جاء إعلان رئاسة الأركان الفرنسية، في 25 مارس 2020، بسحب جنودها من العراق بسبب تفشي وباء (كوفيد-19) في إطار قرار التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن لمكافحة المتشددين بتعديل حجم انتشاره في العراق، وتعليق تدريب قوات الأمن العراقية مؤقتًا بالنظر إلى الأزمة الصحية التي تمر بها البلاد. ووفقًا لهذا الإعلان، فإنه بدءًا من الخميس 26 مارس 2020، فإن فرنسا قررت أن تُعيد إلى باريس حتى إشعار آخر، جميع جنودها المنتشرين في العراق البالغ عددهم تقريبًا 200 عسكري، بعضهم يشارك في تدريب القوات العراقية، والبعض الآخر في رئاسة أركان قوات التحالف في بغداد.
عملية الصمود
تزامن قرار فرنسا بسحب قواتها من العراق مع إعلان الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، في 26 مارس 2020، وبناءً على اقتراح من وزيرة الجيوش ورئيس أركان الجيوش، عن إطلاق “عملية الصمود” لمواجهة فيروس كورونا، لا سيما وأنه اعتبر أن فرنسا في حالة حرب صحية ضد فيروس كورونا في ظل ما وصفه بالذروة الوبائية التي تتفشى في فرنسا. وتختلف عملية الصمود عن العمليات التي أطلقتها فرنسا في مراحل سابقة كان أبرزها عملية حماية الأراضي الفرنسية من الإرهاب. وتهدف عملية الصمود إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية: الهدف الأول، هو الدعم الصحي، ومن ذلك على سبيل المثال إخلاء الجيش لمرضى فيروس كورونا المستجد ورعايتهم في المستشفيات الميدانية. الهدف الثاني، هو الدعم اللوجيستي، مثل نقل الأقنعة من منطقة إلى أخرى. وأخيرًا، يأتي الهدف الثالث وهو الحماية، مثل مراقبة الأماكن الاستراتيجية، وذلك للتخفيف من أعباء الشرطة الفرنسية.
وتأتي عملية الصمود لتستكمل منظومة الاستراتيجية الفرنسية لمواجهة تفشي فيروس كورونا، والتي اشتملت على العديد من الإجراءات، منها: اتخاذ إجراءات حظر مماثلة لتلك المتخذة في إيطاليا وإسبانيا، ونشر نحو 100 ألف شرطي وضابط جيش في نقاط مراقبة وحراسة ثابتة ومتنقلة، وإغلاق المدارس ورياض الأطفال والجامعات، وإغلاق أغلب المتاجر والمرافق الترفيهية، ومنع التنقل إلا للضرورة، وإرجاء المرحلة الثانية من الانتخابات البلدية التي كان مقررًا عقدها في 22 مارس من العام الجاري، ووضع جميع الإمكانيات البشرية والمادية في خدمة قطاع الصحة لمواجهة الوضع المتأزم، لا سيما بعد أن أعلن المدير العام للصحة في فرنسا “جيروم سالومون”، في 27 مارس 2020، تسجيل 299 وفاة إضافية بفيروس كورونا (كوفيد-19) خلال الساعات الـ24 الأخيرة في مستشفيات البلاد، لتبلغ الحصيلة الإجمالية للوفيات جراء انتشار الوباء في البلاد 1995 حالة، ووجود 15732 مريضًا في المستشفيات بينهم 3787 في أقسام الإنعاش، ما يعني نقل 412 شخصًا إلى المستشفيات خلال يوم واحد. وتشير هذه الحصيلة إلى أن عدد الوفيات في المستشفيات ازداد بأربعة أضعاف خلال أسبوع. وبات الوباء يتفشى بقوة في منطقة “إيل دو فرانس” التي تقع فيها باريس، ويبلغ عدد سكانها أكثر من 10 ملايين نسمة.
دلالات متعددة
يأتي القرار الفرنسي بسحب القوات الفرنسية المشاركة في التحالف الدولي لمواجهة “داعش” بالعراق في ظل تفشي (كوفيد-19) في فرنسا ليعكس العديد من الدلالات، لعل أهمها:
1- دور الجيوش في خطوط المواجهة الأمامية: يأتي إعلان عددٍ من الدول الأوروبية سحب جميع قواتها من العراق، كما فعلت كل من فرنسا والتشيك، أو سحب جزء من قواتها كما أعلنت بريطانيا في 19 مارس 2020 أنها ستقوم بسحب جزء من قواتها العاملة ضمن البعثة التدريبية في العراق؛ ليعكس بعدين أساسيين: الأول: كإجراء وقائي لحماية أفراد هذه القوات من مخاطر انتشار الفيروس إذا خرج عن السيطرة في مناطق تمركزهم. أما البعد الثاني، وهو الأهم، فيرتبط بأن عملية الاستدعاء تأتي في إطار محورية ودور الجيوش خلال الأزمات الكبرى وفترات الأوبئة والكوارث الطبيعية لحماية الدول ضد مصادر التهديدات المحتملة، وهي الجهود التي أضحت محل إشادة من كافة المتابعين لدور الجيوش في كافة الدول العربية والآسيوية والأوروبية على حد سواء، لمكافحة تداعيات فيروس كورونا المستجد. فعلى سبيل المثال -ووفقًا للعديد من التقارير الصحفية- فمنذ بداية أزمة انتشار فيروس (كوفيد-19) واصل الجيش الفرنسي جهوده لحماية المواطنين الفرنسيين، وكذلك المساعدة على تطبيق تدابير الوقاية داخليًّا، وإجلاء المصابين، وتوفير المعدات والمهارات وخبرات الأفراد لدعم خدمات الصحة العامة، كما تم تخصيص الموارد اللازمة لدعم السلطات المحلية في التصدي للأزمة.
2- أولوية الداخل على الخارج: أظهر استطلاع للرأي أجراه معهد إيفوب بين 21 و23 مارس 2020 ونشرت نتائجه في 27 مارس 2020 في صحيفة “لو باريزيان” أن 87% من الفرنسيين يخشون انهيار الاقتصاد الفرنسي، و81% يخشون فقدان أقرباء، و62% أن يخسروا حياتهم، و57% أن يخسروا قسمًا كبيرًا من عائداتهم، و40% أن ينفد الطعام لديهم. وتعكس قضايا الاستطلاع دلالة لها مغزاها وهي أولوية الداخل وقضاياه على قضايا الخارج في ظل المحنة التي تمر بها فرنسا كباقي الدول الأوروبية وغيرها. فمنذ تفشي أزمة كورونا قامت دول الاتحاد الأوروبي بإغلاق حدود دول الاتحاد الخارجية لمدة 30 يومًا. غير أن المثير في موقف الاتحاد الأوروبي هو رفض دول الاتحاد الاستجابة لطلب إيطاليا مساعدتها في مواجهة مخاطر انتشار (كوفيد-19)، حيث فرضت فرنسا وألمانيا قيودًا على تصدير المستلزمات الطبية. وردًّا على ذلك السلوك تداولت وسائل التواصل الاجتماعي فيديو يُصور عددًا من الشبان الإيطاليين يُنزلون علم الاتحاد الأوروبي من ساريته ويضعون بدلًا منه العلم الصيني.
3- أزمة الهيمنة الغربية: تعكس عمليات سحب قوات التحالف الدولي لكل من فرنسا وبريطانيا، وتعليق الولايات المتحدة عمليات تدريب القوات العراقية لمواجهة تنظيم “داعش” لمدة 60 يومًا بعد أزمة كورونا، عمق أزمة الهيمنة الغربية، خاصةً أنه مع بروز العولمة بدأ الترويج لأفكار انتصار الحضارة الغربية، مثل ما طرحه “فوكوياما” في مؤلفه ذائع الصيت حول نهاية التاريخ، وانتصار المنظومة القيمية للرأسمالية الغربية، بحيث أضحت المنظمات الدولية (مثل: البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، ووكالات الأمم المتحدة المتخصصة) تتبنى الأفكار والقيم الرأسمالية الرامية إلى الحرية الاقتصادية، والحد من دور الدولة في النشاط الاقتصادي. وقد حاول وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” في مؤتمر ميونيخ للأمن الدولي منتصف فبراير 2020 ترديد نفس المقولات بقوله: “إن الغرب يفوز- The West is Winning”، حيث الفوز هنا مواكب للانتصار والهيمنة على العالم.
ومع تفشي فيروس كورونا، فإن هذه الهيمنة تعرضت إلى معضلة على مستوى قيادة العالم سياسيًّا وأخلاقيًّا، لمواجهة الجائحة بعد الإخفاق والتردد الأمريكي، وطلب المساعدة من دول أخرى كالصين وكوريا الجنوبية، فضلًا عما يُعانيه الاتحاد الأوروبي من تشرذم في الرؤى، وتعالي بعض الأصوات الأوروبية المنادية بعدم جدواه، لا سيما بعد عجز مؤسساته عن التعامل البنّاء أو تبني استجابة أوروبية فعّالة تتناسب مع خطورة تحوّل كورونا إلى وباء عالمي. وربما يعود هذا الإخفاق في جانب منه إلى السياسات النيوليبرالية التي انتهجتها الدول الغربية، والتي عمّقت من مشكلات القطاعات الرئيسية في الخطوط الأمامية لمواجهة أزمة كورونا قبل استفحالها، والتي تجلّت في الانهيارات التي واجهت منظومة القطاع الصحي في عددٍ من الدول التي توصف نظمها بالمتقدمة، كما كشفت الأزمة عن زيف الادعاءات بأن قوى السوق قادرة على تصحيح الخلل المفاجئ دون تدخل من الدولة. وهو الأمر الذي يعني بطبيعة الحال ضرورة إعادة الاعتبار لدور الدولة، وإعادة الاعتبار أيضًا لامتلاك الدولة للقطاعات الحيوية في الاقتصاد، وفي مقدمتها قطاعات الصحة والتعليم والبحث العلمي، وهي التجربة التي أسهمت في تمكين التجربة الصينية من محاصرة انتشار الفيروس، بل وتقديم مساعدات عاجلة للدول الأورربية ذاتها، ومنها إيطاليا وفرنسا وإسبانيا، برغم كل ما يتردد عن عدم شفافية الصين في التعامل مع بدايات الأزمة.
4- اختبار لقدرة العراق على مواجهة “داعش”: يُشكّل رحيل القوات الفرنسية وجزء من القوات البريطانية من العراق اختبارًا لمدى قدرة العراق على مواجهة تنظيم “داعش” الإرهابي، في ظل توقع العديد من التحليلات بأن تبعات أزمة كورونا سيكون تأثيرها أكثر حدة على المجتمعات الهشة، وربما يؤدي إلى تفكك الضعيف منها بما يجعلها بيئة مواتية لانتشار التنظيمات الإرهابية والمتطرفة. وهو ما جعل بيان قوات التحالف الدولي بعد الإعلان عن تعليق الولايات المتحدة لنشاط التحالف لمدة 60 يومًا بعد تفشي (كوفيد-19)، يؤكد على أنه في المستقبل من المتوقع أن يدعم التحالف القوات العراقية من خلال عددٍ أقل من القواعد، بعدد أقل من الأفراد، على أن يبقى التحالف ملتزمًا على الأمد الطويل بالمعركة ضد تنظيم “داعش”.مجمل القول، إن اتجاه الدول الأوروبية -ومنها فرنسا وبريطانيا- لسحب قواتها من العراق بعد أزمة (كوفيد-19) بقدر ما يمثل تهديدًا لإمكانية عودة “داعش” لممارسة نشاطه على الساحة العراقية، بقدر ما سيكون فرصة للقوات العراقية للاعتماد على قدراتها الذاتية وخبراتها التي تشكّلت في مواجهة التنظيم الإرهابي الأشرس في العالم من خلال تنفيذ العديد من العمليات التي كان أبرزها عملية “أبطال العراق” لمواجهة بقايا الإرهاب، والتي انطلقت في فبراير 2020 بعد انتهاء عملية “إرادة النصر” بمراحلها الثماني خلال عام 2019، وهو ما يتطلب ضرورة توافق القوى العراقية على تشكيل الحكومة الجديدة، حتى يتمكن العراق من مواجهة الأزمات المتتابعة دون توقف.