الأحداث التي يشهدها العراق منذ أكتوبر 2019، وما خلّفته من مئات الضحايا وآلاف الجرحى؛ تُجسد معضلة العراق الأمنية الممتدة بين ضغوط الداخل بتعقيداته وتشابكاته ومطالبه الاقتصادية والاجتماعية، وضغوط الخارج بمشروعات الهيمنة الإقليمية والدولية، خصوصًا بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، بحيث أضحى العراق ساحة متجددة لاختبار أدوات النفوذ والسيطرة بينهما في ظل مصالح متعارضة ومواجهات مؤجلة تنتظر لحظة الحسم، وهو الأمر الذي جعل المتظاهرين يطالبون برحيل النخبة السياسية الحاكمة بعد إخفاقها في تجاوز الأزمات الأمنية والاقتصادية، وفشلها في منع التغلغل الخارجي وسعيه لفرض إرادته على السيادة العراقية، فضلًا عن المطالبة بتجاوز المحاصصة الطائفية التي مثّلت المظلة الرئيسية التي صاغت علاقات الحكم منذ الغزو الأمريكي في عام 2003، الذي أسهم في انكسار قوة العراق وخصمه من رصيد القوة العربية، وتحويله إلى ساحة للإرهاب جذبت كافة التيارات الإرهابية والمتطرفة، والتي انتشرت لاحقًا في كافة دول الإقليم، وهو ما شكّل تهديدًا للأمن الإقليمي برمته، وكشف بجلاء عن إخفاق وفشل نظريات “الفوضى الهدامة” ونظريات تغيير المجتمعات وإسقاط ركائز الدول بفعل التدخلات الخارجية.
بخلاف كافة المظاهرات التي شهدها العراق منذ تأسيس نظام ما بعد “صدام حسين” منذ عام 2003، الذي أدى إلى تغيير في القيادات الحاكمة، دون تغيير حقيقي في منظومة الحكم برمتها، حيث حدث ذلك في حالة رئيس الوزراء الأسبق “نوري المالكي” الذي تولّى مقاليد السلطة عام 2006 واستقالت حكومته بعد احتجاجات عنيفة شهدتها المدن العراقية في عام 2014، و”حيدر العبادي” الذي تولى رئاسة الوزارة في عام 2014، وواجهت حكومته قبل سقوطها في الانتخابات مظاهرات عنيفة عام 2018. لكن المظاهرات الحالية، التي بدت عفوية، وتغيب عنها قيادة يمكن التفاوض معها، تزامنت مع مرور ما يقرب من عام على تولي حكومة “عادل عبدالمهدي”، والتي ستكون لها تداعياتها المباشرة على مستقبل الترتيبات الأمنية والسياسية للأجنحة المتصارعة في العراق، لا سيما وأنها تمثل أول مواجهة مباشرة منذ تشكيل نظام ما بعد “صدام حسين” بين النفوذ الإيراني وأدواته العراقية من ناحية، ومتظاهري المناطق والمدن ذات الأغلبية الشيعية، من ناحية أخرى، المطالبين بضرورة فصل المسار العراقي عن المسار الإيراني، وهي المناطق التي شكلت حواضن رئيسية للتغلغل الإيراني في الجسد العراقي.
هذه التحولات قد تؤسس لمرحلة جديدة في العلاقة بين طهران والأغلبية الشيعية العراقية، التي تحركت للحفاظ على هويتها الوطنية في وجه مشروع التبعية للخارج. يُضاف إلى ذلك أن الشعارات التي رفعها المتظاهرون تعكس حالة من الرغبة في استعادة ركائز الدولة الوطنية التي تمثل الإطار الجامع لكل الفرقاء المتصارعين، وفي مقدمتها استعادة دور الجيش الوطني القادر على دعم الاستقرار ومواجهة ميليشيات ما دون الدولة، والتي أصبحت وكلاء لمشروعات التفتيت والتشرذم القائم على تكريس منطق الفئوية والطائفية والمناطقية.
عوامل متعددة
تتنوع العوامل المفسرة لاندلاع المظاهرات العراقية، التي سيكون لها مردودها الأمني والسياسي على المستوى الداخلي وعلى توازنات الأمن الإقليمي.
1- الانقسام السياسي
بدت الحكومة الحالية منذ تشكيلها في أكتوبر 2018 مأزومة، بسبب تأخر إعلان تشكيلها بعد التشكيك في نتائج الانتخابات البرلمانية. كما ظل عدد من الحقائب شاغرة لما يقرب من 6 أشهر، لعدم التوافق بين الكتل السياسية المتنافسه، الأمر الذي عمق من أزمة الثقة مع الشارع العراقي، وهي أزمة تزايدت مع اندلاع المظاهرات والاحتجاجات في ظل محاولة المشاركين فيها الوصول إلى المنطقة الخضراء بأهميتها الاستراتيجية.
وتنوعت المطالب السياسية والاقتصادية للمتظاهرين ما بين الدعوة لتبني نظام انتخابي جديد يلغي هيمنة أحزاب السلطة التي فشلت في استعادة بناء الدولة، وتحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، ومكافحة الفساد. من ناحية أخرى، تعمق الانقسام السياسي بين نخب الحكم في كيفية التعامل مع مطالب المحتجين بين تيارين رئيسيين؛ أحدهما يبحث عن إمكانية الوصول إلى تسوية ظهرت مخرجاتها في خطاب رئيس الجمهورية الدكتور “برهم صالح” الذي توجه بخطابه إلى جميع العراقيين، قائلًا: “يجب أن نتصارح جميعًا، مسئولين وأحزابًا وموظفين وناشطين ومثقفين ومواطنين، بأن هذا الحراك، هذه الاحتجاجات، جاءت على خلفية البؤس والمظالم والشعور العام بحاجة البلد إلى الإصلاح”. وتوافقت مع هذا التيار إلى حد ما رؤية المرجع الديني الشيعي الأعلى في العراق “آية الله السيستاني”، الذي ذهب ممثله “عبدالمهدي الكربلائي”، في 15 نوفمبر 2019، إلى أنه “إذا كان من بيدهم السلطة يظنون أن بإمكانهم التهرب من استحقاقات الإصلاح الحقيقي بالتسويف والمماطلة فإنهم واهمون”. وأضاف: “لن يكون ما بعد هذه الاحتجاجات كما كان قبلها في كل الأحوال، فليتنبهوا إلى ذلك”، “وأن الحكومة العراقية تستمد شرعيتها من الشعب”. فيما تشكل التيار الثاني من حلفاء إيران داخل العراق، وفي مقدمتهم “الحشد الشعبي” الرافض لهذه المظاهرات، بل واعتبارها مؤامرة ضد مكتسبات الدولة العراقية، فقد دافع رئيس الحشد “فالح الفياض” عن موقف الحشد من المظاهرات في مواجهة من وصفهم بالمتآمرين، واعتبر ما قام به الحشد ضد المتظاهرين دفاعًا عن الدولة بقوله: “نحن ندافع عن دستور وعن دولة بنيناها بالدماء والتضحيات”، مؤكدًا “جاهزية الحشد الشعبي للقضاء على الانقلابيين والمتآمرين”.
2- الطائفية المتجذرة
تمثل الطائفية المتجذرة أحد الروافد الرئيسية لحالة عدم الاستقرار السياسي والأمني في العراق، لا سيما وأن هذه الطائفية يتم توظيفها من قبل إيران التي تسعى لتثبيت ركائز مشروعها في دول الإقليم من خلال تصدير الثورة كنموذج إسلامي أممي بزعامة الولي الفقيه، واستقطاب الحالة الشيعية غير الإيرانية، وهو ما حدث في سوريا والعراق ولبنان واليمن، أو ما بات يعرف بهلال الهيمنة الشيعية. ويأتي تركيز إيران على الحالة العراقية كونها تمثل الهوية العقائدية الشيعية ورمزيتها النجف وكربلاء. وبرغم بروز شعارات المتظاهرين المطالبة بتجاوز حالة الطائفية، حيث مثلت هتافاتهم بعدًا جديدًا يوحي بتجاوز المسألة الطائفية، وهو ما برز في الهتافات مثل “إخوان سنة وشيعة.. وطن ما نبيعه”، وصحيح أيضًا أن التظاهرات تركزت في المناطق الجنوبية ذات الأغلبية الشيعية؛ إلا أنه من المرجح أن تثير الإطاحة بفكرة الطائفية وما سيصحبها من تداعيات من انقلاب جذري في موازين القوى ومعادلات القوة في الإقليم، مقاومة عنيفة من قبل إيران والقوى المسيطرة عليها داخل العراق. كما أن من شأن هذه المقاومة أن تدفع القوى المجتمعية العراقية والمعارضة للميراث الطائفي، إلى التقوقع مرة أخرى وراء ستر الطائفية. لذلك، يعد هذا الارتداد للطائفية في حالة أي صراع أحد أهم المعضلات الاجتماعية والنفسية والثقافية التي ربما تتيح للطائفية إعادة إنتاج نفسها باستمرار عبر اللجوء إلى فضاء الصراع الأهلي ودفع المجتمع إلى أتونه وتوظيفه من قبل وكلاء الخارج. وقد ظهر هذا الربط الواضح والصريح بين العراق ورمزيته بالنسبة للنفوذ المذهبي الإيراني، في تصريح للرئيس “حسن روحاني” في مارس 2016، حين أكد أن “إيران سوف تتدخل في أي مكان توجد به مقامات للشيعة، وتتعرض إلى تهديد من قبل الإرهابيين”. كما سبق وأشار “علي يونسي” مستشار الرئيس الإيراني “حسن روحاني” في مارس 2015 إلى “أن إيران إمبراطورية وعاصمتها بغداد”.
3- دور الميليشيات الشيعية
تأسس الحشد الشعبي بعد فتوى دينية من المرجعية الدينية الشيعية العليا بالعراق “آية الله السيستاني”، في 13 يونيو 2014، جعلت “الجهاد الكفائي” واجبًا لمواجهة تنظيم “داعش”. إلا أن التطور في طبيعة دور الحشد الشعبي ورؤيته للصراع العراقي الداخلي، وارتباطه بالتصورات الإيرانية لمستقبل منطقة الشرق الأوسط، جسده إعلان الأمين العام لمنظمة بدر “هادي العامري” في يناير 2018 تشكيل تحالف ائتلاف الفتح الذي يضم فصائل الحشد، وفي مقدمتها منظمة بدر التي تعد من الميليشيات الكبرى في الحشد، إضافة إلى عصائب أهل الحق، وسرايا الخرساني، وحركة حزب الله النجباء، وسرايا حزب الله، بالإضافة إلى 15 حزبًا آخر، بما يعني بداية مرحلة جديدة من تنامي نفوذ ميليشيات الحشد الشعبي الشيعية في العراق، فهي تتبنى أيديولوجيا خمينية طائفية مرتكزة على ولاية الفقيه. هذه المركزية لدور الحشد الشعبي داخل العراق تأتي في إطار الخطة الإيرانية الرامية إلى تحويل الحشد الشعبي إلى حرس ثوري عراقي يحكم قبضته على كافة مفاصل السلطات في العراق حتى في ظل قرار رئيس الوزراء العراقي “عادل عبدالمهدي” في يوليو 2019 بدمج الميليشيات في الجيش النظامي.
4- تدهور الاقتصاد وتزايد الفساد
يمثل التدهور الاقتصادي أحد الأسباب المفسرة لاندلاع المظاهرات في ظل المشكلات البنيوية التي يعاني منها الاقتصاد العراقي نتاجًا لحالة عدم الاستقرار السياسي والأمني التي تواجهها البلاد منذ سنوات، والتي تعيش حالة حرب في مواجهة تنظيم “داعش” منذ 2014. وبرغم أن العراق يمتلك رابع أكبر احتياطى من النفط في العالم؛ إلا أن تقرير البنك الدولي الصادر في مارس 2019 يقر بأن 22.5% من سكان العراق فقراء. ومن المتوقع أن تشهد موازنة العراق لعام 2020 عجزًا يُقدر بحوالي 29 مليار دولار، يضاف إلى ذلك ديون العراق التي بلغت حسب التقديرات الرسمية 100 مليار دولار. كما يصنف العراق ضمن أكثر الدول فسادًا في العالم بحسب تقرير منظمة الشفافية الدولية الصادر في يناير 2019، إذ حصل على المرتبة السادسة عربيًّا ورقم 13 عالميًّا، وهو ما دفع رئيس الوزراء العراقي “عادل عبدالمهدي” في نهاية يناير 2019 إلى إصدار أمر بتشكيل مجلس أعلى لمكافحة الفساد في العراق.
5- مشروعات الهيمنة الخارجية
يشكل العراق منذ سقوط نظام “صدام حسين” عقب الاحتلال الأمريكي مجالًا للتجاذبات الإقليمية والدولية، ولا سيما بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، فكلا البلدين لهما أوراق ضغط في العراق داخل التركيبة السياسية والأمنية. ومن غير المتوقع أن يتنازل أي منهما عن هذه الأوراق، خاصة في ظل تزايد الصراع بينهما بعد إلغاء الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” الاتفاق النووي مع إيران، بما يجعل من العراق طرفًا في أي مواجهة محتملة بين البلدين. وربما تشكل المظاهرات في العراق في أحد جوانبها انعكاسًا لمستويات التأزيم والتوتر بين واشنطن وطهران، وهو الأمر الذي وجد صداه في تمايز تصريحات مسئولي البلدين عن المظاهرات، حيث نقلت وكالة أنباء “إرنا” الإيرانية الرسمية عن حساب المرشد الإيراني “علي خامنئي” على تويتر قوله: “الأعداء يسعون للتفرقة بين العراق وإيران، لكنهم عجزوا ولن يكون لمؤامراتهم أثر”. فيما أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية في بيان لها، في 12 نوفمبر 2019، أن وزير الخارجية “مايك بومبيو”، حث رئيس الوزراء العراقي “عادل عبدالمهدي”، في اتصال هاتفي، “على اتخاذ خطوات عاجلة لمعالجة المطالب الشرعية للمحتجين من خلال تفعيل الإصلاحات ومحاربة الفساد”. وتأكيد “بومبيو” دعم الولايات المتحدة “لعراق قوي ومزدهر ذي سيادة”.
تداعيات محتملة
حسابات التكلفة والعائد لمظاهرات العراق من الناحية السياسية والأمنية ترتبط ببعدين رئيسيين حاسمين؛ الأول: مدى قدرة النظام العراقي على تقديم حلول واقعية للمشكلات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تواجه عراق ما بعد “صدام حسين”، وهي تركة مثقلة بتدهور الاقتصاد وتردي أوضاع البنية الأساسية وانتشار الفساد، وارتفاع البطالة بين الشباب العراقي، فضلًا عن المشكلات السياسية والأمنية التي ترتبط بالنظام الانتخابي القائم على الفرز الطائفي والمذهبي والمناطقي. ومع بروز ظاهرة انتشار السلاح خارج سيطرة الدولة، لا سيما لدى بعض الأفراد العاديين، ولدى العشائر والميليشيات شبه العسكريه مثل الحشد الشعبي، والتي تقدر أعدادها بما يقرب من 150 ألف مقاتل، فإن ذلك يعني استمرار حالة عدم الاستقرار الممتد، ما لم يحدث نوع من التوافق الداخلي بين مكونات الحكم على خارطة طريق تسهم في تهدئة الأوضاع في البلاد. أما البعد الثاني، وربما الأهم، فهو ما يرتبط بتوازن القوى الإقليمي والدولي ونفوذ الخارج داخل العراق، ومدى القدرة على تحييد النفوذ الإيراني واستغلال الداخل العراقي والمظاهرات الرافضه لهذا التغلغل. ذلك أن النجاح في تحييد النفوذ الإيراني في العراق سيعمق من أزمة طهران العقائدية القائمة على تصدير الثورة، ويجعل العالم الشيعي برأسين لصالح الحضور العراقي نظرًا للبعد المعنوي الذي تتمتع به حوزة النجف. وفي ظل رفض إقليمي ودولي لمشروعات طهران التوسعية القائمة على تمدد أذرعها في دول المنطقة، فإن وقف تمدد المشروع الإيراني وبرغم صعوبة تكلفته ربما يبدأ من العراق.