كثيرة هي الثنائيات التي تحكم حياتنا البشرية. الحياة والموت ثنائية لا جدال فيها، ولا اختيار فيها، هما القدر المحتوم مُجسدا في لحظتين غير قابلتين للتعديل أو التغيير. ثنائية الخير والشر هي المركز الذي تدور حوله الإنسانية بأسرها. كل يعتقد أن موقفه هو الحق والخير، والآخر هو الشر المطلق الواجب استئصاله. جذر المشكلة يعود إلى منظومة القيم التي تحكم كل طرف، وأصولها المختلفة، سواء الدينية أو العلمية أو الحقوقية أو السياسية والتاريخية والمصلحية، وجميعها تتداخل مع بعضها البعض لتشكل نظرتنا للحياة وكيف نعيشها والقيم والمصالح التي نجتهد ونكافح في الحفاظ عليها والانتصار لها. هنا يقع الاختيار وبالتالي تتحدد المسئولية الأخلاقية والقانونية والسياسية وفقا لكل موقف، مصحوبا بالعائد والثمن المناسب لكل موقف.
مسلسل الاختيار ومن خلال عنوانه جسد تلك الاشكالية في عمل درامي جاذب، مزج بين أداء تمثيلي اتسم بالاحتراف والاقناع، وبين مقاطع تصويرية للأحداث الحقيقية التي عالجها المسلسل، وكلاهما منح العمل ككل صفة التوثيق الدرامي لجهود القوات المسلحة والتي يقينا تمثل جانب الخير والحق، في مواجهة عصابات وجماعات الإرهاب والتكفير التي تمثل يقينا جانب الشر ومعاداة الدين والانسان والوطن والحياة ككل.
لقد وضح الاختيار وتبعاته في تلك المقارنة الصائبة بين موقفي الشهيد أحمد المنسي ورفاقه من الجنود والضباط والشخصيات السيناوية التي أعلت انتمائها الوطني ووقفت بشراسة ضد العمالة والخيانة والارهاب والتكفير وكل القيم السلبية الممجوجة، وبين مواقف هشام عشماوي وأمثاله من الإرهابيين والمُغرر بهم دينيا والمتعاونين فاقدى البصر والبصيرة والانتماء للوطن، والذين تصوروا أنهم قادرون على إسقاط مصر الوطن والمكانة في براثن الفوضى والعبثية. حقيقة الأمر أن الاختيارات هنا عديدة ومتشعبة، بين الوطنية والخيانة، والشرف والعمالة، بين حقيقة وجوهر الدين الإسلامي في الحفاظ على النفس والوطن، وبين الافتراء عليه وتعمد التأويل الخاطئ للنصوص القرآنية لأغراض دنيوية تتسم بالخسة والدناءة، بين الثبات واليقين وبين الغرور الخادع، بين الصدق في القول والعمل وبين المراوغة والخداع، بين من نالوا حب واحترام الوطن والناس، ومن نالوا كراهيته ولعناته، بين من ارتفعوا إلى السماء شهداء بإذن الله، ومن هبطوا إلى أسفل بقاع جهنم.
لقد أظهر التطور الدرامي المُجسد لحقائق ثابته أن حماية مصر وأمنها وشعبها مسئولية يحملها الوطنيون بامتياز، الذين لا يهابون الموت ولا يخشون أي تضحية، ولا يتراجعون أمام أي هجمة مهما كانت قوتها، وأيا كان الطرف المُحرك لها في الداخل أو في الخارج. أما هؤلاء الذين يدعون الدفاع عن الدين ظلما وبهتانا ويتصورون قدرة زائفة على استقطاع جزء من الوطن فهم ليسوا أكثر من بيادق عمالة تحركها مخابرات خارجية تستهدف النيل من مصر ومكانتها. والنصر دائما محسوم للوطن والوطنيين. مصحوبين بالشرف والعزة، أما العملاء والخونة فهم في الدرك الأسفل ولا ذكر لهم إلا مصحوبا باللعنات.
ثنائية الشرف والخيانة، أظهرت المدى الذي وصلت إليه الجماعات التكفيرية والارهابية من الخسة والدناءة، والافتراء على الدين وعلى الخالق سبحانه وتعالى، وفضحت الخداع الذي مارسته تلك الجماعات ومن خلاله غررت بالكثيرين وقدمتهم على طبق من ذهب لجهنم وعذابها، وأبرزت وسائلهم المنحطة أخلاقيا في تجنيد البسطاء وفى تقديم المتعة المنبوذة تحت مسمى “جهاد النكاح” للمجندات. الخيانة هنا ليست فقط للوطن بل للدين الإسلامي ولكل قيمه العليا.
عاصفة النقد وإهالة التراب على العمل الدرامي والإساءة إلى دلالاته والتي انتشرت في مواقع جماعات الإرهاب وقنوات الفتنة الإعلامية كانت أمرا منتظرا، وكشفت حجم الخيبة التي أصابت مموليهم وداعميهم، وعمقت المأزق الذي يواجهونه في شرح وتبرير تلك الخيبة أمام مناصريهم وحلفائهم. إذ كيف لهم أن يبرروا قتل الناس باعتباره نصرة للدين؟ وكيف لهم أن يشرحوا العمالة باعتبارها شرفا يستحق الشهادة؟ وكيف لهم أن يغرروا بآخرين وقد شهدوا جزاء الخيانة؟ سوف يستمر هؤلاء في الكذب كعادتهم، وكأي كذب مهما كان متقنا ستأتي لحظة الحقيقة التي ينهار فيها ويصبح أثرا بعد عين.
لقد انتقد البعض العمل من غير الجماعات الإرهابية ومناصريها العمل الدرامي باعتباره مسيسا وله رسالة معروفة مسبقا ولم يكن له داع أصلا. وهو انتقاد مردود عليه، لأن تخليد ذكرى الأبطال الوطنيين هو وظيفة أصيلة للفن ولكل المبدعين، وكثير من الأعمال السينمائية العالمية خلدت ذكريات الأبطال أثناء الحروب والمعارك الكبرى، واعتمدت على وثائق وحقائق ثابته، وكان هدفها وضع تلك الحقائق أمام الجميع من خلال عمل فنى جاذب يصل إلى أكبر مساحة ممكنة من الجمهور المتلقي، ولم تخلو تلك الأعمال من أهداف سياسية وأخلاقية ومهنية، ولم يقل أحد أن هذه الأعمال لا ضرورة لها، أو أن ما أُنفق فيها كان يفضل توجيهه إلى مشروعات أخرى. الشعوب والأوطان كما تعيش بالصناعة والزراعة والتجارة والتعليم وبناء الطرق والمدارس والمشافي، تعيش أيضا بالفنون والإبداع والأعمال الدرامية ذات المضامين الوطنية الراقية والرسائل الإنسانية. والحقيقة أن بطولات جنودنا وضباطنا في سيناء وفى كل بقاع مصر لم تنل حظها المناسب في الأعمال الدرامية الراقية، وهناك قصور كبير في تجسيد تلك البطولات لتعرفها الأجيال الحالية والمقبلة. والمطلوب هنا أن ترتفع الأصوات أكثر وأكثر لكي تُنتج أعمال درامية عن تلك البطولات والتضحيات العظيمة.
ستظل مصر في عين العاصفة لفترة طويلة، والكثير مما حولنا يؤكد أن الذين يريدون الشر لبلادنا يتعاونون بكثافة منقطعة النظير في إثارة المشكلات والأزمات والحروب، ويوظفون كل الوسائل والأدوات، بما فيها الإعلامية والفنية، لإثارة الإحباط لدى المواطن المصري ودفعه للتمرد على بلده ومجتمعه، وبث روح الفتنة والانقسام، وتلك بدورها تفرض على مصر بكل أجهزتها ومؤسساتها مواجهة من نوع خاص، أهم ما فيها التمسك بوحدة الوطن وروح الانتماء وإرادة التحدي وتثبيت الثقة بالنفس وفضح الإرهاب وأعوانه وداعميه، وتخليد الأبطال من خلال الأعمال الدرامية والإبداعية، والقادرة على بث اليقين بأن النصر للوطن واللعنات للخونة والإرهابيين. مصر لديها الكثير مما تستطيع أن تفعله في هذا المضمار. والثابت أن قدرات مصر الناعمة تستطيع أن تصل إلى أبعد الحدود من حيث التأثير وإعادة التوازن النفسي الجمعي.
نقلا عن جريدة الأهرام، الإثنين 25 مايو 2020.