اتجه الجيش السوري في فبراير الماضي (2019) إلى تركيز عملياته في منطقة خفض التصعيد الرابعة (ريـف إدلب الجنوبي وحماة الشمالي) عبر القصف المدفعي. وتطورت هذه الضربات مع توفير موسكو غطاء جويًّا لدعم هذه العمليات، ثم ارتفعت حدتها مطلع شهر أبريل، وهو ما اقترن بدخول وحدات ميدانية للسيطرة على قرى وبلدات تلك المناطق الواقعة تحت سيطرة فصائل المعارضة المسلحة (هجين لمجموعات قتالية تدعمها أنقرة)، وأبرزها “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة التابعة للقاعدة سابقًا).
وقد جاءت القراءات المستشرفة لمسار تطور العمليات ومدى تأثيرها على مستقبل علاقات الدول الضامنة في سوريا، معززة لاحتمال الصدام بين دمشق وأنقرة. إذ تسعى الأولى لتوسيع نفوذها على مناطقها، وإنهاء مظاهر السيطرة التركية على تلك المناطق، فيما تسعى الثانية إلى تقويض أية محاولات للقضاء على تلك التنظيمات المسلحة التي تُمكّنها من إخضاع تلك المناطق لتحقيق مصالحها، كما تجعل لها تأثيرًا كبيرًا على مسار التسوية في سوريا.
ويتناول هذا التقرير الوضع الميداني في تلك المناطق، كما يستعرض تحركات أطراف الأزمة التي تزامنت مع تلك العمليات، بالإضافة إلى طرح المسارات المُحتملة لتطورها وانعكاساتها على فُرص حل الأزمة السورية.
الوضع في إدلب.. عرضي أم مقصود؟
شهدت سوريا منذ عام 2011 تنامي ظاهرة التنظيمات المسلحة، وسيطرة بعضها على مساحات كبيرة، فيما كان العديد منها يتمتع بتمويل أطراف بعينها؛ رغبة منها في استخدام هذه التنظيمات لإحداث تغييرات جوهرية على مسرح الأزمة بما يمكنها من تحقيق مخططاتها، واستغلال الحالة السورية وفقًا لأهدافها. وكانت عناصر المعارضة المسلحة المسيطرة على إدلب ومناطق الشمال السوري هي محور تركيز السياسات التركية التي انتهجت سياسات لتوظيف تلك المجموعات المسلحة وتحريكها وتوزيع مناطق النفوذ بينها بما يحقق لها الانفراد بإدارة تلك المناطق تبعًا لأهدافها.
وسعت تركيا لشرعنة هذا التدخل عبر الانخراط في جولات التسوية السياسية في سوتشي وأستانة، وخرجت من تلك الجولات بمجموعة من النتائج المتسقة مع أهدافها، كان أبرزها تحديد مناطق ريف إدلب وحماة واللاذقية وغيرها من المناطق التي تقع تحت سيطرة التنظيمات المسلحة المدعومة من تركيا كمناطق “خفض تصعيد”؛ حيث ضمنت بذلك إبعاد تحركات الجيش السوري عن تلك المناطق، واستغلال قضية النازحين لتلك المناطق في توطيد نفوذها بالشمال السوري.
وقد عمل النظام السوري من خلال نقل مسلحي التنظيمات المعارضة وعائلاتهم إلى إدلب من المناطق التي استعاد سيطرته عليها، على حصر حجم كبير من قوة تلك التنظيمات في إدلب، وهو سلاح ذو حدين؛ حيث يمكن التعامل مع ذلك الخطر بشكل مُركز وأقل كُلفةً بالنسبة للنظام، فيما يظل خطر إعادة هيكلة تلك القوة وتسليحها واستخدامها ضد النظام خطرًا قائمًا وبقوة. وبذلك أصبحت إدلب مركزًا لنمو ونشاط جبهات وتنظيمات المعارضة المسلحة والمقاتلين الفارين من الحرب على تنظيمي “داعش” و”القاعدة” التي نشطت في سوريا خلال الفترة الماضية، مثل: هيئة تحرير الشام، وفيلق الشام، وجيش إدلب الحر، وجيش النصرة، وجيش العزة، وأحرار الشام، وغيرها من التنظيمات التي تحظى بدعم تركي سخي بصورة متنوعة؛ بغرض إبقائها ضمن أدوات النفوذ والسيطرة التركية في سوريا.
ويظل اليقين الأكبر أن رغبة النظام السوري في تطويق عناصر ومقاتلي التنظيمات المسلحة في تلك المنطقة، وموافقة الدول الضامنة على ذلك الإجراء، جاءت جميعها محصلة لتفسير كل طرف لما يمكنه الاستفادة من ذلك القرار لصالحه، سواء للتمهيد لدحر تلك المجموعات، أو الاتجاه إلى إيوائها وتسليحها في منظورات أخرى.
وقد أصبح الوضع الحالي في إدلب -وبتجاوز ما إذا كان عرضيًّا أم مقصودًا- مهدِّدًا لكارثة إنسانية تحذر منها الأمم المتحدة والدول المهتمة بقضية الأوضاع الإنسانية في الصراع السوري.
دوافع التصعيد في إدلب
اتجهت موسكو ودمشق للتصعيد في إدلب لتحقيق مجموعة من الأهداف، انتظرتا تهيئة الساحة بصورة ملائمة لتحقيقها. ويمكن بيان هذه الأهداف فيما يلي:
1- فرض واقع جديد على مسارات الحل السياسي: وذلك على خلفية تصاعد الأهمية النسبية لملف التسوية السياسية؛ حيث أعلنت الأمم المتحدة وروسيا وتركيا وإيران في ديسمبر 2018، أنها ستضاعف الجهود لتنظيم أول اجتماع للجنة الدستورية المكلفة بإعداد دستور جديد لسوريا مطلع العام الجاري 2019 في جنيف. وأعاد بيان الدول الضامنة لاتفاق أستانة التأكيد على المضمون ذاته. وبحسب الخطة الأممية، ستضم اللجنة 150 عضوًا، يتم اختيارهم بالتساوي بين الحكومة والمعارضة والموفد الأممي، كما سيتم اختيار 15 عضوًا منهم لصياغة الدستور الجديد. لذا يسعى النظام السوري إلى دخول هذا المسار وفقًا لمعطيات جديدة، وضرورة القضاء على أي فرصة لتمثيل التنظيمات المسلحة كفصائل سياسية، خاصة مع توصل روسيا والولايات المتحدة إلى تفاهم حول دعم الحل السياسي، وهو ما ظهر في لقاء سوتشي الأخير بين “بوتين” و”مايك بومبيو” الذي صرح عقب اللقاء “أن واشنطن وموسكو دعمتا إنشاء لجنة مكلّفة بصياغة دستور جديد لسوريا”. بالإضافة إلى تصريحات وزير الخارجية التركي “مولولد تشاويش أوغلو”، حول قرب الوصول لاتفاق بشأن اللجنة الدستورية السورية.
2- استباق انحسار الدعم عن دمشق: أصبحت قنوات دعم دمشق في انحسار متزايد؛ فمنذ دخول سوريا في الأزمة عام 2011 تلقت دمشق دعمًا متنوعًا عبر روسيا وإيران، لكن انسداد هذه القنوات الذي بدأ بخروج مقاتلي “حزب الله” من المشهد، وانشغال إيران بالتحركات الأمريكية الجارية ضدها؛ جميعها عوامل زادت من فرص تراجع حجم الدعم الخارجي الذي حظي به نظام “بشار الأسد”، ومن ثم ضرورة استثمار ما لديه من إمكانات لتغيير الوضع القائم في هذه المناطق.
3- استثمار اضطراب المشهد التركي: يسعى الجيش السوري إلى استثمار الانشغال التركي بمجموعة الاضطرابات التي يُواجهها، بدايةً من التوتر السياسي الداخلي بعد تراجع قواعد حزبه وخسارته عددًا من المدن المهمة في الانتخابات البلدية الأخيرة، بالإضافة إلى توتر علاقات أنقرة وواشنطن عقب تمسك الأولى بصفقة S400 الروسية ورفض الأخيرة ذلك، إلى جانب تحرك الجيش التركي لاستعراض القوة أمام دول شرق المتوسط التي دشنت منتدى لإدارة مصالحها دون الالتفات إلى تركيا أو دعوتها للمشاركة فيه عبر إطلاق سلسلة من المناورات العسكرية -كان آخرها مناورة “ذئب البحر”- التي حاولت عبرها إرسال رسائل متتابعة لدول المنتدى، بالإضافة إلى توتر علاقات أنقرة مع العواصم الأوروبية التي أعلنت رفضها التنقيب غير القانوني عن الغاز بالمنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص. لذا، فإن الدعم التركي للمجموعات المسلحة في شمال سوريا ليس في حالاته الأفضل، وهو ما يجعل الوقت مناسبًا لاستهداف تلك المجموعات. ولعل أبرز السياقات الداعمة لهذا الاتجاه استغاثة “أبو محمد الجولاني” -زعيم هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة)- عقب عمليات النظام في إدلب، والتي وجهها إلى أنصاره وإلى مختلف الفصائل المسلحة في سوريا، منتقدًا مسار “أستانة” الذي اعتبر أنه قد صبغ شرعية على ما أسماه “المحتل الروسي” وكأنه “جزء من الحل وضامن له”، وتأكيده أن النظام ينتظر وقوع خلاف بينه وبين تركيا ودعوته الفصائل المسلحة للمصالحة الشاملة.
مسارات محتملة
من خلال قراءة تطورات المشهد السياسي والعسكري، وتطورات التحركات فيما يتعلق بإدلب، يُمكن القول بوجود مجموعةٍ من المسارات المحتملة لهذا المشهد التي يُمكن حصرها فيما يلي:
1- اعتماد الحل العسكري مسارًا للتعاطي مع الأزمة؛ وهو مسار مُرجح وبقوة، وهناك العديد من المؤشرات التي ترجحه. ومن ذلك على سبيل المثال محاولة الهدنة التي أجرتها موسكو ودمشق لمدة ثلاثة أيام، والتي أعلنت التنظيمات في إدلب رفضها لها ما لم ينسحب الجيش السوري من مواقع تقدمه في إدلب، وتصريح موسكو بأن القرار جاء لعلمها اتجاه التنظيمات لاستخدام الأسلحة الكيميائية لقصف المنطقة، ومحاولة إلصاق القصف بقواتها كما حدث في حلب، وكذلك قصف التنظيمات لميناء حميميم. وهكذا، فقد اتفقت كافة الأطراف على التصعيد العسكري. كذلك فإن استهداف التنظيمات لمصالح روسيا في سوريا سيدفع روسيا إلى ردع هذه التنظيمات بشكل موسع يمهد لشل حركتها في سوريا، وهو ما أقدمت عليه روسيا بعد إطلاق صواريخ على تمركزاتها بقاعدة حميميم. وتتعزز فرص التصعيد العسكري في ضوء تصريحات تركيا وتحركاتها لخفض التصعيد في إدلب، وحرصها على إبقاء العمليات العسكرية ضمن الحد الأدنى الذي يدفع بتطور أزمة نازحين جدد، وهو ما انعكس في تعزيز تركيا لانتشار قواتها على حدودها مع تلك المساحات التي يمكن أن تكون مسارات لنزوح الملايين نحو أراضيها. وكذلك التقارير الواردة عن استقبال قاعدة حميميم (14) طائرة شحن عسكري روسية تحمل دعمًا مركزًا للعملية المزعم شنها على معاقل التنظيمات المسلحة بإدلب.
2- تدخل المجتمع الدولي ووقف العمليات على إدلب، وهو سيناريو أقل ترجيحًا؛ حيث تحرص الأمم المتحدة والدول المنخرطة في الأزمة على خفض حدة التصعيد، وتوفير ضمانات لأمن وسلامة المدنيين، وتلافي تكرار ما حدث في حلب وغيرها من المناطق التي تعرضت للقصف الذي نال من أهداف مدنية بشكل مباشر. وتظل درجة ترجيح هذا المسار مرتبطة بمدى تحقيق موسكو ودمشق أهدافهما، مثل: القضاء على المجموعات المسلحة، وتأمين المصالح الاستراتيجية لموسكو في سوريا، بالإضافة إلى التعديلات التي ستطرأ على قوائم المشاركين في اللجنة الدستورية بما يضمن إقصاء التنظيمات المسلحة والمعارضة غير المرغوبة من النظام. لذا سيبقى هذا المسار أقل ترجيحًا، حيث إن الفيتو الروسي سيُبقي أية محاولة دولية خارج الإطار السابق -وهو إطار لا يقدم حلًّا يمكن التوافق عليه- معطلًا بشكل قاطع.
ويؤيد ذلك الطرح أيضًا استخدام روسيا حق النقض (فيتو) في كل مرة حاولت فيها أي دولة تحريك مشروع قرار أممي لوقف التصعيد أو فرض ترتيبات جديدة لمسار الأزمة السورية. وكذلك تحرك بعض الدول لتمرير قرارات أممية لصالح وقف التصعيد في إدلب، كاجتماع مجلس الأمن بناء على طلب بلجيكا وألمانيا والكويت، لعرض الوضع الإنساني في إدلب، وكذلك مطالبة الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريش”، للجهات الضامنة لمسار أستانة (روسيا وتركيا وإيران) بالمساعدة في فرض وقف لإطلاق النار.
على كل حال، فإن تطورات المشهد في الشمال السوري، وتصادم الدول الضامنة غير المحتدم، وصمت تركيا عن تحرك موسكو ودمشق للقضاء على التنظيمات في إدلب؛ كلها مؤشرات على أن التصعيد العسكري سيتزايد، ولكنّ كونها معركة بقاء للتنظيمات والمعارضة المسلحة (وكلاء أنقرة) سيزيد من حدة التصعيد، ويدفع بمزيدٍ من التعقيد الذي سينعكس على طول فترة المعركة واحتمالية عدم خروج أي طرف بكامل أهدافه، وتجدد مشاهد الصراع على جبهات أخرى لتعطيل تقدم الجيش السوري في جبهات الشمال، وهو ما ظهر في دعوة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا) الفصائل المسلحة لفتح جبهات قتال مع قوات النظام، ودعت السكان لحفر ملاجئ بدلًا من النزوح من المنطقة.