انتخب قائد الجيش اللبناني “جوزيف عون” رئيسًا للجمهورية في جلسة مجلس النواب اللبناني المنعقدة في 9 يناير 2025، وبحضور ممثلين دوليين بعد فترة شغور دامت أكثر من سنتين منذ انتهاء فترة ولاية الرئيس السابق “ميشال عون” في أكتوبر 2022. فقد اجتمع مجلس النواب نحو 12 مرة، وكانت آخرها في 14يونيو2024، لكن لم تفلح جلسات الانعقاد في اختيار الرئيس، نتيجة عدم اكتمال النصاب، وتعطيل عملية الانتخاب من قبل بعض القوى السياسية. ضمن هذا الإطار يناقش التحليل السياق المحفز لانتخاب الرئيس “جوزيف عون”، والتحديات القائمة على أجندة الرئيس، ومستقبل لبنان في ظل هذه التحديات.
سياق محفز:
ترشح لمنصب رئيس الجمهورية في لبنان عدة أسماء منها؛ رئيس تيار المردة “سليمان فرنجية”، والوزير السابق “زياد بارود”، وقائد الجيش اللبناني “جوزيف عون”، ثم تراجع كل من “فرنجية” و”بارود” عن الترشح، وبرز العماد “جوزيف عون”. وبحسب العرف السائد في لبنان، تنعقد جلسة مجلس النواب اللبناني لاختيار رئيس الجمهورية، وقد انعقدت جلستي مجلس النواب اللبناني في 9 يناير الجاري، بحضور ممثلين دوليين منهم وزير الخارجية الفرنسي “جان إيف لودريان”، والأمير السعودي “يزيد بن فرحان”.
حصل الرئيس اللبناني “جوزيف عون” خلال الجلسة الأولي على 71 صوتًا، بينما صوت 37 نائبًا بورقة بيضاء، في مقابل 20 ورقة ملغاة. ثم عقدت جلسة ثانية في اليوم ذاته لعدم تحقيق الأصوات المطلوبة بنحو 86 صوتًا من إجمالي عدد أعضاء مجلس النواب بنحو 128 نائبًا، وقد حصل الرئيس “عون” في الجلسة الثانية على 99 صوتًا، و9 أوراق بيضاء، في مقابل 18 ورقة ملغاة.
فوفق المادة 49 من الدستور اللبناني “ينتخب الرئيس بالاقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولي، ويكتفي بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التالية، وتستمر مدة الرئاسة ست سنوات، ولا يجوز إعادة انتخابه إلا بعد ست سنوات لانتهاء ولايته، ولا يجوز انتخاب أحد لرئاسة الجمهورية مالم يكن حائزًا على الشروط التي تؤهله للنيابة وغير المانعة لأهلية الترشيح، ولا يجوز انتخاب القضاة وموظفي الفئة الأولي، وما يعادلها في جميع الإدارات والمؤسسات العامة، وسائر الأشخاص المعنويين في القانون العام، مدة قيامهم بوظيفتهم، وخلال السنتين اللتين تليان تاريخ استقالتهم، وانقطاعهم فعليًا عن وظيفتهم، أو تاريخ إحالتهم على التقاعد”.
وقد أثيرت إشكالية حول مدى قانونية ترشح العماد “جوزيف عون” كونه كان قائدًا للجيش، لكن حظي اسمه بدعم داخلي وإقليمي ودولي، خاصة من قبل المجموعة الخماسية المعنية بملف لبنان والتي ضمت (الولايات المتحدة، فرنسا، مصر، السعودية، قطر)، والتي اجتمعت أكثر من مرة خلال العامين الماضيين للتنسيق بشأن الأزمات التي تشهدها لبنان. وأيدت اللجنة والمبعوث الأمريكي “آموس هوكشتاين”، والممثل السعودي “يزيد بن فرحان” ترشيح عون رئيسًا للجمهورية، بالإضافة إلى تأييد فرنسا له خلال اجتماع اللجنة في باريس في فبراير 2024. وعقب نجاح جلسة البرلمان اللبناني في اختيار الرئيس “جوزيف عون” لاقى ذلك ترحيبًا دوليًا وإقليميًا، وقد عبرت الرئاسة الفرنسية في بيانها عن دعم الحوار الوطني الذي سيقوده الرئيس “جوزيف عون”، بالإضافة إلى دعمها للقوات المسلحة اللبنانية على المستوي الوطني، وفى إطار اليونيفيل.
يضاف إلى ذلك أن السياق الإقليمي والدولي محفزًا لعملية اختيار رئيسًا للجمهورية في لبنان، خاصة بعد الحرب التي اندلعت بين حزب الله وإسرائيل منذ 8 أكتوبر 2023، حتى التوصل إلى اتفاق للهدنة في 26 نوفمبر 2024، وما أحدثته هذه الحرب من اضعاف قدرات حزب الله، وضرورة استعادة الدولة اللبنانية بعد الدمار الذي شهدته باستكمال خطوات المسار الإصلاحي من حيث اختيار رئيسًا للجمهورية، وتشكيل الحكومة لمواجهة التحديات الداخلية، والمشاكل الحدودية العالقة مع إسرائيل.
علاوة على أن الرئيس “ميشال عون” يحظى بدعم السعودية، وتفرض الأوضاع المتأزمة في لبنان الحاجة إلى الدعم الخليجي لإعادة إعمار الدولة خاصة أن تكلفة الدمار الذي خلفته الحرب مع إسرائيل بلغت 8.5 مليار دولار. وقد شهدت أغلب القري الشيعية دمارًا في هذه الحرب، وربما هذا ما دفع حزب الله وحركة أمل تقديم تنازلات، وتمرير عملية اختيار الرئيس، وليس تعطيلها في ظل الضعف الذي يعاني منه الحزب في الوقت الحالي، وعدم قدرة طهران على تقديم الدعم للحزب في ظل تراجع النفوذ، ومحاولتها لإعادة صياغة وبلورة استراتيجياتها وتحركاتها الإقليمية في ظل ضغوط محيطة، وقدوم إدارة ترامب الثانية في 20 يناير 2025.
تحديات قائمة:
تحمل أجندة الرئيس اللبناني “جوزيف عون” عدة تحديات تشهدها الدولة تقتضي التعاطي معها ومواجهتها منها:
•تشكيل الحكومة الجديدة: ستواجه لبنان تحدي استكمال خطوات تشكيل الحكومة الجديدة بعد التوافق في الاستشارات النيابية في 13 يناير الجاري حول “نواف سلام” رئيسًا للوزراء، وتقاسم الحقائب الوزارية بين القوي السياسية المختلفة، ثم اصدار مرسوم تسمية رئيس الحكومة من قبل رئيس الجمهورية، وتشكيل الحكومة بالاتفاق مع رئيسها، تلي هذه الخطوات تقدم الحكومة ببيانها الوزاري لنيل الثقة خلال شهر من صدور مرسوم تشكيلها، وتطرح سياستها أمام مجلس النواب. وعقب استقرار خطوات تشكيل الحكومة، تبدأ عملية إحالة مشروعات القوانين المرفوعة من مجلس الوزراء إلى مجلس النواب، وقد شهدت الفترة الماضية قوانين عديدة معطلة كون الحكومة السابقة كانت حكومة تصريف أعمال، بالإضافة إلى الحاجة إلى إصلاحات داخلية في بنية ومؤسسات الدولة، وفى تقديم الخدمات العامة للمواطنين خاصة أن الرأي العام اللبناني يعاني حالة من فقدان الثقة في القوى السياسية، وفى حزب الله باعتبارهما المسؤولين عن الدمار الذي شهده لبنان.
• الأزمة الاقتصادية: وفق تقديرات البنك الدولي، يعاني لبنان من انخفاض في الناتج المحلي بنسبة 6.6 في العام 2024، وتدهور بسبب انخفاض في إيرادات المالية العامة، وتخلف لبنان عن سداد الديون، وانخفاض في قيمة الليرة اللبنانية، وتراجع في مستوى رواتب الجنود في الجيش اللبناني والذى انخفض إلى أقل من 100 دولار، علاوة على ارتفاع معدل البطالة إلى 29.6% في العام 2022، والنقص الحاد في مواد الوقود بما قاد إلى تكرار انقطاع الكهرباء، وتأثير ذلك على خدمات الرعاية الصحية، والمياه. كذلك أثر انفجار مرفأ بيروت منذ أغسطس 2020 على بنية الدولة، بالإضافة إلى تحدي إجراء اتفاق صندوق النقد الدولي.
• مواجهة تهريب الكبتاغون: تعاني لبنان من إشكالية ضبط أمن الحدود، إذ كان حزب الله نشط في مسألة تهريب الكبتاغون، وحظي بنفوذ في بعض المناطق، والقرى الحدودية بين لبنان وسوريا، وقام بدور أساسي في عملية إنتاج وتهريب المخدرات من البقاع اللبناني الجنوبي. ومنحت الهيمنة السياسية للحزب على مؤسسات الدولة اللبنانية الانخراط في التجارة غير المشروعة، وعدم المحاسبة، كذلك وفر الوضع غير المستقر في سوريا السيطرة على الحدود، وإنشاء مصانع للمخدرات في المناطق السورية القريبة من لبنان، إذ شهدت قرى سورية نزوحًا للسكان مثل “مضايا” والزبداني”، وقد سيطر الجيش السوري، وحزب الله على هذه المناطق، وخضعت مواقع إنتاج الكبتاغون لإشراف حزب الله والفرقة الرابعة المدرعة في سوريا.
وكان حزب الله يقوم بشراء عقارات وأراضي في العديد من المناطق الشرقية على طول الحدود مع سوريا، وقد أقام مناطق عسكرية في هذه المنطقة بحيث لا يمكن للسلطات اللبنانية أو أي أشخاص غير تابعة لحزب الله الوصول إليها، وساهمت هذه المناطق في تسهيل الأنشطة التي يشارك فيها الحزب عبر الحدود، بما منحه إشرافًا أمنيًا على المناطق والقرى المحيطة، وكان يتم استقطاب العمال في مصانع إنتاج المخدرات نتيجة الظروف المعيشية الضيقة أو تعرضهم للترهيب، والمضايقات من الميليشيات المسلحة. كما ترك بعض الشباب التعليم للالتحاق بهذه التجارة، وتعاون حزب الله مع جهات غير حكومية في عمليات التهريب عبر الحدود، وتهريب المواد الكيميائية المستخدمة في تصنيع المخدرات عن طريق البحر من سوريا عبر اللاذقية، وكانت يتم شحن الكبتاغون إلى خارج لبنان، وتهريبه إلى السعودية وأوروبا، نتيجة سيطرة الحزب على ميناء بيروت والمطار الدولي.
ترتيبًا على ذلك، يقع على عاتق الرئيس “جوزيف عون” والحكومة اللبنانية التصدي لمسألة تهريب وتجارة المخدرات عبر الحدود مع سوريا وفي شرق لبنان، وهو تحدي كبير في ظل المتغيرات الجديدة في سوريا، وفى ظل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها الدولة اللبنانية، وحالة الإفلاس، وعدم وجود سياسات تنموية نتيجة عدم استقرار الأنظمة السياسية بها.
•اتفاق الهدنة وضبط الحدود الجنوبية: يقع على عاتق الرئيس مسألة ضبط أمن الحدود الجنوبية، وفرض سيطرة الدولة اللبنانية، وتنفيذ اتفاق الهدنة مع إسرائيل والذى تم التوصل إليه في 26 نوفمبر الماضي، من حيث تطبيق القرار 1701، ونشر الجيش اللبناني بعد سحب حزب الله لقواته ونزع سلاحه، بالإضافة إلى ضبط الأوضاع الأمنية الداخلية حتي لا يتم التصعيد مع الطرف الإسرائيلي خاصة أن اتفاق الهدنة يمنح إسرائيل التدخل عسكريًا في لبنان في حال حدوث خرق للاتفاق من جانب حزب الله بما يمثل ذلك حجه للاستمرار في حال عدم تطبيق القرار 1701، وبحسب الاتفاق تنسحب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان بعد شهرين من بدء الاتفاق.
مسارات محتملة
استنادًا إلى السابق، يمكن الإشارة إلى مسارين بشأن مستقبل الدولة اللبنانية فيما بعد انتخاب العماد “جوزيف عون” على النحو التالي:
الأول: مسار تحقيق الاستقرار النسبي في لبنان، والقدرة على إحداث توازن داخلي بين القوى السياسية في لبنان، خاصة أن شخصية الرئيس “جوزيف عون” تحظي بقبول من بعض الأحزاب اللبنانية، والأطراف الداعمة لمسار استقرار لبنان، بما يخفض من سيطرة حزب الله على مؤسسات الدولة، وضبط الأوضاع الأمنية الداخلية، وعمل الرئيس عون قبل قيادته للجيش في مارس 2017، قائدًا للواء المشاة التاسع في الجيش اللبناني، وخلال توليه منصب القائد، قام بالإشراف على عدة مهمات منها طرد داعش من شرق لبنان بالقرب من الحدود السورية. ولعب دورًا مؤثرًا في اشتباكات الطيونة في 14 أكتوبر 2021، إذ قام الجيش بحماية السكان المحليين من دخول المسلحين إلى المنطقة، واعتقل عناصر مسلحة من الطرفين، وتعامل بحنكة في فض الاشتباك بين الثنائي الشيعي ومؤيدي “حزب القوات اللبنانية”.
كذلك لدي الرئيس “جوزيف” القدرة على التفاوض في ملف نزع السلاح، وضبط الحدود، والموازنة بين كسب الدعم الدولي لتقوية دور الجيش اللبناني وجذب المساعدات الخارجية اللوجستية والإنسانية، حيث ضاعفت الولايات المتحدة من المساعدات المقدمة للجيش اللبناني بنحو 120 مليون دولار في العام 2021 لصيانة المعدات العسكرية للجيش اللبناني، كذلك للرئيس “جوزيف” القدرة على التشاور مع حزب لله والتنسيق بشأن مسألة نزع السلاح، وقد اجتمع برئيس لجنة الارتباط في الحزب “وفيق صفا” للتنسيق حول انتشار الجيش في جنوب الليطاني، والتمهيد لعملية نزع السلاح في ديسمبر 2024.
الثاني: استمرار مسار عدم الاستقرار السياسي والأمني في لبنان، ومواجهة تهديدات من قبل حزب الله سواء بعرقلة عملية الاستقرار، أو محاولات اختراق حزب الله لبعض مؤسسات الجيش، وهو ما يضع أمام الرئيس تحدي كونه القائد العام للقوات المسلحة بأن يولي اهتمامًا للأشخاص المعينين في المناصب العسكرية والأمنية، حتى لا تكون مقربة من حزب الله، وتضعف من وحدة وقوة الجيش اللبناني. علاوة على محاولة حزب الله عرقلة أي مسار للاستقرار في الدولة برفض تسليم السلاح، أو عرقلة عملية تشكيل الحكومة اللبنانية والمنوط بها معالجة الأزمات الاقتصادية والسياسية والأمنية التي تشهدها الدولة، وهو المسار الأخطر الذي يرتب تهميش لبنان دوليًا، وتفاقم أوضاعها المتردية كدولة فاشلة، وهو ما يفقدها أي دعم دولي أو عربي لمواجهة أزماتها المستقبلية، بالإضافة إلى خطورة انجراها إلى حرب أهلية في حال استمرار الحرب مع إسرائيل، ونزوح سكان الحدود الجنوبية إلى مناطق أخرى قد لا تخلق تناغم مجتمعيًا.