تشهد الساحة اليمنية عددًا من التحولات من شأنها تأزيم الوضع الأمني في البلاد. هذه التحولات تتلخص في ثلاث معضلات رئيسية: الأولى، تنصرف إلى تجدد دورات الصراع الدائر بين الحكومة الشرعية وجماعة أنصار الله (الحوثيين). الثانية، ترتبط بصراع مؤقت يأخذ مسارات من التصعيد تارة والتهدئة تارة أخرى، ويتمثل في الخلاف بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي. بينما تتعلق المعضلة الثالثة بانتشار الجماعات والتنظيمات الإرهابية.
هذا المقال سوف يُركز على تناول المعضلة الثالثة، المتمثلة في حالة التنظيمات الإرهابية في اليمن. فقد أوضح مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2019 أن اليمن تحتل المرتبة الثامنة بين الدول الأكثر تضررًا بالإرهاب خلال عام 2018، حيث سجلت اليمن حوالي 227 حادثة إرهابية، نتج عنها إصابة نحو 325 شخصًا ووفاة حوالي 301.
“القاعدة”.. النفوذ الأوسع
تأسس تنظيم القاعدة في شبة الجزيرة العربية عام 2009 في أعقاب اندماج عناصر التنظيم في السعودية واليمن. وقد اتخذ التنظيم من جنوب اليمن معقلًا رئيسيًّا له، وأصبح من أقوى وأبرز التنظيمات السلفية الجهادية على الساحة اليمنية. ويمكن تحديد الملامح العامة لعمل القاعدة في اليمن فيما يلي:
1- الاستثمار في الفوضى: قبل عام 2011 لم تكن القاعدة تتمتع بجاذبية كبيرة في اليمن، وكان تأثيرها محدودًا؛ إلا أنها نجحت في استغلال حالة الفوضى وغياب الدولة عقب سقوط صنعاء في يد الحوثيين (سبتمبر 2014)، فعملت على توسيع نفوذها، وتمكنت خلال عام 2015 والنصف الأول من عام 2016 من بسط هيمنتها ونفوذها في عدد من المحافظات في جنوب اليمن. وباتت تتمتع بنفوذ واسع في محافظات المكلا وأبين وشبوة. وبلغت ذروة السيطرة الجغرافية للتنظيم في فبراير 2016، إذ أصبح للقاعدة نفوذ متنامٍ في تسع بلدات، تبعها إعلان هذه المناطق إمارات إسلامية خاضعة للتنظيم. من ناحية أخرى، حققت القاعدة مكاسب مالية ضخمة من خلال عمليات التهريب والاختطاف، علاوة على الاستيلاء على مدينة وميناء المكلا، حيث قدرت تقارير حجم الموارد التي حصل عليها التنظيم من خلال استهداف بنك المكلا بنحو 111 مليون دولار. وقد وفرت هذه الأموال للتنظيم فرصة كبيرة للإنفاق على عملياته بالإضافة إلى عمليات التجنيد والتسليح.
2- بناء حواضن شعبية: تبنى تنظيم القاعدة استراتيجية قائمة على التغلغل في الأوساط الشعبية والمحلية في اليمن، بهدف توسيع قاعدته. وقد اعتمد في تنفيذ هذا النهج على تبني خطاب قائم على دعم السكان المحليين السنة وتشكيل تحالف ضد النفوذ الشيعي، بحيث أصبحت القاعدة جزءًا من جبهة وتحالف سني أوسع موجه لمقاومة توسع الحوثيين، الأمر الذي ساهم في تعزيز علاقة التنظيم بالقبائل السنية والعناصر السلفية المحلية. كما عمل التنظيم على خلق حالة من التعاطف المجتمعي معه من خلال الاعتماد على قيادات يمنية في الإدارة العليا للتنظيم على أن تظل القيادات الأجنبية أو غير اليمنية ضمن عناصر مجلس شورى التنظيم.
3- استيعاب الضربات وإعادة التموضع: تراجع نفوذ القاعدة في الآونة الأخيرة نتيجة للخسائر البشرية والميدانية التي لحقت بالتنظيم نتيجة تواصل جهود مكافحة الإرهاب. ففي الوقت الذي نفذت القاعدة نحو 145 عملية خلال النصف الأول من عام 2017 سجلت نحو 62 خلال النصف الأول من عام 2018. كما تراجع إجمالي العمليات بنسبة 88% خلال عام 2018 مقارنة بعمليات التنظيم خلال عام 2015. علاوة على ذلك، استطاعت الغارات الأمريكية، التي بلغت حوالي 131 غارة خلال عام 2017 و36 في عام 2018، إلحاق خسائر كبيرة بالتنظيم الذي وصل عدد مقاتليه خلال عام 2018 لنحو 6000 عنصر، علاوة على خسائر في صفوف القيادات العليا، كان آخرها الإعلان الأمريكي عن استهداف “قاسم الريمي” في يناير 2020. ويلاحظ أن التنظيم بدأ مؤخرًا في اتخاذ عدد من المناطق الجبلية والنائية مرتكزًا لعناصره ومجموعاته العنقودية الصغيرة في محاولة لتلاشي الضربات الجوية كمرحلة مؤقتة من أجل استعادة تموضعه في ظل قيادة “خالد باطرفي” الذي يعمل على استعادة زمام الأمور داخل التنظيم من خلال تسكين حدة الخلافات الداخلية، ومعالجة الاختراق، والتعامل مع شبكة الجواسيس داخل التنظيم والتي لا تزال عائقًا كبيرًا يواجه القاعدة رغم قيام التنظيم بإعدام نحو 410 عناصر بعد اتهامهم بالعمالة والجاسوسية. إلا أن هذه المهام لن تتم بسهولة، خاصة في ظل غياب التوافق داخل أعضاء التنظيم حول القيادة الجديدة.
“داعش”.. البحث عن بديل
جاء الإعلان الأول عن تواجد تنظيم “داعش” في اليمن في نوفمبر 2014، عندما قامت جماعة “مجاهدو اليمن” بإعلان البيعة لأبي بكر البغدادي في إصدار صوتي حمل عنوان “البيعة اليمانية للدولة الإسلامية”. ومنذ ذلك الحين حاول داعش البحث عن موطئ قدم له في اليمن. ويمكن الوقوف على الملامح العامة المميزة لداعش في اليمن فيما يلي:
1- اللعب على وتر الطائفية: على غرار نهجه في العراق، عمل داعش في اليمن على اكتساب زخم من خلال تكريس وفرض البعد الطائفي على عملياته. وقد عمل في بداية الأمر على توسيع نشاطه ضد جماعة الحوثيين، وتم ترجمة ذلك بصورة حركية وعملياتية عندما أعلن داعش مسئوليته عن استهداف مسجدين للشيعة في العاصمة صنعاء (مارس 2015) راح ضحيته حوالي 137 شخصًا. وقد كانت هذه العملية وما نجم عنها من تداعيات ضخمة بمثابة الإعلان الرسمي عن وجود التنظيم. رغم ذلك، لم ينجح داعش في تكوين الحاضنة والقبول داخل اليمن بذات الدرجة التي حققتها القاعدة. كما فشل في الاندماج في الهياكل المحلية والشعبية وهو ما أفقده التأثير المطلوب.
2- فشل تطبيق نهج داعش المركز: سعى تنظيم داعش إلى توسيع خلافته العالمية من خلال البحث عن ساحات إقليمية جديدة، وقد مثّلت اليمن أهمية كبيرة لدى التنظيم نظرًا لموقعها الاستراتيجي الذي يمكن أن يكون مرتكزًا لتمدد التنظيم في شبه الجزيرة العربية، حيث عمل داعش استنادًا إلى حالة الزخم التي كان يتمتع بها في سوريا والعراق لاستقطاب وجذب أعضاء جدد إليه، إلا أن الطبيعة القبلية اليمنية ورفض مبدأ السيطرة الجغرافية وإعلان اليمن جزءًا من التنظيم حالت دون تحقيق هذه المساعي. رغم ذلك نجح داعش لفترات طويلة في إدارة معسكرات وتجمعات لتدريب عناصره في عدد من المحافظات جنوب اليمن. ومع ذلك، لم ينجح تنظيم داعش إلا في استقطاب عدد محدود للغاية، وأغلبهم كانوا ضمن العناصر الأكثر تشددًا ودموية في القاعدة، إذ تذهب التقديرات إلى أن القوة البشرية لداعش تتراوح بين 250-500 عنصر، وهو معدل ضئيل لا يسمح بتحقيق الهيمنة المطلوبة. ورغم ذلك فقد حاول داعش التواجد ولو دعائيًا وإعلاميًا من خلال تكتيكاته المتنوعة عبر الاغتيالات المباشرة واستهداف تمركزات العناصر الأمنية والشخصيات العامة والهجمات والعمليات الانتحارية.
3- إخفاقات وتراجع: تشهد الفترات الأخيرة تراجعًا كبيرًا لنفوذ داعش في اليمن ونشاطه العملياتي، إذ نفذ التنظيم حوالي 32 هجومًا خلال عام 2016 وحوالي 6 عمليات خلال عام 2017، و5 عمليات خلال النصف الأول من عام 2018. وقد أرجعت التحليلات هذا الانحسار لعدد من الأسباب، من بينها: انخفاض جاذبية داعش بشكل عام بعد خسائره في سوريا والعراق ومقتل زعيمه (أكتوبر 2019)، والقبض على أمير التنظيم في اليمن (يونيو 2019). كما ساهمت الانقسامات الداخلية وضعف التمويل مقارنة بالأعوام الأولى للتنظيم في تحجيم نفوذها، وهو ما تسبب في عدم قدرة التنظيم على استقطاب مزيد من العناصر، ناهيك عن أن تكتيكات وأنماط القتل الجماعي وتفجير المساجد تعارضت مع الطبيعة القبلية اليمنية. كل هذه العوامل ساهمت في فشل التنظيم في السيطرة الجغرافية في اليمن.
احتمالات قائمة
ثمة احتمالات عدة بشأن تنظيمات السلفية الجهادية في اليمن. هناك إمكانية لاندماج عناصر التنظيمين (القاعدة وداعش) تحت مظلة واحدة. وقد يكون اندماج عناصر داعش للقاعدة هو النموذج الأقرب، نظرًا للضغوط التي يتعرض لها داعش بشكل عام. كما أن جذور القاعدة في اليمن أكثر قوة ورسوخًا، حيث تراجع نفوذ داعش في اليمن بدرجة لا تمكّنه من امتلاك أوراق التأثير، خاصة أن التنظيم لم يعد يحتفظ سوى بأربعة ألوية تتكون من نحو 60 عضوًا في محافظة البيضاء وفقًا لتقرير الأمم المتحدة 2019.
هناك احتمال آخر هو استمرار حالة التنافس بين التنظيمين، حيث يعمل كل طرف على تأكيد أحقيته بزعامة الساحة الجهادية في اليمن. ويأتي هذا النهج كانعكاس لطبيعة التنافس الأكبر بين التنظيمات في عدد من الساحات –الشرق الأوسط وإفريقيا- إذ سيعمل كل طرف على محاولة تثبيت قواعده واستعادة حضوره بشكل يضمن له التمدد. وقد بدا التنافس بين الطرفين واضحًا، سواء على النفوذ أو التجنيد واستقطاب الأعضاء الجدد، حيث تصادم الطرفان وحدثت اشتباكات عنيفة بينهما في عدة مرات في مناطق عدة داخل اليمن، كتلك التي حدثت في محافظة البيضاء (أغسطس 2019). كما انتقل التنافس بين الجانبين من الوضع الميداني إلى الإصدارات المرئية الدعائية، حيث أصدر القاعدة في أبريل 2020 الفيديو العاشر من سلسلة “الله يشهد إنهم لكاذبون” والذي عمد خلاله إلى فضح واستهجان تحركات وتكتيكات داعش في اليمن. من ناحية أخرى، نشر داعش إصدارًا مرئيًّا بعنوان “معذرة إلى ربكم” عمل من خلاله على تشويه صورة القاعدة واتهامها بالتخاذل في تطبيق شرع الله. وهذا النمط يشير إلى احتمالات استمرار التنافس الميداني والدعائي بين الجانبين خلال الفترة القادمة.