الذهاب إلى مجلس الامن عملا بالمادتين 34 و35 من الفصل السادس، لوضعه امام مسئولياته في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين والضغط على اثيوبيا للالتزام بقواعد القانون الدولي بشأن الأنهار العابرة للحدود وعدم ملء بحيرة سد النهضة قبل التوصل الى اتفاق ثلاثي يحفظ حقوق دولتي المصب، هو خطوة دبلوماسية أخرى تثبت أن مصر سوف تسير الى نهاية الطريق للوصول إلى اتفاق ملزم، وكما هو معروف فلكل طريق نهاية، وبعدها تبدأ طرق أخرى يمكن استخدامها حفاظا على حقوق الشعب ومصالح البلاد التي لا يمكن التفريط فيها مهما كانت الأعباء والأثمان.
المصريون جميعا ومنذ مطلع التاريخ يؤمنون بأن حياتهم مرهونة بمياه نهر النيل، والحفاظ على جريانه مسألة حياة أو موت. وفى البرديات الفرعونية كثير من النصائح والمقولات من ملوك الأسر المختلفة إن حدث ما يعوق تدفق النهر، فليذهب المصري إلى حيث العقبة ويزيلها دون هواده. وهي قناعة ما زالت راسخة في الوجدان العام، وستظل راسخة إلى أن تقوم الساعة.
الحرص المصري على الذهاب الى مجلس الأمن الدولي خطوة محسوبة بجوانبها المختلفة، نجاحا أو غير ذلك. ندرك أن أية قرارات تصدر من المجلس تتطلب توافق الدول الخمس الكبرى. وندرك أن لبعض منها مصالح كبرى في إثيوبيا، ومنها من لا يكترث بالقضية أصلا، ومنها من سار بضع خطوات لحث الأطراف الثلاثة على التوصل إلى اتفاق ثلاثي ملزم له طابع دولى، ولكنه توقف عن التقدم خطوة أخرى للحفاظ على ما قام به من جهد بعد الانسحاب الإثيوبي في لحظة حاسمة. فكل الاحتمالات واردة، ولذا فهي خطوة مهمة ولكنها ليست نهاية المطاف. المهم أن يعرف العالم كله حجم المشكلة التي تتسبب فيها إثيوبيا، وحجم الضرر الذي سيتعرض له المصريون وحجم الانتهاكات القانونية والأخلاقية المصحوبة بالموقف الإثيوبي المًصر على التصرف المنفرد في مياه النهر وما يسببه ذلك من زرع بذور الفوضى في الإقليم ككل. والمهم أيضا أن يعرف العالم كله حرص مصر على التسويات السياسية التفاوضية التي تراعى المصالح المشتركة والالتزامات المتبادلة والمكاسب المشتركة دون افتئات من طرف على آخر. وأن يعرف العالم أيضا أن مسائل الموت والحياة ليست محل تنازلات أو قبول بالأمر الواقع، وبالتالي فمن حق الطرف المتضرر أن يحمى حقوقه بكل ما يمكنه من وسائل، وكما يحددها ميثاق الأمم المتحدة كقضية دفاع عن النفس بل عن الوجود ذاته ضد تغول طرف ما يتصور نفسه أنه قادر على إلحاق الخراب بالآخرين دون رد فعل مناسب.
لقد بدأت اثيوبيا حرب العطش والجوع على المصريين جميعا ومن حقهم أن يردوا تلك الحرب بما يليق، وفى الوقت المناسب. حين سعت مصر إلى التوفيق بين حاجة إثيوبيا إلى الكهرباء حسب مقولاتها التي تروج بها بناء السد أمام العالم كعامل أساسي للتنمية، ربطت الأمر بعدم إلحاق ضرر بمصر كدولة مصب، وأن يتم بناء السد وفق قواعد القانون الدولى عبر وثيقة ملزمة يشهد عليها العالم كله، تتضمن تفاصيل فنية وأخرى قانونية. وقد جاء اتفاق المبادئ الثلاثي 2015 ليعكس هذه الصيغة التوافقية من حيث المبدأ والمضمون، على أن الموقف الإثيوبي الذي تم الصبر عليه طوال السنوات الخمس الماضية، أثبت أنه لا يقيم وزنا لهذه المعادلة التوافقية التي تحقق المكاسب المشتركة للجميع وتوفر فرصة لمزيد من علاقات التعاون الشامل بين مصر والسودان واثيوبيا. والمنطق يقول أن رفض أديس أبابا توقيع هذا الاتفاق الُملزم يعنى أنها ضربت بعرض الحائط تلك المعادلة التوافقية، وعليها أن تتحمل مسئوليتها كاملة.
يقول قانونيون في مصر والسودان أن من بدائل الرد على هذا الموقف الإثيوبي أن تنسحب الدولتان من اتفاق المبادئ للعام 2015، وبذلك تنزع المشروعية عن بناء السد أصلا، ويصبح كل تصرف إثيوبي لا سيما ملء البحيرة منفردا وبدون اتفاق مع مصر والسودان تصرفا لا أساس قانوني له، ويكون من حق الطرف المتضرر أن يلجأ إلى كل الوسائل لحماية مصالحه. وهو بديل قائم وله حساباته القانونية والعملية المدروسة بدقة من حيث التطبيق والتوقيت.
ستظل مصر حريصة على علاقاتها مع الشعب الإثيوبي وتضع في اعتبارها انه واقع تحت ضغط آلة إعلامية رسمية تغطى الفشل الحكومي في حسن استغلال الموارد المائية الهائلة والتي تصل سنويا الى أكثر من ألف ومائتين مليار متر مكعب، تتوافر لإثيوبيا من مصادر متعددة، وتستخدم بناء السد كآلية للحشد الوطني ضد عدو مفترض، وهو مصر، بهدف تجاوز الخلافات الهائلة بين القوميات وتعزيز شرعية الحكم. ومصر تدرك جيدا حجم الحملة السياسة التي تديرها اثيوبيا في العديد من البلدان الإفريقية ضدها بناء على أكاذيب وافتراءات لا حصر لها، ومستغلة في ذلك كونها مقر منظمة الوحدة الإفريقية لبث كل الدعايات السوداء ضد الموقف المصري. ومع ذلك ستظل مصر حريصة على علاقاتها مع كافة الدول الافريقية حتى تلك التي تميل أو تؤيد إثيوبيا لاعتبارات غير موضوعية. إنه حرص تاريخي لا جدال حوله، كما لا جدال حول حق مصر في الحفاظ على حياة شعبها ومنع تعطيشه ودفع الخراب عنه بكل السبل.
وعلى الأفارقة الذين ينظرون نظرة أحادية أو عرقية أو لأي سبب أخر، أن يدركوا أن مواقفهم غير الموضوعية تدفع إثيوبيا للمضي في تعنتها إلى درجة الخطر الإقليمي الجسيم، وأنهم بذلك يزيدون الأمر خطورة ويزرعون بذور الفوضى، وعليهم مراجعة مواقفهم وتبنى لغة العقل والحكمة والتعاون السلمى، وليس الاستعلاء أو الانفراد بقرارات ومواقف تضر ولا تفيد، مواقف تدفع إلى مهالك محققة ولا تبنى دولا ولا نهضة ولا تنمية. هذه الحكمة الإفريقية المطلوبة عليها أن تتأمل جيدا المذكرة التي تقدمت بها القاهرة إلى الأمم المتحدة، ومدى حرصها على التعاون والتفاوض بحسن نية وما لقيته من أديس أبابا من خبث وتعنت، وأخيرا التمعن في الفقرة الأخيرة التي تربط بين مياه نهر النيل كقضية وجودية لمصر والمصريين، وبين مسئوليات مجلس الأمن في تجنب أي شكل من أسباب التوتر وتهديد الامن الدولي. نأمل أن يعي حكماء إفريقيا كيف يمكن تجنب الخطر؟
نقلا عن جريدة الأهرام، 22 يونيو 2020