حظيت الطباعة ثلاثية الأبعاد باهتمام كبير في السنوات القليلة الماضية، غير أنها تواجه مجموعةً من الإشكاليات الأمنية الرقمية والمادية، يتصل معظمها بالسرية والخصوصية، وسلامة المنتجات، وتعديل ملفات الطباعة أو إتلافها. وتثير هذه الطابعات جملةً من التهديدات الأمنية المحتملة، شأنها في ذلك شأن كافة البرامج والأجهزة المتصلة بالإنترنت. وهي التهديدات التي يجب التصدي لها قبل انتشار وتفعيل تلك التقنية في مختلف المجالات.
الماهية والأهمية
أحدثت تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد ثورةً في التصنيع، ومكّنت الشركات من إنشاء نماذج أولية سريعة وغير مكلفة بجانب اختبار أفكارها الهندسية. وقد تجاوزت الطابعات ثلاثية الأبعاد إنشاء النماذج الأولية، وباتت تُستخدم بالفعل لإنتاج عدة منتجاتٍ، مثل: الأجهزة الطبية المتطورة، وقطع غيار السيارات، ومكونات الطائرات المعقدة، وغيرها. كما تم توظيفها في عدة مجالاتٍ حيوية أخرى، مثل: الطب، والفضاء، والهندسة المدنية، والتصنيع الصناعي. ويرجع ذلك إلى التطورات السريعة في قدرات التصنيع ثلاثي الأبعاد. ومن المتوقع تزايد استخدام الطباعة الثلاثية في مختلف الصناعات في المستقبل القريب.
يُطلق على الطابعات ثلاثية الأبعاد “عملية التصنيع المضافة”. وتشير إلى عملية دمج أنواع مختلفة من المواد معًا لإنشاء كائناتٍ ثلاثية الأبعاد من نماذج رقمية، بترجمة الإرشادات الرقمية بسلاسة إلى منتجاتٍ فعلية من خلال إضافة طبقاتٍ متتالية من المواد وفقًا لتعليمات البرنامج. وتنتج الطابعات ثلاثية الأبعاد بالفعل كل شيء، مثل: الأيدي الاصطناعية، والمحركات، وصمامات القلب، والأسلحة، والمعدات العسكرية، وغيرها. وتُمكِّن الشركات من إنشاء عددٍ من المنتجات بطريقةٍ أكثر كفاءة وأقل تكلفة.
توفر تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد لمؤسسات التصنيع مجموعةً متنوعةً من الفوائد، إلا أن هذه العملية تنطوي أيضًا على احتمالات إساءة الاستخدام والتلاعب. فقد ابتكر المتسللون طرقًا لتعطيل العمليات التجارية السلسة باستخدام أجهزة الكمبيوتر من خلال نقل الفيروسات المدمرة (مثل: أحصنة طروادة، والديدان) لسرقة المعلومات التجارية الخاصة والملكية الفكرية. ومن المحتمل بالمثل وجود آلياتٍ عدة لتعطيل بروتوكولات الطباعة ثلاثية الأبعاد بجانب ملفات التصميم الرقمي.
تعديل ملفات الطباعة
عند اتصال الطابعة ثلاثية الأبعاد بشبكة الإنترنت، تتحول تلقائيًّا إلى أحد أجهزة إنترنت الأشياء. ومن ثمّ، يمكن اختراقها والتلاعب بها بسهولة. فإذا تمكن شخصٌ ما من الوصول إلى إعدادات الطابعة وملفاتها يمكنه تعديلها بسهولة وطباعة منتجاتٍ أخرى دون علم المستخدم، أو طباعة المنتجات المرغوبة مع تعديلاتٍ طفيفةٍ في بنيتها أو تركيبها كي تفشل عند الاستخدام، بما له من نتائج كارثية على الشركات التي تستخدمها لصنع أجزاءٍ ومكوناتٍ دقيقة. إذ تحتوي معظم المطبوعات ثلاثية الأبعاد على بنيةٍ داخلية لا يمكن للعين البشرية رؤيتها عقب اكتمال الطباعة. وهي البنية التي قد يتم تعديلها أو التلاعب بها بسهولة دون الوقوف عليها، فلا تظهر نقاط الضعف إلا عند الاستخدام. ففي عام 2016، على سبيل المثال، قام فريقٌ دوليٌ من الباحثين في مجال الأمن السيبراني باختراق جهاز كمبيوتر يحتوي على مخططاتٍ وتصميماتٍ للدرونز. وعلى خلفية ذلك، تم تغيير عدة أسطر من أكواده، وإرسال الملف لطباعته بالطابعات ثلاثية الأبعاد. وفي أعقاب الإقلاع بدقائق معدودة، تعطلت الدرونز واصطدمت بالأرض.
لقد تم تصميم التجربة لإظهار إمكانية التلاعب بالمخططات ثلاثية الأبعاد، وتداعياته على الأعطال الميكانيكية. حيث أدخل الباحثون تجاويف وثقوب صغيرة غير مرئية بالعين المجردة على شفرات مروحة الطائرة، مما أدى إلى تفككها في الجو. وجدير بالذكر أن المروحة المعيبة بدت متطابقة مع نظيراتها. وبذلك، كشفت التجربة عن عدم وجود إمكانات لتشفير ملفات الطباعة ثلاثية الأبعاد. فإذا كان المهاجم قادرًا على اعتراض ملفات الطباعة قبل الاستخدام، فيمكنه تعديلها دون معرفة أصحابها.
وقد تزامنت التجربة مع اتجاه الصناعات الثقيلة لاستكشاف تطبيقات الطابعات ثلاثية الأبعاد وتعظيم فوائدها، فبدأت شركات الطيران الكبرى، بما في ذلك بوينج وإيرباص، في دمج الأجزاء المطبوعة بالطابعات ثلاثية الأبعاد في طائراتها التجارية. ومن شأن أي تعديل في ملفات تلك الشركات أن يسفر عن نتائج كارثية.
وقد يسفر الاختراق عن تحميل بعض الملفات الضارة لتنفيذ تعليماتٍ برمجيةٍ عشوائية. فمن الناحية النظرية، يمكن للمهاجمين الاستفادة من هذا النوع من الخلل لطباعة منتجاتٍ ضارةٍ وخطيرةٍ أو تثبيت بعض البرامج الثابتة مثل أحصنة طروادة. وقد يسفر ذلك، كما سبق القول، عن إحداث عيوب في المنتجات التي تطبعها الطابعات ثلاثية الأبعاد نتيجة للاختراق، وهي العيوب التي قد تعجز الهجمات السيبرانية عن إحداثها.
الإرهاب وصناعة الأسلحة
يمكن استخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد لطباعة الأسلحة والبنادق، خاصة في ظل غياب الأطر التنظيمية التي تنظم عملها أو تحول دون إساءة استخدامها. وتتزايد المخاوف من استخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد في صنع الأسلحة النارية حال سقوطها في الأيدي الخاطئة، وإن تجاهل البعض تلك المخاوف، بالنظر إلى “إصدار المُحرر”، وهو أول تصميم رقمي مطبوع لمسدس ثلاثي الأبعاد. فعلى الرغم من إصداره في عام 2013، إلا أنه لم يسفر بعد عن أي جرائم مرتكبة.
وفي الوقت الراهن، لا تشكل طباعة الأسلحة ثلاثية الأبعاد تهديدًا أمنيًّا مباشرًا للسلامة العامة، وتقتصر استخداماتها على الهواة وبعض الصناعات المحدودة. كما يمكن للدول والتنظيمات الإرهابية شراء تلك الأسلحة من الأسواق السوداء. وبالتالي، من غير المرجح أن تشكل الأسلحة المطبوعة تهديدًا رئيسيًّا على المدى القريب. لكن على المدى البعيد، قد تتمكن التنظيمات الإرهابية من الوصول لتقنيات الطابعات ثلاثية الأبعاد، خاصة مع انخفاض تكلفتها بمرور الوقت من ناحية، وتزايد توظيفها في الصناعات العسكرية من ناحيةٍ أخرى، وهو الأمر الذي يتطلب –حال حدوثه- تحديد آلياتٍ وضوابط تقيد الوصول إلى الطابعات ثلاثية الأبعاد، والمخططات الرقمية للأسلحة الفتاكة.
وعلى الرغم من خطورة طباعة الأسلحة بواسطة التنظيمات الإرهابية، إلا أن الخطر الأكبر يكمن في احتمالات طباعة أجزاء من الدرونز، بالنظر إلى نجاح توظيفها في العراق وأفغانستان. بل يمكن للتنظيمات الإرهابية أيضًا اصطحاب الطابعة إلى المواقع الحساسة وبناء الأسلحة فيها، وهو ما يعني في مجمله صعوبة تتبع تلك التنظيمات، خاصة إذا تمكنت من طباعة ما تحتاج إليه في أي مكانٍ به منفذ كهربائي.
وقد يتسبب قراصنة الإنترنت في إحداث آثار تدميريةٍ تفوق تلك التي قد تنتج عن توظيف التنظيمات الإرهابية للطابعات ثلاثية الأبعاد، نظرًا لقدرتهم على اختراق الشبكات الحساسة، بما في ذلك شبكات وزارة الدفاع والبيت الأبيض. وفي هذا السياق، لا يمكن لهؤلاء اختراق المعلومات الحساسة وسرقة الهوية فحسب، بل وزرع نقاط الضعف في الطائرات، والدبابات العسكرية، بل والأجهزة الشخصية للمستخدمين، وغيرها.
الاختراق وسرقة المعلومات
تعاني الطابعات ثلاثية الأبعاد من إشكاليتي الخصوصية وانتهاك البيانات من بين إشكالياتٍ أخرى. فمن شأن اختراق الأجهزة الطبية التي تتضمن معلوماتٍ شخصية -على سبيل المثال- أن تسفر عن اختراق خصوصية المستخدمين وبياناتهم السرية. وتتزايد خطورة الاختراق في حالة الصناعات الحساسة والدقيقة، مثل الصناعات الدفاعية والتحويلية، وصناعة الطيران، وغيرها. وقد يؤدي ذلك إلى تهديد خطط ورموز وبرامج المنتجات السرية.
ويمكن للقراصنة اختراق الطابعات ثلاثية الأبعاد، نظرًا لاعتمادها على تدفقات البيانات الرقمية؛ فبموجب تعديلاتٍ طفيفة، يمكن للمتسللين الحصول على كمياتٍ كبيرة من المعلومات الشخصية والحساسة المصاحبة لملفات التصميم الرقمية. وتحظى الأجهزة الطبية المتخصصة باهتمام خبراء الأمن على وجه التحديد. ففي الوقت الحالي، وعوضًا عن تصنيع وشحن الأجهزة الطبية عبر مسافاتٍ طويلة، تستخدم بعض الشركات الطابعات ثلاثية الأبعاد لنقل الملفات إلكترونيًّا من مراكز الخدمة إلى عددٍ لا يُحصى من المواقع البعيدة خارج الموقع للتصنيع.
ومن ثمّ، يتعين على الشركات التي تستخدم الطابعات ثلاثية الأبعاد تفعيل احتياطات الأمن السيبراني لحماية المرضى من فقدان البيانات الطبية الشخصية الحساسة. وبالمثل، قد يساعد تنفيذ بروتوكولات التحقق من دقة وصلاحية المنتجات ذات العلامات التجارية الكبرى من إشكاليات نقل البيانات وما يكتنفها من مخاطر.
وهناك طرق أخرى يمكن من خلالها سرقة البيانات باستخدام الطابعات ثلاثية الأبعاد؛ ومنها -على سبيل المثال- إنشاء غطاء خارجي طبق الأصل لأجهزة الصراف الآلي لجمع البيانات المصرفية للعملاء، وقراءة البطاقات العامة.
كيفية الوقاية
يُعد رفع مستوى الوعي العام بالجرائم المرتبطة بالطابعات ثلاثية الأبعاد من الوسائل الفعالة للتصدي لتداعياتها السلبية، ذلك أن إدراك المخاطر الأمنية المرتبطة بها قد يساعد الشركات والأفراد على الاستفادة من مزاياها دون التعرض لمخاطرها. وفي الإطار نفسه، يوصي بعض الخبراء بنوعٍ من أنواع الرقابة على الطابعات لتقييد قدرتها على طباعة تصميماتٍ معينة، منها على سبيل الأسلحة والمواد الكيميائية، بجانب إنفاذ القوانين ومحاكمة من يطبعون مواد غير مشروعة.
ومن الضروري أن تتمتع الطابعات ثلاثية الأبعاد وجميع الأجهزة المتصلة بالحماية اللازمة لتأمين كافة التصميمات والرموز الرقمية لضمان سلامة المنتجات المادية. ومن ثمّ، يعمل الباحثون على تطوير أنظمة التحقق من سلامة المنتجات المطبوعة. على سبيل المثال، قام فريقٌ من الباحثين من جامعتي جورجيا للتكنولوجيا وروتجرز بتطوير نظامٍ ثلاثي الطبقات للتحقق من عدم تعرض المنتجات المطبوعة للخطر من خلال استخدام القياسات الصوتية وتتبع مكونات الطابعة. ويعمل نظامهم بشكلٍ مستقلٍ عن شبكات الكمبيوتر الخاصة بالشركات.
وتتزايد أهمية اختبار النماذج أثناء الطباعة أو بعدها للتحقق من عدم وجود تعديلاتٍ ضارة عليها، حيث تحتاج ملفات الطباعة التي تستخدمها الطابعة ثلاثية الأبعاد إلى تشفير موحد. والأهم من ذلك هو التحقق من النزاهة لأنه يساعد المستخدمين على التحقق من عدم قيام المستخدمين غير المصرح لهم بتعديل ملفاتٍ مهمة.
ويمكن للمالكين الفرديين للطابعات ثلاثية الأبعاد أن يلعبوا دورًا كبيرًا في تأمين طابعتهم باتباع أفضل الممارسات لضمان أمن الشبكات، وذلك من خلال استخدم جدار الحماية المناسب، وعناصر تحكم أخرى لحماية الطابعات، مع استخدام الشبكات الافتراضية الخاصة والمصادقة الإضافية على الأقل، لحماية اتصالات الطابعة، والتأكد من أن المستخدمين المصرح لهم هم فقط من يحق الوصول إليها.
ختامًا، يمكن أن تسفر العقود القليلة القادمة عن تهديداتٍ أمنيةٍ جديدة، وتحدياتٍ جديدةٍ للنظام الاقتصادي العالمي، وأدوات جديدة للتنظيمات الإرهابية بفعل الطابعات ثلاثية الأبعاد. ولذا، لا بد من التساؤل عن تداعيات تلك الطابعات على الأمن الشخصي والقومي والدولي قبل أن تصبح واقعًا مفروضًا. ولا بد أيضًا من تقييم المخاطر الأمنية قبل اعتماد التصنيع الإضافي لضمان سلامة المنتجات، مع البدء في بروتوكولات احترازية، مثل تشفير ملفات الطباعة، وتقليل الاستعانة بمصادر خارجية للمعلومات السرية، وغيرها.