يُعد مصطلح “الشمول المالي” من أهم الركائز التي يقوم عليها النمو الاقتصادي على مستوى العالم. ويقصد بالشمول المالي سعي البنوك للوصول إلى الشرائح المجتمعية التي لا تمتلك تعاملات بنكية من أجل مساعدتهم على الاستفادة من الخدمات المالية المختلفة كالاقتراض والإيداع والادخار. ويسهم الشمول المالي في تخفيف حدة الفقر، بالإضافة إلى أبعاده الاجتماعية، بدءًا من الاهتمام بالأسر محدودة الدخل وتمكين المرأة اقتصاديًّا، وحتى تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر ودمجها بالقطاع المالي الرسمي، ما يؤدي إلى خلق فرص عمل جديدة، وبالتالي خفض معدلات البطالة والفقر وتحسين توزيع الدخل ورفع مستوى المعيشة، الأمر الذي يحقق النمو الاقتصادي والاجتماعي المستدامَيْن.
ومنذ عام 2010، تعهدت أكثر من 55 دولة بتحقيق الشمول المالي، وقامت أكثر من 30 دولة بإطلاق وإعداد استراتيجيات ومبادرات وطنية لتحقيق هذا المفهوم بجوانبه الواسعة، وذلك انطلاقًا من أهميته في تعزيز الإصلاح الاقتصادي ودعم الأنشطة الاقتصادية مع تشجيع جميع الأفراد من كافة المستويات المعيشية على الانخراط في النظام المالي. ولا تقتصر أهمية الشمول المالي على ذلك فقط، بل إنه يُمكن أن يساعد في تعزيز إجراءات مواجهة فيروس كورونا الذي جاء ليفرض ضغوطًا جديدة على النظام المصرفي في ظل زيادة الحاجة إلى التحول الرقمي وتطوير الخدمات المالية الرقمية وتطبيقات المدفوعات الإلكترونية أكثر من أي وقت مضى. ومع البحث وجدنا أن هناك علاقة تبادلية بين تعزيز الشمول المالي وسبل مكافحة تداعيات كورونا.
هذا المقال يحاول إلقاء الضوء على طبيعة العلاقة بين الشمول المالي ومواجهة أزمة كورونا، مع تحديد حالة الشمول المالي في مصر والعالم.
أولًا- تطور الشمول المالي حول العالم
كشف تقرير صادر عن البنك الدولي في عام 2017 عن قاعدة بيانات المؤشر العالمي للشمول المالي، الذي يغطي أكثر من 140 دولة حول العالم، أن هناك 515 مليون بالغ قاموا بفتح حسابات إما لدى البنوك أو من خلال شركات تقديم الخدمات المالية عبر الهاتف المحمول في الفترة (2014-2017)، ما يعني أن 69% من البالغين -أي 3.8 مليارات شخص- يمتلكون حسابات مصرفية، مقارنة بحوالي 62% في عام 2014، وحوالي 51% في عام 2011.
وعلى الرغم من تسارع وتيرة تحقيق الشمول المالي عالميًا، إلا أن هناك تفاوتًا بين الدول النامية والمتقدمة في هذا الشأن، حيث يمتلك 94% من البالغين في الدول مرتفعة الدخل حسابات مصرفية، مقابل 63% فقط في البلدان الفقيرة، ولهذا فإن غالبية الأفراد الذين لا يمتلكون حسابات مصرفية -والبالغ عددهم 1.7 مليار شخص حتى عام 2017- يعيشون في الدول النامية. ويرجع ذلك التفاوت إلى أسباب عديدة، منها أن بعض الأفراد لا يمتلكون أموالًا كافية تستدعي فتح حسابات مصرفية، والبعض الآخر يجد أن تكلفة فتح الحساب مرتفعة، خاصة في حالة وجود مسافة كبيرة بين محل السكن وأقرب فرع مؤسسة مالية، بالإضافة إلى عدم توفر المستندات المطلوبة لدى آخرين، أو انعدام الثقة في النظام المالي والمصرفي.
لكن لا يقتصر مفهوم الشمول المالي على فتح حساب مصرفي فحسب، بل يمتد إلى كيفية استفادة الفرد من هذا الحساب على أكمل وجه، وذلك عن طريق ربط الحساب باستخدام الهواتف الذكية والإنترنت لإجراء المعاملات المالية. فقد ارتفعت نسبة مالكي الحسابات الذين يقومون بإرسال أو تلقي المدفوعات رقميًّا خلال الفترة (2014-2017) من 67% إلى 76% عالميًا. وعلى الرغم من هذا التحسن، إلا أن هناك حوالي مليار فرد بالغ حول العالم من مالكي الحسابات يدفعون فواتير المرافق نقدًا، كما يعمل حوالي 300 مليون بالغ من مالكي الحسابات في القطاع الخاص ولا يزالون يتقاضون أجورهم نقدًا، وهو ما يستدعي الحاجة إلى تطوير التكنولوجيا الرقمية والاستفادة من المعاملات النقدية الحالية لإدخال أكبر عدد ممكن من المواطنين في النظام المصرفي وتعزيز الشمول المالي بدوره.
ثانيًا- أين تقع مصر في خريطة تطوير الشمول المالي؟
تتعامل الحكومة المصرية مع الشمول المالي كأولولية منذ إطلاق استراتيجية التنمية المستدامة 2030 التي ركزت على تعزيز هذا المفهوم. كما دشن البنك المركزي المصري الإدارة المركزية للشمول المالي في نوفمبر 2016 لتعزيز التنسيق والتعاون مع الأطراف المعنية في هذا الشأن. ومنذ ذاك التاريخ وحتى وقتنا هذا، أطلق المصرف المركزي والحكومة المصرية عدة مبادرات، واتخذ عددًا من القرارات التي ارتكزت على دمج الأفراد في القطاع المالي مع تقديم عدد من التسهيلات الائتمانية للمشروعات الصغيرة والمتوسطة من أجل إدخال القطاع غير الرسمي تحت مظلة نظيره الرسمي، وفيما يلي أبرز هذه المبادرات:
1- إلزام البنوك بتأسيس إدارة للشمول المالي: اتخذ البنك المركزي هذا القرار في مارس 2020 من أجل إزالة العوائق الأساسية التي تحول دون وصول الخدمات والمنتجات المصرفية لكافة فئات المجتمع، خاصة الفئات المستبعدة ماليًّا. كما طالب البنك البنوك التجارية بإعداد استراتيجية متوسطة الأجل لتحقيق الشمول المالي، ووضع خطة عمل سنوية تتضمن التوسع الجغرافي، والتواجد في القرى والمناطق النائية، وتطوير المنتجات القائمة، والعمل على تلبية احتياجات فئات العملاء المستبعدة ماليًّا خاصة المرأة والشباب، فضلًا عن التوسع في تقديم الخدمات المالية الإلكترونية.
2- إعداد الاستراتيجية الوطنية للتكنولوجيا المالية: انتهى البنك المركزي من إعداد هذه الاستراتيجية في 2019 التي تُعَدُّ حلقة الوصل بين رؤية البنك المركزي ورؤية مصر 2030، خاصةً أن الاعتماد على تطبيقات التكنولوجيا المالية يحقق العديد من المنافع الاقتصادية، وتوفر تلك التطبيقات خدمات مالية تلبي احتياجات العملاء بأسعار تنافسية، كما تسهم في خفض تكاليف المؤسسات المالية، وتعظيم عوائدها.
وتتناول الاستراتيجية عددًا من المحاور الأساسية؛ أهمها: تلبية جانب الطلب على خدمات التكنولوجيا المالية، وتنمية واستغلال المواهب والقدرات الابتكارية، فضلًا عن استهداف زيادة تمويل مشروعات التكنولوجيا المالية، وتعزيز القواعد الرقابية والتنظيمية المشجعة لصناعة التكنولوجيا المالية، بالإضافة إلى تطبيق قواعد الحوكمة الداعمة لصناعة التكنولوجيا المالية.
3- إطلاق بطاقة “ميزة”: تم التشغيل التجريبي لمنظومة بطاقة الدفع ذات العلامة التجارية الوطنية “ميزة” بنهاية ديسمبر 2018. ويتشابه كارت “ميزة” مع البطاقات البنكية الأخرى، حيث تُمكِّن حاملها من إجراء المعاملات الإلكترونية، وسداد مقابل الخدمات الحكومية، والرسوم، وصرف أنواع الدعم المختلفة. وتساهم هذه البطاقة في تحقيق الشمول المالي، خاصة مع انخفاض تكاليف إصدارها.
4- مبادرة “حساب لكل مواطن”: أطلق البنك المركزي في مايو 2017 هذه المبادرة التي تتضمن قيام البنوك بفتح الحسابات بدون مصاريف خلال أسبوع “اليوم العربي للشمول المالي” لتشجيع المواطنين على فتح حسابات بنكية، مع زيادة توعية الأفراد في الأقاليم والمناطق النائية بأهمية المشاركة في المبادرة.
5- مبادرة تمويل المشروعات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة: ألزم البنك المركزي المصري البنوك بتخصيص نسبة 20% من محافظها الائتمانية لتمويل الشركات الصغيرة والمتوسطة على مدار 4 سنوات ابتداء من 2016. وقد بلغت الزيادة في محفظة القروض والتسهيلات لهذه المنشآت خلال الفترة من ديسمبر 2015 حتى سبتمبر 2018 حوالي 115.2 مليار جنيه، واستفاد منها عدد 491 ألف عميل.
ورغم هذه الجهود، كشفت إحصائيات البنك الدولي أن 33% فقط من المصريين الذين تتجاوز أعمارهم 15 عامًا يمتلكون حسابات مالية بالبنوك أو البريد، في حين وصل عدد البطاقات المصرفية ومحافظ الهاتف المحمول إلى 35 مليون بطاقة، و14.5 مليون محفظة على الترتيب. ويوضح الجدول التالي توزيع الحسابات المصرفية في مصر حتى 2018 على فئات مختلفة.

وترجع نسبة انخفاض مالكي الحسابات المصرفية في مصر رغم الجهود المبذولة من قبل السلطات التنظيمية إلى عدم قدرة النظام المصرفي حتى الآن على الوصول إلى العاملين بالاقتصاد غير الرسمي، مع افتقار المواطنين للمعرفة المالية اللازمة لفتح حسابات بنكية وكيفية الاستفادة من الخدمات المتاحة، وهو ما يتطلب جهدًا إضافيًا من المؤسسات المالية لتوفير التثقيف المالي المناسب للفئات المختلفة. هذا إلى جانب عدم ثقة الأفراد في قنوات الدفع الإلكتروني، ولهذا تفضل نسبة كبيرة من مستخدمي منصات التجارة الإلكترونية اللجوء للدفع النقدي.
ثالثًا- تعزيز الشمول المالي في مواجهة كورونا
يرتبط الشمول المالي بإجراءات مواجهة فيروس كورونا بعلاقة تبادلية، ذلك أن تعزيز الشمول المالي يُمكن أن يساعد في تخفيف حدة تداعيات الوباء. كما أن قرارات مكافحة كورونا يعزز الشمول المالي والتحول الرقمي في مصر والعالم، حيث تتمثل أهم إجراءات الحد من انتشار الفيروس في فرض حظر التجوال ومنع المخالطة الاجتماعية، وهو ما قد يؤدي إلى اتجاه الأفراد لاستخدام المحافظ الإلكترونية وتطبيقات الهواتف الذكية من أجل إجراءات المعاملات اليومية دون الحاجة للذهاب إلى فرع البنك. وهكذا، برزت خلال أزمة كورونا أهمية الشمول المالي للأفراد والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة إلى جانب ضرورة استخدام مزايا التكنولوجيا الرقمية في القطاع المالي من أجل قضاء المواطنين حاجاتهم المالية والمصرفية عن بعد. ولذلك، من المرجح أن تعزز القيود على حركة الأفراد من التكنولوجيا الرقمية كإحدى دعائم الشمول المالي.
من ناحية أخرى، من المتوقع أن يساعد تعزيز الشمول المالي في مواجهة تداعيات كورونا عن طريق تسهيل وصول حزم المساعدات المالية الحكومية إلى الأفراد والشركات المتضررة من الفيروس. كما يُمكن تطبيق سياسات تحويل الأموال مباشرة إلى الأسر بسهولة إذا كانت الدولة تتمتع بدرجة كبيرة من دمج الأفراد في النظام المصرفي.