع تناول طبيعة التنافس الدولي في هذا المجال، وصولًا للتهديدات المُحتملة التي يُمكن أن تنجم عن استخدامات الذكاء الاصطناعي.
أبرز التطبيقات العسكرية للذكاء الاصطناعي
يعمل الذكاء الاصطناعي على محاكاة الذكاء البشري من خلال القدرة على التعلم والاستنتاج واتخاذ القرار، والقيام بردود أفعال مختلفة، وذلك من خلال إنشاء برامج حاسوبية قادرة على التفكير بالطريقة التي يعمل بها العقل البشري. ومن ثمّ، من المتوقع أن يتم دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات، إذ قد تُستخدم بصورة مزدوجة بحيث يمكن توظيفها لتحقيق أغراض مدنية وحياتية تُسهّل من حياة البشر، وفي الوقت ذاته يمكن استخدامها عسكريًّا وأمنيًّا عبر مجموعة من التطبيقات. ونشير فيما يلي إلى أبرز التطبيقات والنظم العسكرية التي استفادت من الذكاء الاصطناعي، حيث لعب الأخير دورًا بارزًا في تحديث وتطوير تلك النظم، كما مهّد لقيامها بأدوار متقدمة في مسرح العمليات العسكرية.
1- نظم الأسلحة ذاتية التشغيل
يتمتع هذا النمط من نظم الأسلحة بدرجة كبيرة من الاستقلالية والعمل بدون تدخل العنصر البشري، إذ تتمكن من رصد وتتبع وتحديد ومراقبة الأهداف ومن ثم مهاجمتها. ووفقًا لتقرير ميونيخ للأمن 2019، فإن ما يقرب من 40% من المهام التي يقوم بها أفراد الخدمة العسكرية النظامية في الجيش الأمريكي يمكن أن تتم بصورة آلية، وذلك بغرض تحسين الأداء وتقليل المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها هذه القوى النظامية، حيث تقوم هذه النظم بالتعامل مع العبوات الناسفة، وإزالة الألغام، وتأمين الطرق، وتنفيذ مهام الاستطلاع.
ومن أمثلة هذه النظم نظام “فالانكس الصاروخي” MK 15 بالبحرية الأمريكية، ونظام المدفعية والهاون C-RAM. كما طوعت إسرائيل نظم أسلحة ذاتية التشغيل لصد الصواريخ قصيرة المدى والقذائف المدفعية عبر نظام “القبة الحديدية”. ناهيك عن قيام ألمانيا بتصميم منظومتها الدفاعية “مانتيس” MANTIS، بغرض حماية قواعد العمليات الأمامية للجيش الألماني في أفغانستان.
2- الطائرات بدون طيار (الدرونز)
تقوم الطائرات بدون طيار بتنفيذ مهام عديدة، تشمل الوظائف اللوجستية، ومراقبة الحدود، وتتبع العواصف، وإجراء عمليات التفتيش، وحمل الإمدادات والأسلحة، والتعرف على الأهداف الجوية، وقيادة وتوجيه المقاتلات الاعتراضية، وعمليات الإنذار، وعمليات الاستطلاع، ناهيك عن الانخراط في ساحات الصراع عبر تنفيذ مهام قتالية.
ومن أمثلة الطائرات التي تتولى مثل هذه المهام الدرونز الأمريكية من طراز “بريداتور” Predator، وطراز “وريبر” Reaper. كما تلجأ إسرائيل دائمًا إلى توظيف الدرونز من طراز “روخيف شمايم ” Sky Lark لأغراض التجسس والاستطلاع. وبالمثل قامت بريطانيا باستخدام الدرونز من طراز “الدبور الأسود” Black Hornet في أفغانستان عام 2013 للقيام بمهام عسكرية. الأمر ذاته استغله سلاح البحرية الأمريكية عبر الطائرة من طراز “كي ماكس” K-MAX بغرض تقديم الدعم اللوجيستي للوحدات الأمريكية المقاتلة في أفغانستان. من ناحية أخرى، عملت وكالة الأبحاث الدفاعية الأمريكية DARPA في أوائل عام 2018 على تطوير الدرونز البحري وذلك من خلال اختبار أول نموذج للطائرات بدون طيار تحت سطح البحر Sea Hunter، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى ثورة في العمليات البحرية الأمريكية، إذ تتمكن هذه الطائرة من البقاء نحو 90 يومًا في البحر دون طاقم، وهو ما يسمح بحرية التنقل في البحار بشكل مستقل، وتتبع ومراقبة سفن العدو ومجابهة المخاطر تحت الماء والعمل على تنسيق المهام مع السفن الأخرى غير المأهولة.
3- أسراب الدرونز
تقوم فكرة “أسراب الدرونز” على قيام مجموعة من الطائرات بدون طيار من العمل بشكل جماعي، والتحرك بصورة ذاتية لتنفيذ مهام قتالية، وتحديد مواضع أجهزة الرادار، ومن ثم تدميرها. ناهيك عن استخدامها كوسيلة للخداع أو التشويش، حيث يصعب إسقاط هذه الطائرات بقذيفة واحدة لصغر حجمها على خلاف الطائرات التقليدية التي يمكن إسقاطها بسهولة. وقد عمل عدد من الدول على اختبار هذه التقنية، إذ قامت الولايات المتحدة الأمريكية في نوفمبر 2016 باختبار سرب من 5 طواقم بحرية من دون طيار، وتدريبه على القيام بدوريات على بعد 4 كلم من خليج “تشيزبيك” Chesapeake Bay. وقد نجح هذا السرب في اعتراض سفينة بحرية. من ناحية أخرى، أطلقت الولايات المتحدة في يناير 2017 سربًا من الطائرات بلغ عدده 103 طائرات من طراز “بريديكس” Predix. وبالمثل، اختبرت “المجموعة الصينية لتكنولوجيا الإلكترونيات” في يونيو 2017 سربًا من الدرونز وصل عدده إلى 119 طائرة بدون طيار.
4- الروبوتات ذاتية التحكم
تُستخدم هذه النظم بغرض تحديد الأهداف المحتملة، والقيام بدوريات حراسة، بالإضافة إلى عدد من المهام الاستطلاعية. وتحتاج هذه التقنية إلى التدخل البشري. وقد تم اللجوء إليها في عدة مناسبات، إذ قامت كوريا الجنوبية في عام 2014 باستخدام “الروبوتات ذاتية التحكم” في دوريات الحراسة على طول المناطق الحدودية مع كوريا الشمالية، وقامت روسيا باختبار “الروبوتات ذاتية التحكم” “أوران-6″Uran-6) ) في سوريا ضد الجماعات والتنظيمات الإرهابية بغرض القيام بعمليات هجومية واستطلاعية، والمساعدة في توفير الدعم الناري للمشاة وتدمير القوات المعادية. وتشير التقديرات إلى أن عدد الروبوتات قد يتجاوز أفراد الخدمة الفعلية في الجيش الأمريكي بحلول عام 2025.
مهام عسكرية متعددة
اتجهت الدول الكبرى إلى ضخ المزيد من الاستثمارات ووضع الاستراتيجيات التي تُمكِّنها من تحقيق الريادة والأسبقية في مجال الذكاء الاصطناعي، وذلك بغرض تحقيق جملة من المكاسب السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، وهو ما ألمح إليه الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، عندما أشار إلى أن “من سيقود الذكاء الاصطناعي سيحكم العالم”، في دلالة على أن هذه التقنية أصبحت مرتكزًا أساسيًّا في دعم القوة الوطنية للدولة في المستقبل. ويدفعنا ذلك إلى توضيح عددٍ من المهام والوظائف العسكرية التي يمكن أن تتحقق بفضل تطوير وتعزيز هذه التقنيات.
1- المراقبة والاستطلاع: حيث يمكن توظيف الطائرات بدون طيار وأسراب الطائرات في جمع كمية هائلة من المعلومات الاستخباراتية والمساهمة في تحليلها، عبر التقاط الصور والفيديوهات في مناطق الصراعات، والعمل على مراقبة وتحديد أماكن النشاطات العدائية ومن ثم استهدافها، وهو ما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية في حربها ضد “داعش” عبر مشروع Project Maven الذي أطلقته وزارة الدفاع في أبريل 2017، بغرض رصد وتجميع المعلومات للمساهمة في دعم عمليات مكافحة التمرد والإرهاب.
2- تأمين الحدود: حيث يمكن لتطبيقات الذكاء الاصطناعي المساهمة في تأمين الحدود، خاصة إذا وجدت الدولة صعوبة في نشر قواتها على طول شريطها الحدودي مع دول أخرى. إذ يمكن تطوير هذه التطبيقات لمراقبة الحدود آليًّا، والكشف عن الحالات والوقائع التي يمكنها أن تؤثر على السلامة الإقليمية للدولة وانتهاك حدودها. كما أن بإمكانها أن تساهم في مواجهة أعمال التهريب واختراق الحدود والهجرة غير الشرعية ومجابهة الخصوم.
3- المهام اللوجستية: حيث يمكن أن تلعب تقنيات الذكاء الاصطناعي دورًا لوجستيًّا مهمًّا من خلال القيام ببعض الأعمال العسكرية غير القتالية؛ إذ بإمكان الدول تطويعها للتنبؤ بالأعطال أولًا بأول، وتحديد نوعية وطبيعة الصيانات والإصلاحات اللازمة، بدلًا من إجراء الإصلاحات عند توقف عمل المعدات العسكرية أو الانتظار إلى مواعيد الصيانة الدورية.
4- القيادة والتحكم: ففي حالة نشوب المعارك والنزاعات، ومع سرعة تدفق المعلومات، يمكن أن تلعب نظم الذكاء الاصطناعي دورًا في القيادة والتحكم من خلال معالجة المعلومات والبيانات، والمساهمة في فهم المتغيرات الميدانية التي تطرأ على ساحة المعركة، ومن ثم اتخاذ القرار الصحيح في وقت أقل عبر إصدار الأوامر للقوى البشرية أو الروبوتات الآلية.
5- المهام السيبرانية: حيث يمكن أن تلعب تقنية الذكاء الاصطناعي دورًا محوريًّا فيما يتعلق بعمليات الفضاء السيبراني، وكذا مواجهة عمليات الاحتيال والقرصنة الإلكترونية والهجمات الخبيثة؛ إذ يمكن لهذه التقنية توقع الخطر والتهديد، ورصد مصادره والتعرف على هوية المهاجم وتحديد خريطة الهجوم ومدى تأثيره، ومن ثم اتخاذ الإجراءات الوقائية والدفاعية. ويعني ذلك أن استخدام الذكاء الاصطناعي في هذا المجال قد يلعب دورًا مزدوجًا دفاعيًّا وهجوميًّا في آنٍ واحد.
الذكاء الاصطناعي.. سلاح ذو حدين
لا شك أن القدرة على تطويع وتطوير تقنية الذكاء الاصطناعي ستمثل مستقبلًا أحد مؤشرات قياس قوة الدولة. لكن هذا التطور يظل سلاحًا ذا حدين، فرغم أنه يضمن مجموعة من المزايا للدول التي تمتلكه، إلا أنه يترك خلفه جملة من التهديدات، نوجزها فيما يلي:
1- تزايد حالة اللا يقين الدولي: ويزداد هذا التخوف في ضوء توسع الدول الكبرى في تطبيق استراتيجيات لتطوير واستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، الأمر الذي يزيد الشكوك حول طرق وكيفية استخدام هذه التكنولوجيات الجديدة. فقد وضعت الصين استراتيجية تسعى من خلالها إلى أن تصبح رائدة في هذا المجال بحلول عام 2030، وأصبحت الصين بالفعل من أكثر الدول جذبًا لاستثمارات الذكاء الاصطناعي وتمويله؛ حيث بلغت حصة الصين نحو 60% من الاستثمارات العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي خلال الفترة من 2013 حتى 2018. وبالمثل تعمل روسيا على أن يصبح 30% من معداتها العسكرية روبوتية بحلول 2025، وذلك وفقًا لبرامج تحديث عسكرية كانت قد بدأتها منذ عام 2008. كما تستمر الولايات المتحدة الأمريكية في تعزيز قدراتها في هذا المجال وفقًا لاستراتيجية البنتاجون 2018 التي دعت إلى تسريع استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي في جميع فروع الجيش الأمريكي.
2- التطويع لأغراض إرهابية: فكما تتيح تقنيات الذكاء الاصطناعي إمكانات هائلة للدولة والجيوش النظامية، فإنها تتيح أيضًا إمكانات مهمة للجماعات والتنظيمات الإرهابية. فقد أشارت بعض التقارير إلى نجاح تنظيم “داعش” في استخدام الطائرات بدون طيار في حمل المتفجرات والمراقبة ورصد الأهداف خلال الأزمة السورية. كما كشفت وزارة الدفاع الروسية عن إحباط محاولة هجوم للجماعات المُسلحة باستخدام 13 طائرة مُسيّرة للهجوم على قاعدة حميميم ونقطة دعم القوات البحرية الروسية في طرطوس وذلك في يناير 2018. وبالمثل، قام الحوثيون باستخدام سلاح الجو المُسيّر خلال عام 2018 في 38 مناسبة، من بينها 28 عملية داخل اليمن، مقابل 10 عمليات ضد منشآت وتجمعات عسكرية في السعودية والإمارات، وهو ما يعني أن خطر هذه التقنية قد يمتد ليصل بسهولة إلى أيدي الجماعات والتنظيمات الإرهابية.
3- خداع واختراق المجتمعات: يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي في اختراق خصوصية المجتمعات والتأثير على منظومتها القيمية، عبر تطبيقات دراسة أنماط الاستهلاك والتفكير والتفاعل، ثم نشر الأكاذيب والتقارير المزيفة، والتأثير على الرأي العام تجاه القضايا السياسية وتغيير التوجهات العامة لمجتمع ما، بل وحشده لدعم وتأييد أفكار محددة دون الأخرى، وهو ما بدا واضحًا من خلال اتهام الاستخبارات الأمريكية للحكومة الروسية بالتأثير على نتائج انتخابات الرئاسة الأمريكية 2016 لصالح “دونالد ترامب” على حساب “هيلاري كلينتون” عبر عملية قرصنة لرسائل البريد الإلكتروني.
4- تراجع المسئولية الأخلاقية: يؤدي استخدام الذكاء الاصطناعي إلى غياب المسئولية الأخلاقية والقانونية، خاصة في ظل الصراعات والنزاعات المُسلحة، حيث لا تراعي هذه التقنيات الأعراف والمواثيق الدولية والإنسانية التي تفرض التمييز بين الأهداف المدنية والعسكرية. ففي الوقت الذي يتمكن فيه العنصر البشري من تحديد أهدافه بما لا يخالف الأعراف الدولية ويتفق مع القانون، تفشل الروبوتات والأسلحة ذاتية التشغيل في استشعار الفرق بين الأهداف العسكرية والأهداف المدنية التي لا يجب أن تكون هدفًا.