وقّع الرئيس اللبناني “ميشال عون”، في 21 يناير الجاري، مرسومًا بتشكيل حكومة جديدة للبلاد برئاسة “حسان دياب”، تضم 20 وزيرًا من التكنوقراط. وتأتي هذه الحكومة بعد مرور نحو ثلاثة أشهر من الاحتجاجات الشعبية التي أسفرت عن استقالة حكومة “سعد الحريري” السابقة. وعلى الرغم من تحقق ما طالب به المحتجون مؤخرًا بشأن التعجيل بتشكيل الحكومة؛ إلا أن التشكيل الجديد لم يسفر عن توقف الاحتجاجات.
سياق تشكيل الحكومة
منذ 17 أكتوبر الماضي، يعيش لبنان على وتيرة حركة احتجاجية واسعة غير مسبوقة شملت كل المناطق، متجاوزة الحزبية والمحاصصة الطائفية.
لقد مثّل فرض الحكومة ضريبة جديدة على الاتصالات المجانية عبر تطبيق واتساب شرارة هذه الاحتجاجات، التي طالبت بتشكيل حكومة إنقاذ من التكنوقراط، وإجراء انتخابات نيابية مبكرة، ومعالجة الأوضاع الاقتصادية، واسترداد الأموال المنهوبة، ومحاسبة الفاسدين. وأكد المحتجون -في سياق ذلك- استمرار تحركهم حتى تحقيق المطالب.
بالإضافة إلى الدافع السياسي المحرك للاحتجاجات، كان العامل الاقتصادي دافعًا رئيسيًّا، حيث يشهد الاقتصاد اللبناني حاليًّا نموًّا سلبيًّا، وتقترب الليرة اللبنانية من خسارة نحو نصف قيمتها عمليًّا. يضاف إلى ذلك تنامي مؤشرات التضخّم. كما بلغت نسبة البطالة 37%. ويعد لبنان ثالث أكثر الدول مديونية في العالم، حيث تتجاوز نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي 150%. كذلك، يعيش أكثر من ثلث اللبنانيين (البالغ عددهم 4.5 ملايين نسمة) تحت خط الفقر.
وعلى إثر تنامي الاحتجاجات، أعلن رئيس الحكومة اللبنانية حينها “سعد الحريري” استقالته، لتدخل البلاد في معضلة سياسية بشأن تشكيل الحكومة الجديدة. وما بين الرفض والاعتذار، وبعد إجراء الاستشارات النيابية، كلف “عون”، في 19 ديسمبر، “حسان دياب” بتشكيل الحكومة الجديدة، وذلك بعد حصول الأخير على موافقة 69 نائبًا برلمانيًّا من أصل 128 ينتمي غالبيتهم إلى حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر (تحالف “8 آذار”).
الحكومة اللبنانية الجديدة
بعد مرور 33 يومًا من تكليفه، انتهى “حسان دياب” من تشكيل حكومته، التي وصفها بأنها “أول حكومة تجتمع فيها مواصفات مميزة لمواجهة ظروف استثنائية”. كما أكد أنها حكومة اللون الواحد، وهو ما فسّره بأنها حكومة كل لبنان. كما أكد أيضًا “أنها حكومة معبرة عن تطلعات المعتصمين على مساحة الوطن، وستعمل لترجمة مطالبهم في استقلالية القضاء واسترجاع الأموال المنهوبة”.
ومن الجدير بالملاحظة غياب “جبران باسيل”، صهرِ الرئيس اللبناني، ووزير الخارجية السابق، وزعيم التيار الوطني الحر، عن التشكيل الحكومي الجديد، وهو الذي طالب المحتجون بعزله، كما تم توجيه اتهامات له من قبل سياسيين بشأن عرقلة تشكيل الحكومة. من ناحية أخرى، شكل تكليف سيدة بمهام وزارة الدفاع سابقة على المستوى العربي.
وعلى الرغم من التأكيد المستمر بأن الحكومة الجديدة هي حكومة تكنوقراط، لكن الواقع يشي بغير ذلك. فوفقًا لما هو متداول في الشارع اللبناني، فإن الوزراء الجدد ينتمون إلى حزب الله وحلفائه، ومن ثم فإن الحكومة الجديدة هي حكومة لون واحد بالفعل سياسيًّا، نظرًا لانتمائهم لتحالف “8 آذار”.
ويعد وزير الداخلية والبلديات “محمد فهمي” من أكثر الأسماء إثارة للجدل داخل الحكومة الجديدة؛ فوفقًا للرأي العام اللبناني، كانت لفهمي علاقات وطيدة مع سوريا أثناء الوجود السوري في لبنان، فهو عميد سابق في الجيش اللبناني، تم تعيينه عام 1998 رئيسًا لفرع الأمن العسكري في مديرية المخابرات، بطلب من “رستم غزالي” رئيس المخابرات السورية في لبنان آنذاك. وقد ارتبط اسم الأخير بعمليات عنف وتعذيب قام بها موالوه بحق اللبنانيين.
من ناحية أخرى، شكل تعيين وزير الصحة “حمد حسن” صدمة للمتظاهرين في الشوارع، الأمر الذي لم يكن متوقعًا، خاصة أنه كان قد ظهر في تجمع وخلفه أعلام “حزب الله” واصفًا التظاهرات بـ”الحراك الأسود”. أما بالنسبة لوزير المالية “غازي وزني”، وبالرغم من كونه أكاديميًّا، إلا أن تقارير عدة تشير إلى أنه مستشار مقرب لرئيس مجلس النواب اللبناني “نبيه بري” زعيم حركة أمل. وفي هذا السياق، اعتبر ناشطون تعيين “وزني” أمرًا نابعًا بالأساس من نظام المحاصصة المرفوض. كما انتقد الناشطون تعيين “عماد حب الله” وزيرًا للصناعة، و”عباس مرتضى” وزيرًا للزراعة والثقافة نظرًا لارتباطهما بـ”نبيه بري”.
وعلى الرغم من كون أمر تعيينها يمثل سابقة عربية، إلا أن “زينة عكر”، نائبة رئيس الوزراء ووزيرة الدفاع، لم تحقق التوافق المطلوب. فمن ناحية، تُثار تساؤلات حول ماهية المؤهلات الداعمة لتعيين “عكر” بمنصبها الوزاري، ومن ثم مدى قدرتها على إدارة المهام الموكلة إليها، خاصة أن خبرتها السابقة منحصرة بإدارة دار للنشر، وإصدار مجلة شهرية وإنشاء متحف “نابو”. على صعيد آخر، وبحسب ناشطين لبنانيين، فإن “عكر” من الوزراء المحسوبين على رئيس الجمهورية وصهره، وهو ما يعيدنا مرة أخرى لمسألة المحاصصة الطائفية، وابتعاد الوزارة عن كونها وزارة تكنوقراط.
ردود الفعل حيال التشكيل الحكومي الجديد
وفقًا للعوامل السابقة، لم تهدأ وتيرة الاحتجاجات بالشارع اللبناني؛ ففور إعلان “عون” عن التشكيل الحكومي الجديد، تجمع المئات أمام مجلس النواب اللبناني للإعلان عن رفضهم للحكومة، واستمرارهم في التظاهر للمطالبة بتشكيل حكومة تكنوقراط من خارج الطبقة السياسية التي حكمت لبنان طوال العقود الماضية، كما اتجه بعض المحتجين إلى قطع الطرق والاعتصام بمناطق متفرقة.
على الصعيد السياسي الداخلي، أثار التشكيل الجديد انقسامًا بين الرافضين من البداية المشاركة بالوزارة الجديدة، وبين المتضامنين مع “حزب الله”. فقد رفضت أحزاب عدة المشاركة في تشكيل الحكومة، على رأسها تيار المستقبل بزعامة رئيس الوزراء المستقيل “سعد الحريري” وحزب القوات اللبنانية، والحزب التقدمي الاشتراكي، وحزب الكتائب. وبحسب الوزير السابق “ريشار قيومجيان” الممثل عن حزب القوات، فإن الكتلة النيابية للحزب (15 نائبًا) على الأرجح لن تُعطي الثقة لحكومة “دياب” تحت قبة البرلمان. كما أن عملية الدمج بين الوزارات في الحكومة غير منطقية، ولا تدل على حكومة اختصاصيين. فعلى سبيل المثال، تم دمج وزارة الشئون الاجتماعية مع السياحة، ما أثار تساؤلات حول مدى توافقهما وظيفيًّا. في المقابل، دعا الموالون والمقربون من تحالف “8 آذار” إلى الانتظار حتى تضطلع الحكومة بمهامها، وعندها يتم تقييمها. وحاجج البعض بأن وجود حكومة أفضل من الفراغ.
على الصعيد الدولي، قوبل قرار تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة بالترحيب من جانب الأمين العام للأمم المتحدة، مؤكدًا أنه سيعمل مع حكومة لبنان الجديدة لدعم الإصلاحات وتعزيز سيادته واستقراره واستقلاله السياسي. كذلك، أعرب الرئيس الفرنسي “ماكرون” عن استعداد بلاده لمساعدة لبنان للخروج من أزمتها الحالية. ولاحقًا، رهن وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” دعمَ بلاده للبنان بمدى التزام الحكومة الجديدة بالإصلاحِ السياسي والاقتصادي.
المسارات المحتملة للحكومة الجديدة
تواجه الحكومة اللبنانية الجديدة العديد من الأزمات، فبالإضافة إلى الأزمة الاقتصادية، وغياب دعم الطائفة السنية للحكومة الجديدة، واستمرار الاحتجاجات الشعبية المناهضة؛ يبرز أيضًا غياب الدعم الدولي للحكومة الجديدة نظرًا لصلتها المباشرة بـ”حزب الله” المُصنّف لدى العديد من الدول –على رأسها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة- بأنه منظمة إرهابية. وفي إطار تلك التعقيدات، تبرز ثلاثة مسارات محتملة للحكومة الجديدة.
المسار الأول- استمرار الحكومة الجديدة: ويعتمد تحقق هذا المسار على قدرة الحكومة الجديدة على تحقيق اختراقات جدية بالمجال الاقتصادي من شأنها رفع التصنيف الائتماني للبنان بوكالات التصنيف الائتماني الدولية، وتمكين المودعين من الوصول إلى ودائعهم بالبنوك، وتحجيم ما تشهده الليرة اللبنانية من تدهور. بمعنى آخر، التصدي الناجح للأزمة الاقتصادية المتفاقمة.
بجانب العامل الاقتصادي، سيعتمد استمرار الحكومة على قدرتها على القيام بإجراءات من شأنها اجتذاب الرضا الشعبي، كاتّباعها إجراءات فاعلة لمواجهة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة، وإجراء تعديلات على قانون الانتخابات النيابية وتخفيض سن الاقتراع إلى 18 عامًا، بما يوفر الدعم السني، وهو ما قد ينتج عن اجتماع “دياب” مع “سعد الحريري” ومفتي الجمهورية اللبنانية “عبداللطيف دريان” خلال الأيام القادمة. وأخيرًا، لا يمكن إغفال أهمية تأمين الدعم الأجنبي، خاصة لما سيكون لهذا الدعم من تأثير على أداء الاقتصاد اللبناني.
وفيما يتعلق بالدعم الأجنبي، فبحسب “دياب”، ستكون أولى جولاته الخارجية إلى منطقة الخليج العربي، وهنا تشير التحليلات إلى غياب اليقين بشأن تقديم أي من دوله -باستثناء قطر- المساعدة. فقد تحجم السعودية عن مساندة حكومة لها علاقات مباشرة مع عدوها التقليدي إيران، علاوة على غياب التيار السني عن الحكومة وبالأخص “سعد الحريري” الذي كانت له علاقات وثيقة مع المملكة. من ناحية أخرى، وعلى الرغم من توجيه الإمارات استثمارات مباشرة خلال ولاية “الحريري” بأكتوبر 2019، إلا أنه من غير المؤكد استمرار هذا الدعم في ظل الحكومة الحالية. وبشكل عام سيبقى قرار الخليج بالتعاون مع الحكومة اللبنانية من عدمه قرارًا سياسيًّا بالأساس حسب ما تُمليه مصلحته الوطنية ورؤيته لمستقبل التعاون مع الدولة اللبنانية.
فيما يتعلق بقطر، فقد تبدو تحركاتها إزاء الحكومة اللبنانية مرتبكة بعض الشيء. فمن ناحية، ليس لدى قطر مانع من التعامل مع حكومة موالية لإيران، بل وقد تتجه نحو تقديم الدعم لها حفاظًا على علاقتها الطيبة معها ولاكتساب مساحة جديدة من النفوذ بالمنطقة. ومع ذلك، قد تفضل في لحظة ما التراجع عن هذا الدعم تجنبًا لغضب واشنطن، وسعيًا منها نحو كسر الحصار الخليجي عليها. ويتشابه مع الموقف القطري الموقف الفرنسي، فعلى الرغم من إعلان فرنسا استعدادها تقديم الدعم، لكن قد تحجم عن دعمها تجنبًا لرد الفعل الأمريكي.
قياسًا على دور العامل الخارجي، يمكن تصور استمرار الحكومة الحالية في حال تحقق حوار بين الولايات المتحدة وإيران، أو في حال حدوث هدنة بين الطرفين وانخفاض التصعيد المتبادل. فعلى الرغم من ضعف تحقق هذا التصور، إلا أنه يظل غير مستبعد خاصة خلال سعي “ترامب” إلى تحقيق مكاسب كبرى سابقة للانتخابات الرئاسية.
المسار الثاني- استمرار الحكومة في أعمالها لكن مع إجراء تغييرات: فمع افتراض استمرار الاحتجاجات الشعبية وغياب المساندة الدولية، قد تلجأ الحكومة إلى إجراء تغييرات بالحقائب الوزارية من شأنها إصباغ نوع من الاستقلالية الحزبية. ومن الحقائب التي قد تطرأ عليها تغييرات حقيبتا الدفاع والداخلية، خاصة على خلفية ما أُثير حول صلاتهما المباشرة بـ”حزب الله”. ومن ثم، قد تلجأ الحكومة، إلى جانب اتباع الإجراءات السابق ذكرها، إلى إجراء تغييرات وزارية من شأنها تحسين صورتها داخليًا وأمام المجتمع الدولي. ومن غير المتصور تحقق هذه التغييرات إلا بعد مرور مدة زمنية تتراوح ما بين ستة أشهر إلى عام. وخلال هذه المدة الزمنية، وفي سبيل احتواء الاحتجاجات المستمرة، قد يلجأ “دياب” إلى إجراء تفاهمات مع الجانب السني وتقديم تنازلات له، بهدف إضفاء الشرعية السنية على حكومته، وهو الأمر الذي قد يكون له انعكاس داخلي متمثل في انخفاض حدة التظاهرات، وانعكاس خارجي أيضًا متمثل في دعم خليجي مرغوب فيه.
المسار الثالث- عدم قدرة الحكومة على الاستمرار: ينصرف تحقق هذا السيناريو إلى تصور استمرار الأزمة الاقتصادية، وعدم قدرة الحكومة على الوفاء بسداد ديونها، أو تحسين النمو الاقتصادي، أو تحسين أداء العملة المحلية. فوفقًا لوزير المالية اللبناني الجديد، فإن الأزمة المالية والنقدية القائمة “لم يشهدها لبنان منذ ولادته”، وأنها تحتاج إلى دعم الداخل والخارج.
ومن المتصور أن يتزامن استمرار التراجع الاقتصادي مع استمرار الحراك الشعبي وغياب الغطاء السني للحكومة الجديدة، وما يتبعه ذلك من غياب للدعم الدولي أيضًا، بل قد يتطور الأمر إلى فرض عقوبات ناتجة عن صلة الحكومة وموالاتها لحزب الله وبالتبعية لإيران، وهذا بافتراض استمرار التصعيد الأمريكي الإيراني. وقد تسفر تلك العقوبات عن عرقلة أعمال الحكومة الجديدة، وانغماس البلاد بشكل أكبر في الأزمة الاقتصادية والسياسية، الأمر الذي قد يؤدي إلى مواجهات أمنية وأعمال عنف بين المتظاهرين ومناصري “حزب الله” وحركة أمل. ونتيجة لضغط الشارع وللضغط الدولي، قد تلجأ الحكومة حينها إلى الاستقالة، أو قد يتطور الأمر لاحقًا إلى التلويح بالتدخل الدولي في حال عدم تقدم الحكومة باستقالتها. فبحسب “بومبيو”، فإن “التظاهرات في لبنان تقول لحزب الله: “كفى”.
خلاصة القول، تظل الاحتمالات مفتوحة أمام هذه المسارات الثلاثة لحكومة “حسان دياب”، لكن يظل العامل الخارجي وقدرة الحكومة على معالجة الاختلالات الاقتصادية هي الأمور الحاكمة لاستمرار عمل الحكومة من عدمه.