احتضنت العاصمة النيجرية نيامي في السادس من يوليو 2024، قمة بحضور رئيس النظام العسكري في النيجر الجنرال عبد الرحمن تشياني، ورئيس المجلس العسكري الحاكم في بوركينا فاسو ابراهيم تراوري، ورئيس المجلس العسكري المالي العقيد أسيمي غويتا، وتُعد هذه القمة فريدة من نوعها، حيث أنها أول مرة يجتمع قادة الدول الثلاث منذ وصولهم إلى السلطة في انقلابات وقعت في الفترة من 2020 إلى 2023. وقد أسفرت القمة عن الإعلان عن بتوقيع معاهدة إنشاء اتحاد كونفيدرالي فيما بينها باسم “تحالف دول الساحل”(AES)، لتعزيز التعاون العسكري والسياسي ومواجهة التحديات المُشتركة التي تواجهها الدول الثلاث. وتطر ح هذه الورقة البحثية تساؤلات بشأن ما هي دوافع تشكيل كونفيدرالية الساحل، وما هي مخرجات القمة الأولى، ودلالات انعقادها.
مُحفزات تشكيل كونفيدرالية الساحل
يتناول هذا الجزء من الورقة البحثية المُحفزات التي دفعت لتشكيل كونفيدرالية الساحل، والتي يمكن تقسيمها إلى عوامل داخلية وإقليمية وخارجية، والتي يمكن توضيحها على النحو التالي:
- عوامل داخلية:
أ- تشابه أصول النخب: هناك تقارب فكري بين قادة الدول الثلاث، حيث نجد أن النخبة التي تتولى الحكم في الدول الثلاث قد ظهرت في سياق عدم الاستقرار السياسي وتدهور الأوضاع الأمنية وتصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية، وهو ما دفع النخبة العسكرية للقيام بانقلابات عسكرية. ونجد أن هذه النخبة تحظى بظهير شعبي؛ إذ ينجح قادة النخبة العسكرية في تقديم أنفسهم كبديل عن النخب السياسية المدنية العاجزة عن معالجة التحديات التي تواجه البلاد. وهو ما يمكن توضيحه وفي حالة دولة مالي، قاد العقيد أسيمي غويتا انقلابًا عسكريًا في مالي ضد الرئيس الانتقالي باه نداو ورئيس حكومته مختار وان، بعدما كان من المفترض أن يقودا البلاد حتى 2022 موعد إجراء انتخابات جديدة، وتسليمها إلى سلطة مدنية. فقد أمر غويتا باعتقال الرجلين يوم 24 مايو 2021، متهمًا إياهما بـانتهاك الميثاق الانتقالي، والسعي لتخريب العملية الانتقالية. والجدير بالذكر نجد أن هذا الانقلاب العسكري هو الثاني من نوعه الذي قاده غويتا، فقد سبق له الإطاحة بالرئيس المدني الأسبق إبراهيم أبو بكر كيتا في أغسطس 2020. وفي حالة بوركينا فاسو، حيث نجد أن الكابتن إبراهيم تراوري كان أحد الضباط الشباب الذين أطاحوا بالرئيس المنتخب في بوركينا فاسو روش مارك كريستيان كابوري في 24 يناير2021، لكن نجد أن الزعيم العسكري بول هنري داميبا تصدر المشهد وحكم البلاد، وتزعم تراوري الانقلاب الذي أطاح بالزعيم العسكري بول هنري داميبا في 30 سبتمبر 2022، برفقة مجموعة من العسكريين. وبالنسبة للنيجر، قد وقع انقلاب عسكري في النيجر في 26 يوليو 2023؛ إذ قامت قوات الحرس الرئاسي بالتحفظ على الرئيس النيجري محمد بازوم ومنعه من الخروج من القصر الرئاسي. وقد تولى عبد الرحمن تشياني السلطة في النيجر بعد الانقلاب العسكري.
ب- تصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية: تشهد دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو في منطقة الساحل الأفريقي انتشارًا واسعًا للتنظيمات الإرهابية، وهو ما يُشكل تهديدًا خطيرًا للأمن والاستقرار في المنطقة. ووفقًا لبيان “مؤشر الإرهاب العالمي” لعام 2023 فإن بوركينا فاسو تحتل المرتبة الثانية بعد أفغانستان، بينما تأتي مالي والنيجر في قائمة الدول الـ 10 الأكثر سوءًا في العالم من حيث الإرهاب والعنف والتطرف. ونجد من أبرز التنظيماتِ الإرهابيةِ النشطة في هذه المنطقةِ؛ جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التي تنتشر في مالي والنيجر وبوركينافاسو، وترتبط بتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، وتنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى الذي يرتبط بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام. ونجد أن دول مالي والنيجر وبوركينافاسو تُعاني من انتشار واسع للجماعاتِ الإرهابية، خاصةً في منطقة “ليبتاكو غورما” الحدوديةِ بين الدول الثلاث، وتُنفذ هذه الجماعات هجمات عنيفة ضد المدنيين والعسكريين؛ مما يُؤدي إلى سقوط العديدِ من القتلى والجرحى، ونزوحِ الآلافِ من السكانِ. وفي سبيل مواجهة التحديات الإرهابية، وقعت الدول الثلاث ميثاق “ليبتاكو غورما” في 16 سبتمبر 2023 والقاضي بإنشاء تحالف دول الساحل، والذي من ضمن أهدافه “محاربة الجماعات الإرهابية التي تنشط في المنطقة الحدودية المشتركة بين الدول الـ3”.
- عوامل إقليمية: نجد أن تدهور العلاقة بين الدول الثلاث والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، قد ساهم في التقارب بين الدول الثلاث. فقد تدهورت علاقة الدول الثلاث مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) منذ انقلاباتهم (مالي في عام 2021، وبوركينا فاسو في عام 2022، والنيجر في عام 2023)، كما انتهجت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) سياسة العقوبات على مالي وبوركينافاسو والنيجر في محاولة لتعزيز العودة إلى الحكم المدني، كما تم تعليق عضويات الدول الثلاث نتيجة لانقلاباتها. وقد وصلت التوترات إلى ذروتها عندما هددت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) بالتدخل العسكري في أعقاب انقلاب النيجر في يوليو 2023، عندما تمت الإطاحة بالرئيس محمد بازوم. وفي 28 يناير 2024، أعلنت كل من النيجر ومالي وبوركينا فاسو الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس). وتم تبرير الانسحاب بناءً على مجموعة من الأسباب؛ العقوبات القاسية التي فرضتها إيكواس على مالي وبوركينافاسو والنيجر بعد الانقلابات العسكرية، وقد شملت هذه العقوبات تجميد المساعدة المالية وتقييد حركة التجارة، وهو ما يفاقم معاناة الشعب، إلى جانب عدم تقديم إيكواس الدعم الكافي لمكافحة الإرهاب، خاصة على الحدود المشتركة بين الدول، كما اتهمت الدول الثلاث إيكواس بأنها مجرد أداة في يد فرنسا، ولا تعمل على تلبية مصالح الدول الأعضاء في غرب أفريقيا.
- عوامل خارجية: شهدت العلاقات بين فرنسا ودول الساحل، وخاصةً النيجر ومالي وبوركينا فاسو، تدهورًا ملحوظًا خلال السنوات الأخيرة. ويعود ذلك إلى عدة عوامل؛ تشمل: إدانة فرنسا للانقلابات العسكرية التي حدثت في مالي عام 2020، وفي بوركينا فاسو عام 2022، وفي النيجر عام 2023، وطالبت بعودة الحكم المدني؛ مما أثار استياء هذه الدول. تُشارك فرنسا بقوات عسكرية في منطقة الساحل لمكافحة الجماعات المسلحة المتطرفة، ولكن تُواجه هذه القوات معارضة متزايدة من السكان المحليين، الذين يتهمونها بعدم بذل جهد كافٍ لمكافحة الإرهاب والتسبب في انتهاكات حقوق الانسان. كما يتم توجيه الاتهام لفرنسا بأنها تعمل على الحفاظ على نفوذها الاستعماري في المنطقة، وممارسة التدخل في شئونها الداخلية. وقد أدى ذلك إلى تنامي المشاعر المعادية لفرنسا في هذه الدول، وهو ما أجبر فرنسا على سحب قواتها من مالي عام 2022، كما اضطرت فرنسا لسحب قوتها الخاصة من بوركينا فاسو بطلب من المجلس العسكري الحاكم؛ إذ بدأ التحرك المعادي لفرنسا في بوركينا فاسو في نهاية 2022 عندما خرجت “مظاهرات” شعبية تطالب برحيل الجنود الفرنسيين من البلاد لفشلهم في وضع حد لنشاط تنظيمي “القاعدة” و”الدولة الإسلامية”. كما أعلنت فرنسا في 24 سبتمبر 2023، سحب السفير الفرنسي من النيجر ومغادرة الجنود الفرنسيين الـ1500 المتمركزين في النيجر نهاية عام 2023 بعد وجود عسكري امتد عشرة أعوام.
دلالات انعقاد القمة الأولى
صرح رئيس المجلس العسكري في النيجر الجنرال عبد الرحمن تشياني أمام نظيريه البوركينابي النقيب إبراهيم تراوري، والمالي الكولونيل أسيمي غويتا، “بأن شعوب الدول الثلاث قد قررت أن تدير ظهرها ” لإيكواس” الفرنسية بشكل لا رجعة فيه، وإن اتحاد دول الساحل هو كيان بديل لأي مجموعة إقليمية مصطنعة تسيطر عليها قوة أجنبية”. وهذا التصريح يمكن تفسيره بأن قيام المجالس العسكرية في بوركينا فاسو ومالي والنيجر بتدشين اتحاد كونفيدرالي، بأنه يعنى أن هناك رغبة صريحة بالانفصال عن الكتلة السياسية والاقتصادية الرئيسية في غرب أفريقيا، وهو ما يعني أن الجهود التي بذلتها المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا للمصالحة مع قادة الدول الثلاث، لم تؤتِ بثمارها؛ إذ كلفت المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا الرئيسين السنغالي والتوغولي بالتفاوض مع قادة الدول الثلاث. ولذلك نجد أن المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا أدانت تشكيل اتحاد دول الساحل، وذلك في ضوء التداعيات السلبية الناجمة عن انفصال الثلاث دول عن المجموعة، والتي يمكن توضيح أبرزها، وذلك على النحو التالي:
- تراجع الحكم الديمقراطي وتعزيز العلاقات مع الشركاء غير الغربيين: تدشين تحالف دول الساحل الذي يقوده الأنظمة العسكرية في مالي وبوركينافاسو والنيجر، يعنى أن هناك احتمالية لقيام انقلابات عسكرية، والاطاحة بأنظمة الحكم المدنية في منطقة غرب أفريقيا. إلى جانب انحسار النفوذ الغربي، حيث نجد أنظمة دول تحالف الساحل الثلاثة عملت على تبني سياسة خارجية موحدة من خلال طرد العديد من القوات الشريكة الأمريكية والفرنسية لصالح تعاون أوثق مع “شركاء بديلين ” منذ الاستيلاء على السلطة، مثل الصين وإيران وروسيا وإيران. ونجد أن هناك حضورًا للفيلق الأفريقي التابع لوزراة الدفاع الروسية في دول تحالف الساحل، لدى روسيا ما يقرب من 2000 جندي في مالي، وحوالي 200 جندي من الفيلق الأفريقي في بوركينا فاسو، وما لا يقل عن 100 جندي آخر من الفيلق الأفريقي في النيجر. كما وقعت العديد من الشركات الروسية الخاصة والمملوكة للدولة العديد من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم بشأن التعاون النووي المدني والتعاون العسكري الفني وتعدين الموارد الطبيعية وبناء مصافي الذهب والاتصالات مع دول تحالف الساحل منذ سبتمبر 2023.
- تقويض جهود مكافحة الإرهاب: أن الانسحاب من شأنه أن يقوض الجهود الرامية إلى مكافحة الإرهاب. ومن شأن انسحاب هذه الدول استبعاد الدول الثلاث التي تقع في قلب التمرد السلفي الجهادي في منطقة الساحل من أي قوة إقليمية لمكافحة الإرهاب، وكذلك تقويض آليات التنسيق الموجودة مسبقًا خاصة في مجال تبادل المعلومات الاستخباراتية.
- إعاقة التكامل الاقتصادي: فمن شأن الانسحاب أن يعقد التكامل الاقتصادي، مثل العملة المشتركة، حيث لم تنسحب دول تحالف الساحل من الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا الذي يربط حاليًا دول تحالف الساحل وأعضاء المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا بفرنك الجماعة المالية لأفريقيا. ومع ذلك، فقد ناقشت كل من دول تحالف الساحل والجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا خططًا مختلفة لاستبدال فرنك الجماعة المالية لأفريقيا بعملة إقليمية، الأمر الذي يهدد بإنشاء عملتين إقليميتين مختلفتين. كما سيؤدي الانسحاب إلى تعليق تمويل مشاريع اقتصادية تزيد قيمتها على 500 مليون دولار في بوركينا فاسو ومالي والنيجر.
وفي ضوء ما سبق، نجد أن تحالف دول الساحل عملت على إيجاد مقاربة بديلة عن الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، من خلال تبني مجموعة من القرارات خلال القمة الأولى لتحالف دول الساحل، والتي عُقدت في السادس من يوليو 2024، والتي يمكن استعراض أبرزها؛ الارتقاء بتحالف دول الساحل إلى صفة كيان كونفيدرالي. وتعيين العقيد غويتا رئيسًا له مدة سنة واحدة، وإعادة تأسيس الدول الثلاث على قيم تحترم الخصوصية التاريخية والثقافية والاجتماعية لشعوب المنطقة، والتنسيق الدبلوماسي وتوحيد المواقف في الساحات الدولية، والعمل على مكافحة الإرهاب الذي يضرب المنطقة بشدة، والمساهمة في تحقيق السلام والأمن على المستوى الدولي، وإنشاء برلمان مشترك لاقتراح القوانين والاتفاقيات التي تهم مصالح الدول الثلاث، وإنشاء بنك استثماري وصندوق استقرار لتحالف دول الساحل وتجميع مواردها لإقامة مشروعات في القطاعات الاستراتيجية، بما في ذلك التعدين والطاقة والزراعة.
وفي الختام، يمكن القول إن توقيع المجالس العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، على المعاهدة الكونفيدرالية، سيؤدي إلى رسم خريطة غرب أفريقيا؛ بتدشين هياكل تعاونية جديدة لمعالجة التحديات المُشتركة؛ إذ لم تتمكن المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا المدعومة من القوى الغربية من حل الأزمات الإقليمية بشكل يتسم بالفاعلية، وإحراز تقدم في الحرب ضد الإرهاب.