يشهد الاقتصاد العالمي واحدة من أسوأ أزماته على الإطلاق، حتى إن بعض المؤشرات باتت تعكس ترديًا أكبر من ذلك الذي حدث جراء الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي. كما بلغ ضغط الأزمة أقصاه على الاقتصادات النامية، لذلك تتحوط هذه المجموعة من الاقتصادات، وتتخذ أقصى إجراءات السلامة الاقتصادية، وهو عكس النهج التُركي الذي يتخذ إجراءات مالية واقتصادية مُتخبطة في الداخل، وينخرط في مُغامرات عسكرية في الخارج، الأمر الذي عمق مُعاناة الاقتصاد الكُلي الذي كان يمر في الأساس بوضع أزمة خلال العامين 2018/2019، حيث كان الناتج المحلي الإجمالي قد شهد انكماشًا لثلاثة أرباع مُتوالية مُنذ الرُبع الثالث لعام 2018 بمستوى -2.8%، بعدما شهده من انحدارٍ حادٍ لمستويات النمو من 7.4% في الرُبع الأول من ذات العام، وهو ما أدى في المُحصلة إلى ارتفاع مُعدلات البطالة في الرُبع الأول من العام إلى مستويات 13.5%، مُتأثرة بانخفاض نشاط الأعمال، وما يُصاحبها من انخفاض في القوة الشرائية، وهو ما ينعكس بدوره على مُعدلات النمو من جديد.
لقد دفع انخفاض النشاط الاقتصادي وارتفاع مُعدلات البطالة البنك المركزي التُركي إلى إجراء تخفيض متوالٍ في أسعار الفائدة، بغرض تحفيز النشاط الاقتصادي عبر حث المُستثمرين على الاقتراض وضخ سيولة في السوق، حتى بلغت مرات التخفيض عدديًّا 9 مرات مُنذ النصف الثاني من عام 2019، لينخفض مستوى الفائدة من 19.75% في يوليو 2019 إلى مستوى 8.25% في يونيو 2020، أي خفض بأكثر من 1100 نقطة أساس خلال أقل من عام ونصف. صاحب ذلك ارتفاع مُستمر في مُعدلات التضخم بداية من أكتوبر 2019 بعدما كانت قد استقرت عند مستوى 8.5%، لتبلغ بحلول يونيو 2020 مستوى 12.6%، ويعني ذلك تحول مُعدل الفائدة الحقيقي (حاصل طرح مُعدل الفائدة من مُعدل التضخم) إلى السالب، الأمر الذي يُفضي لخسائر بالنسبة للمُستثمرين الأجانب في أدوات الدين الحكومي (انظر الشكل التالي).
ويوضح الشكل تحول مُعدلات الفائدة الحقيقي إلى السالب بمقدار الفرق بين مُعدلات الفائدة ومُعدلات التضخم والمُظللة على الشكل البياني، وذلك بداية من شهر يناير 2020 عندما ارتفعت مُعدلات التضخم إلى مستوى 12.15%، وانخفضت مستويات الفائدة إلى 11.25%. وقد أدى ذلك إلى انسحاب حوالي 88 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية مُنذ فبراير 2019، سواء في شكل استثمارات الحافظة أو استثمارات أجنبية مُباشرة لعدم تحملها هذه الخسائر، بالإضافة إلى عدم اليقين الذي يلف السياسة المالية، وكذلك المُعضلات الهيكلية التي يُعانيها الاقتصاد التُركي التي تم تناولها في مقال سابق، وأخيرًا هروب هذه الاستثمارات إلى الملاذات الآمنة مثل الدولار والذهب وغيرها بسبب جائحة كورونا. ويوضح الشكل التالي مقدار صافي الاستثمارات من النوعين السابقين خلال الفترة من فبراير 2019 وحتى فبراير 2020.
وقد شكّل انسحاب هذه الكميات الضخمة من النقد الأجنبي ضغطًا هائلًا على الاحتياطي النقدي للبنك المركزي في ظل تدني مصادر تدفقات النقد الأجنبي للداخل التُركي، سواء من السلع بسبب ارتفاع الواردات في مُقابل الصادرات، أو حتى من الخدمات بسبب انخفاض السياحة والنقل الجوي والصيانة وغيرها المُغلقة بسبب الجائحة، مما أسفر في النهاية عن انخفاض سريع في حجم الاحتياطي النقدي من العُملات الأجنبية إلى مستوى 51.3 مليار دولار ومستوى 90.5 مليار، إذا تضمن ذلك التقدير احتياطيات الذهب بحلول الأول من يوليو 2020، وذلك من مستوى 107.8 مليارات دولار في نهاية فبراير من العام ذاته. وقد راكم ذلك تأثير حاد على الليرة التُركية بسبب ارتفاع الطلب على الدولار من الاستثمارات المُنسحبة والتخلي عنها في السوق المحلية، حيث سجل تعامل المُستثمرين الأجانب عليها أدنى مستوياته على الإطلاق في الثامن من يونيو 2020 وذلك بمستوى 23.5% فقط بعدما كان قد بلغ أعلى مستوياته على الإطلاق في 21 فبراير 2018 عند مستوى 64.2%.
أضف إلى ذلك عدم قُدرة البنك المركزي على تعويض هذه الضغوط من رصيده من العُملات الأجنبية، بل ولجوؤه إلى إجراءات قانونية للحد من هبوطها مثل اعتبار بعض عمليات تجارة العُملة ومبادلتها جرائم تلاعب بالعملة، واتهامه من جانب آخر مؤسسات مالية في لندن بمُحاولة التلاعب بالعملة التُركية. تلا ذلك قيامه بمنع المُتعاملين المحليين من تبادل العُملات مع بنوك CITI، USB، BNP. وكذلك لجوؤه من جانب آخر إلى طلب تبادل الليرة مع بعض دول مجموعة العشرين، ومطالبة الولايات المُتحدة -من ناحية أخرى- بتوفير خط ائتمان من الفيدرالي الأمريكي إلى المركزي التُركي. لكن هذه المساعي لم يُثمر أي منها حتى وقت كتابة هذا المقال، ولا يتوقع لها في الغالب أن تنجح بسبب تدهور العلاقات الخارجية للرئيس التُركي مع الأوربيين والأمريكيين والمصاعب التي تمُر بها هذه الدول بسبب جائحة (كوفيد-19).
هذه الإجراءات غير النقدية أفقدت عددًا كبيرًا من المُستثمرين القدر الباقي من ثقتهم في الليرة، وهو ما أسفر عن مزيدٍ من التخلي عنها في مُقابل الدولار لتنخفض إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق في السابع من مايو الجاري لتصل إلى 7.26 لكل دولار مُتجاوزة بذلك أدنى مُستوى لها في ظل أزمتها الحادة خلال عام 2018. ويوضح الشكل التالي أداء الليرة التُركية والمقارنة بين سعر صرفها خلال الأزمتين.
ويتضح من الشكل أن الأزمة الحالية أعمق في تأثيرها على الليرة من الأزمة السابقة، وذلك لاختلاف طبيعة الأزمتين في الأساس، حيث كانت الأزمة الأولى أزمة مالية، ناتجة عن اختلالات هيكلية في ميزان المدفوعات التُركي لفترات طويلة، مُضافًا إليها مُراكمة القطاع الخاص التُركي كميات ضخمة من الدين، لكن الأزمة الحالية هي أزمة اقتصاد حقيقي ضربت أسس الاقتصاد التُركي، وكُلما طالت زاد هذا التأثير.
ولم يجد القائمون على الاقتصاد التُركي من مُجيب لطلباتهم المُتكررة للمُساعدة من جانب دول مجموعة العشرين، لذلك لجئوا مُجددًا إلى قطر التي كانت قد تدخلت خلال أزمة 2018 بتقديم عون يصل إلى 15 مليار دولار، 10 مليارات منها كاستثمارات مُباشرة، والباقي على هيئة خط ائتمان من البنك المركزي القطري إلى نظيره التُركي، وهو ذات الخط الذي تضاعف ليبلغ 15 مليار دولار في ظل الأزمة الحالية، الأمر الذي خفض الضغوط على الليرة بداية من 20 مايو لينخفض سعر صرف الدولار أمامها إلى أدنى مستوياته في شهرين تقريبًا عند مستوى 6.77 ليرات للدولار الواحد في 12 من يونيو، لكنه ما لبث أن عاود الارتفاع مُجددًا تحت نفس الضغوط السابقة، ويُرشح له أن يستمر في الارتفاع.
في هذا الصدد، تجب الإشارة إلى أن انخفاض سعر صرف الليرة التُركية له تأثير مُتباين على الاقتصاد المصري، فمن ناحية يستفيد الاقتصاد المصري كون الليرة التُركية مُنافسًا قويًّا للجنيه المصري على جذب الاستثمارات في أدوات الدين المصري، وهو ما يعني أن جزءًا بالتأكيد من تلك الأموال التي خرجت من الاقتصاد التُركي ستدخل الاقتصاد المصري إن لم يكن في الوقت الحالي بسبب عدم اليقين المُصاحب لفيروس (كوفيد-19) ففي المُستقبل المُنظور عقب انتهاء الأزمة وارتفاع مستوى اليقين. وعلى الجانب الآخر، قد تتضرر الصناعة المصرية بشدة جراء هذا الانخفاض بسبب انخفاض أسعار المُنتجات التُركية عند دخولها الأسواق المصرية، خاصة في مجال صناعة المنسوجات والمُنتجات الغذائية والسيارات. ويجعل هذا التأثير أكثر ضراوة أن مصر ترتبط مع تُركيا باتفاقية تبادل تجاري حر تُزيل الجمارك على المُنتجات في كلا الاتجاهين، وإذا كان من وقت ينبغي مُراجعة هذه الاتفاقية فليس أفضل من الآن، وذلك في ظل استهداف تُركيا للأمن القومي المصري، سواء على الحدود الشرقية أو الغربية.
خلاصة القول إذن، إن الاقتصاد التُركي يُعاني في الوقت الراهن جراء جائحة (كوفيد-19) من تراجع مؤشراته الكُلية نتيجة للإغلاق الواسع للنشاط الاقتصادي، وهو ما ترتب عليه انخفاض مُعدلات النمو وارتفاع مُعدلات البطالة، ما دفع البنك المركزي التُركي إلى خفض مُعدلات الفائدة بمقدار 1100 نقطة أساس في أقل من عام ونصف، وهو ما ترتب عليه انسحاب كميات كبيرة من الاستثمارات الأجنبية بلغت نحو 88 مليار دولار خلال عام، الأمر الذي سبب ضغطًا هائلًا على الاحتياطي النقدي للبنك من العُملات الأجنبية، بسبب التخلي عن الليرة مُقابل الدولار، لتنتج كل العوامل السابقة في النهاية انخفاض الليرة لأدنى مستوى لها على الإطلاق أمام الدولار. ومن المتوقع أن تزداد التأثيرات ذاتها كُلما استمرت الأزمة.