على الرغم من الاختلافات الشديدة بين الخبراء والمفكرين حول تداعيات أزمة فيروس كورونا وتأثيراته المختلفة على جميع الأصعدة، فإنهم يجمعون على انها ستؤثر بشدة على النظم القائمة حاليا، وتؤدى إلى تغييرات جذرية في مجموعة العلاقات الاقتصادية والسياسية بين المواطنين والدولة، حيث انتهى المنهج الذى كان يربط علاج عجز الموازنة بتقليص دور الدولة في النشاط الاقتصادي وحصره في أضيق الحدود والمناداة بالحرية المطلقة لآليات السوق، وهو ما ثبت فشله تماما، وأعيد الاعتبار للمنهج التنموي الذى يربط علاج العجز بعلاج الاختلالات الجوهرية في الاقتصاد وتشجيع استخدام الموارد بكفاءة وفعالية وتنمية إيرادات الدولة. وبالتالي يتمثل التحدي الذي يواجهها فى ضمان مستوى من الإنفاق العام يتسق مع الاستقرار الاقتصادي الكلى.
وبالنظر إلى الوضع المصري فإن كل بنود الإنفاق العام بشكلها الحالي، بنود حتمية بل تحتاج إلى المزيد، ويصبح من الضروري العمل على بناء حيز مالي عن طريق توليد المزيد من الموارد العامة، خاصة من الأصول المملوكة للدولة وهو ما يمكن أن يولد عائدات كبيرة للخزانة العامة، وهذا لن يتأتى إلا عبر البحث في الباب الثالث للموازنة المتعلق بالإيرادات الأخرى.
ورغم أن الملكية العامة في مصر كبيرة ومتشعبة، حيث تتراوح بين الهيئات الاقتصادية وشركات قطاع الأعمال العام والقطاع العام والشركات القابضة النوعية التابعة للوزارات والشركات الخاضعة لأحكام القانون 159 لسنة 1981 وبنوك القطاع العام، فضلا عن الشركات الخاضعة لبعض الهيئات الاقتصادية، ناهيك عن الشركات المشتركة التي يسهم فيها المال العام، بالإضافة الى الأراضي والعقارات والمباني، فضلا عن حقوق الملكية الفكرية على الآلاف من المصنفات الفنية والكتب وغيرها، وكلها أصول يمكن أن تولد تدفقات نقدية تساعد في زيادة الحيز المالي للدولة ولكنها تعانى عدة مشكلات وعلى رأسها تدنى العائد عليها، وعدم تحصيل المستحقات على هذه الأصول، وتراكم المتأخرات، فضلا عن عدم الاستغلال الأمثل للموارد المتاحة لكل هذه الأسباب، فقد تراجعت مساهمة عناصر الإيرادات الأخرى مع تراجع الأرباح المحولة للموازنة العامة من أرباح أسهم هذه الكيانات وذلك لكونها خارج الموازنة بالمخالفة لمبدأي الشمول والوحدة، والأول يشير إلى أنه يجب أن تشتمل الموازنة على جميع موارد الدولة ونفقاتها، ولا يجوز أن تنشأ حسابات خارج النظام.
وفيما يتعلق بوحدة الموازنة فإنه لا يجوز تخصيص مورد معين لنفقة محددة، بل يجب أن تتجمع جميع الموارد في الخزانة العامة والتي تقوم بتوزيعها على مختلف جوانب الإنفاق العام وفقا لما يرتئيه المجلس التشريعي. ولذلك يصبح من الضروري العمل على أن تشتمل الموازنة على كل الكيانات المالية، وهو التعريف الذي يتبناه المشروع الجديد لقانون المالية العامة الموحد.
وهو ما يدعونا الى إعادة النظر في مضمون الموازنة العامة بشكلها الحالي، وبما يتناسب مع التطورات الاقتصادية والاجتماعية الحالية، اذ تدلنا المتابعة التاريخية للموازنة أنها مرت بالعديد من المراحل خاصة بعد ثورة يوليو 1952 حيث كانت تضم ميزانيات المشروعات الإنتاجية والخدمات العامة حتى عام 1962، ثم قُسمت بعد ذلك الى جزءين شمل الأول الجهاز الإداري للدولة والثاني ميزانية المؤسسات والهيئات العامة ذات الطبيعة الاقتصادية، بل ان لفظ موازنة لم يطلق عليها إلا اعتبارا من عام 1968/1969 بدلا من الميزانية العامة، وأصبحت مقسمة الى سبعة أجزاء تُقسم بين موازنة جارية وأخرى استثمارية، وتلتها مراحل أخرى كان من أهمها القانون 53 لسنة 1973 والذى سمح بإنشاء الصناديق والحسابات الخاصة وهى صناديق أنشئت لتحقيق أغراض معينة ولها كيانات إدارية مستقلة، وكان من المفروض أن تمول نفسها ذاتيا من خلال الموارد التي تحددها قرارات إنشائها أو لوائحها الخاصة بها. ثم جاء التوسع الأكبر الذي تم بموجب قوانين مثل قانون الإدارة المحلية وقانون تنظيم الجامعات وقانون التعليم، والبعض الآخر بموجب قرارات جمهورية أو وزارية أو قرارات من المحافظين. ثم جاء التعديل التشريعي بالقانون رقم 11 لسنة 1979 والذي بمقتضاه تم إخراج الهيئات الاقتصادية من الموازنة التي أصبحت مقصورة على الجهاز الإداري والإدارة المحلية والهيئات العامة الخدمية. وتقتصر العلاقة بينهما على الفائض الذي يؤول للخزانة وما يتقرر لها من قروض ومساهمات.
وهكذا، تسرب جانب مهم من الموارد العامة خارج نطاق الموازنة إلى هذه الكيانات. من هنا نرى ضرورة العمل سريعا على إعادة النظر في توزيع الفائض لدى الهيئات الاقتصادية ككل، حيث لا توجد قواعد موحدة للتوزيع، فالبعض يحتفظ بالفائض في صورة فائض مرحل واحتياطات، في حين يؤول فائض بعض الهيئات بالكامل إلى الخزانة، لذا وجب إصدار تشريع لتعديل القوانين المنظمة لهذه المسألة برمتها.
وعلى المدى المتوسط هناك ضرورة لضم كل من الهيئات الاقتصادية والصناديق الخاصة إلى الموازنة العامة، باستثناء الجهات ذات الطبيعة الخاصة مثل الهيئة القومية للتأمينات الاجتماعية وهيئة البريد نظرا لطبيعتهما، وتحويل هيئتي البترول وقناة السويس إلى شركات قابضة نوعية، مثلها مثل مصر للطيران وذلك بعد أن فقدت مبررات الاستقلال. وينطبق الوضع نفسه على الصناديق الخاصة، إذ يمكن ضمها أيضا إلى الموازنة باستثناء حسابات المشروعات البحثية والمشروعات الممولة من المنح والاتفاقيات الدولية، فضلا عن حسابات الإدارات الصحية والمستشفيات وصناديق تحسين الخدمة الصحية ومشروعات الإسكان الاقتصادي. وبمقتضى هذا الاقتراح تكون الموازنة معبرة وبحق عن الوضع المالي للدولة، ويزيل اللغط السنوي حول الالتزام بالدستور فيما يتعلق بالإنفاق على مجالات الصحة والتعليم والبحث العلمي، فعلى سبيل المثال فإن التقسيم الوظيفي للموازنة يقتصر فقط على بنود الإنفاق داخل الموازنة العامة ولا يتضمن الهيئات الاقتصادية العاملة في هذا المجال، وهى (الهيئة العامة للتأمين الصحي والمؤسسة العلاجية والتأمين الصحي الشامل والشراء الموحد والإمداد والتموين الطبي) وغيرها من الجهات التي تعد من الإنفاق العام وليس الإنفاق الحكومي وهو الأساس عند تقييم دور الدولة في الإنفاق على الجوانب الاجتماعية المختلفة، حيث يؤدى الاقتصار على الأخذ بالوضع الحالي، إلى تقديم صورة مشوهة وغير حقيقية للوضع المالي. كما يؤدى إلى المزيد من الشفافية وفرض الانضباط على صانعي السياسة.
نقلا عن جريدة الأهرام، 29 أبريل 2020.