واجه الأمن الغذائي في مصر عدة مشكلات قبل انتشار فيروس كورونا، أبرزها أسعار المواد الغذائية، ومستويات الإنتاج الزراعي، فضلًا عن مواجهة بعض المشكلات الفرعية، مثل: ندرة مصادر المياه، وصعوبة تأمين مصادر الطاقة للتنمية الزراعية، وأخيرًا، صعوبة تطوير القدرات التقنية والمؤسسية. ولهذا وضعت وزارة الزراعة المصرية في عام 2019 عشرة محاور أساسية لتحقيق الأمن الغذائي، وذلك من خلال تبني الدولة عددًا من التوجيهات، تضمنت تعزيز الاكتفاء الذاتي من بعض السلع الغذائية المستوردة مثل الفواكه والخضروات والأرز والدواجن والأسماك، مع تضييق الفجوة الاستهلاكية في القمح والسكر والذرة، وتقديم مواد غذائية ذات جودة جيدة وبأسعار مناسبة إلى الأسر الفقيرة. هذا إلى جانب تطوير قطاع الإنتاج الحيواني، ووضع تشريعات زراعية تسمح باستصلاح أراضي جديدة، وعدم التعدي على الأراضي الزراعية ومواجهة الزحف العمراني.
لكن جاء وباء كورونا ليمثل عقبة أساسية وتهديدًا مباشرًا ورئيسيًا للقطاع الزراعي، يمكن أن يساهم في إرجاء تنفيذ السياسات السابقة التي تهدف إلى تعزيز مفهوم الأمن الغذائي.
في هذا السياق، تثور تساؤلات مهمة، أبرزها: ما أهمية القطاع الزراعي للاقتصاد المصري؟ وما هو مدى تأثير فيروس كورونا على هذا القطاع الرئيسي؟ وكيف يُمكن مواجهة تلك العقبات الناجمة عن الأزمة الراهنة؟
أولًا: أهمية القطاع الزراعي داخل الاقتصاد المصري
يعتبر القطاع الزراعي من القطاعات الحيوية للاقتصاد المصري، كما أنه يُعد من المصادر الرئيسية لدخل الملايين من المواطنين. ووفقًا للجمعية المصرية للاقتصاد الزراعي، يوفر القطاع الزراعي حوالي 55% من احتياجات البلاد من الغذاء، ويعمل به نحو ثلث القوة العاملة المصرية، كما يساهم بحوالي 12% في الناتج المحلي الإجمالي، وبحوالي 20% في الصادرات السلعية. علاوة على ذلك، فإنه يرتبط بالعديد من القطاعات الأخرى مثل قطاع الأسمدة الكيماوية والغزل والنسيج والصناعات الغذائية. كما أصبحت الصادرات الزراعية المصرية من أهم مصادر النقد الأجنبي، لا سيما في الوقت الحرج الذي تمر به البلاد إزاء تأثير فيروس كورونا على مصادر الاحتياطي النقدي الأخرى.
وفي السياق ذاته، احتلت صادرات قطاع الحاصلات الزراعية المرتبة الرابعة بين جميع القطاعات الأخرى بقيمة 821 مليون دولار خلال الربع الأول من العام الجاري (انظر جدول رقم 1).

المصدر: وزارة التجارة والصناعة
كما يُمكن الاستدلال على أهمية القطاع الزراعي من خلال مؤشر القيمة المضافة للقطاع كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي والذي يعني صافي ناتج القطاع بعد جمع كافة المخرجات وطرح المدخلات الوسيطة، ويتم حسابه دون إجراء أي خصومات فيما يتعلق بإهلاك الأصول المصنعة أو بنضوب أو تدهور الموارد الطبيعية.

المصدر: البنك الدولي.
وكما هو واضح في الشكل السابق فإن القيمة المضافة للقطاع الزراعي تتناقص منذ عام 2000 وحتى عام 2018، وذلك بسبب حدوث تقدم في إنتاج بعض القطاعات الرئيسية الأخرى، إلا أنها لا تزال تحتل نسبة مرتفعة من الناتج المحلي الإجمالي تتراوح بين 11% إلى 15.5%.
ثانيًا: تداعيات كورونا على القطاع الزراعي والأمن الغذائي
تعمل جميع قطاعات وزارة الزراعة بكامل طاقتها على توفير الغذاء للمواطنين خلال الجائحة الراهنة التي يشهدها العالم بأكمله. وأكدت الإدارة المركزية للحجر الزراعي أن أزمة كورونا أثرت على صادرات الزراعة المصرية بنحو ضعيف نسبيًّا يتراوح بين 10% إلى 15%، ويتضح ذلك في ارتفاع صادرات مصر الزراعية لأكثر من 3 ملايين طن حتى الآن، وارتفاع صادرات الموالح بمقدار مليون و350 ألف طن وذلك بسبب مساهمة فيروس كورونا في فتح المجال أمام الصادرات المصرية للنفاذ لأسواق تصديرية جديدة، خاصة في ظل زيادة الطلب على المنتجات الزراعية والغذائية وقت الأزمات ووسط إغلاق بعض الدول لحدودها.
من ناحية أخرى، يُمكن أن يؤثر فيروس كورونا في الأمد الطويل سلبًا على تنمية القطاع الزراعي والصناعات المرتبطة بشكل مباشر بهذا القطاع مثل الغزل والنسيج، وذلك بسبب تداعيات الوباء على استيراد مستلزمات الإنتاج والمواد الخام وقطع الغيار والآلات الزراعية. أما فيما يتعلق بالأمن الغذائي، فمن المرجح أن يتأثر سلبًا بفعل اتخاذ عدد من الدول قرارًا بحظر تصدير المواد الغذائية والحاصلات الزراعية للبلدان الأخرى لضمان الحفاظ على مخزونها السلعي لتلبية الاحتياجات المحلية، بالإضافة إلى تأثره بنقص العمالة الناتجة عن تقييد الحركة ومنع التجمعات.
لهذا تستهدف الحكومة المصرية زيادة مخزوناتها الاستراتيجية من جميع السلع الغذائية الأساسية، كما تسعى لتعزيز مخزون القمح في الوقت الذي قد تتعرض إمداداته العالمية إلى الخطر بسبب الآثار التي سببها الفيروس، وهو ما يتضح في شراء مصر 1.6 مليون طن من القمح المحلي في الأسابيع الثلاثة الأولى من موسم الحصاد الذي بدأ في منتصف الشهر الماضي، وهو ما يمثل ضعف الكمية التي اشترتها خلال الفترة نفسها من العام الماضي. وتدرس وزارة التموين والتجارة الداخلية المصرية حاليًّا إمكانية تشييد مخازن استراتيجية عملاقة للسلع الأساسية مثل القمح في سبع محافظات بتكلفة قد تصل إلى 21 مليار جنيه مصري (1.3 مليار دولار) من أجل تعزيز المخزون المصري من السلع الأساسية لمدة تكفي ما يتراوح بين 8 إلى 9 شهور بدلًا من 4 إلى 6 شهور.
كما اتخذت الحكومة المصرية العديد من الإجراءات الهادفة لتعزيز دور القطاع الزراعي في ضوء الأزمة الراهنة حتى يستطيع تجاوز تداعياتها السلبية. من ذلك إطلاق مبادرات مثل تخصيص الأموال للمزارعين من أجل ضمان الإدارة السليمة للمحاصيل، وضمان إطلاع المزارعين على معايير سلامة الأغذية. علاوة على ذلك، تتعاون الحكومة باستمرار مع المؤسسات الدولية المتخصصة في الأمن الغذائي مثل الصندوق الدولي للتنمية الزراعية “ايفاد”، وبرنامج الأغذية العالمي، ومنظمة الأغذية والزراعة التابعين للأمم المتحدة بهدف التخفيف عن العاملين في مجال الزراعة، وضمان توفير الأمن الغذائي للمواطنين. وفي السياق ذاته، وافق البنك المركزي المصري في أواخر مارس الماضي على ضم القطاع الزراعي لمبادرة الـ100 مليار جنيه –المقدمة في الأساس لدعم القطاع الصناعي والمشروعات الصغيرة والمتوسطة- وذلك عقب مطالبة المستثمرين والمصدرين في القطاع بأهمية مساندتهم من قبل أجهزة الدولة الرسمية.
***
في ضوء ما سبق، نلاحظ أن استمرار فيروس كورونا لفترة أطول من المتوقع قد يهدد مفهوم الأمن الغذائي، وبناء على ذلك تم اتخاذ التدابير اللازمة لتلبية الاحتياجات الوطنية المصرية من الغذاء، ورفع سعة المخزون الاستراتيجي منه، خاصة المحاصيل الاستراتيجية لضمان استقرار أسعار السوق والأمن الغذائي المصري، وهو ما سيؤدي أخيرًا إلى تعزيز مفهوم الاكتفاء الذاتي الغذائي في ضوء تعطيل سلاسل الإمدادات العالمية.
ويبدو من المناسب إعادة النظر في التركيب المحصولي للدورة الزراعية القادمة لتأمين أكبر كم ممكن من احتياجات مصر من المحاصيل الاستراتيجية محليًّا تحسبًا لأي ارتفاعات مستقبلية في الأسعار، أو أي قيود تصديرية يفرضها منتجو المحاصيل الاستراتيجية، فضلًا عن أهمية دعم المزارع المصري من خلال زيادة قروض البنك الزراعي مع تأجيل سداد أقساط القروض المستحقة عليهم.