قبل أسبوع، حذر الرئيس التونسي من خطورة محاولة الزج بالجيش في صراعات سياسية داخلية على خلفية الاحتجاجات التي تشهدها ولاية تطاوين جنوبي البلاد. ونبه من خطورة ما يجري “بخصوص سعي البعض إلى تفجير الدولة من الداخل، عبر ضرب مؤسساتها ومحاولات تغييب سلطتها بعدد من المناطق”.
تصريحات قيس سعيد تأتي بعد أسابيع من الاحتجاجات القطاعية والجهوية التي تعيشها عدة مناطق في تونس، منها احتجاجات المكناسي، وإضراب النفيضة وحاجب العيون، وصولا إلى الاحتقان الشعبي المتصاعد في مدينتا تطاوين ورمادة. وعلى الرغم من أن الرئيس التونسي لم يكشف عن الجهات التي يقصد بأنها تحاول زج الجيش في أتون الصراعات، إلا أن البعض اعتبر أن المقصود هي المجموعات الإرهابية الموجودة على الحدود الليبية التونسية التي تسعى إلى تهديد الأمن القومي التونسي. فيما أشار البعض الآخر بأصابع الاتهام مباشرة لحركة النهضة، التي تم تغييب رئيسها، باعتباره رئيسا للبرلمان، عن الاجتماع الذي جمع الرئيس التونسي بالقيادة العسكرية والأمنية للبلاد.
النهضة تتحمل بشكل كبير ما آلت إليه الأوضاع في البلاد. قبل ثلاث سنوات وقعت، حين كانت أغلبية في حكومة يوسف الشاهد، اتفاق الكامور مع المحتجين ووعدت سكان المحافظة بالالتزام بنص الاتفاق، إلا أنها أخلت بوعودها بعد ذلك. ومع اقتراب الحملة الانتخابية التشريعية والرئاسية في 2019، عادت لتدوير الاتفاق وجددت وعودها السابقة، لكنها لم تلتزم به، مرة أخرى، مما أجج الأوضاع أكثر ودفع الأهالي إلى التصعيد من أجل الضغط على الحكومة الحالية للاستجابة إلى مطالبهم، ومنها تفعيل الاتفاقيات السابقة، التي تتضمن مشاريع تنموية وقرارات بتشغيل آلاف الشباب.
بالإضافة إلى الوضع الاجتماعي المحتقن، يشهد الوضع السياسي أزمة حادة بعد الاتهامات بتضارب المصالح التي طالت رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ والمطالبة باستقالته، وخلافات عدد من الأحزاب مع قيس سعيد، وتوتر العلاقات بين رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان نتيجة غياب صيغة لتحديد الصلاحيات بينهما. من ناحية، راشد الغنوشي لن يكتفي بدور تقليدي كرئيس مجلس نواب، خاصة أنه على مدار السنوات الماضية تعود على شكل معين من الممارسة السياسية في ظل التوافق الذي كان بينه وبين الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، وهذا التوافق غائب مع الرئيس الحالي. ومن ناحية أخرى، لم ينجح بعد قيس سعيد في وضع بصمته في المجال الدستوري والسياسة الخارجية، مما ترك الفرصة لغيرة للعب هذا الدور الدبلوماسي.
أيضا، يعاني المشهد السياسي التونسي من عدم التوافق داخل أحزاب الأغلبية، وتصاعد الصراعات بين الكتل داخل البرلمان، الشيء الذي حوله إلى حلبة صراع وتبادل الاتهامات وتسجيل المواقف وافشال اللوائح المتبادلة. ولعل التصويت الأخير لنواب “التيار الديمقراطي” و”تحيا تونس” في مكتب البرلمان، على تمرير لائحة للجلسة العامة قدمها “الدستوري الحر” تصنف الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية، هو في نظر حركة النهضة طعنة من حلفائها في الحكومة.
إثر هذه الطعنة، صعّدت حركة النهضة من لهجتها وأعلنت، الأسبوع الماضي، في بيان صادر عن مكتبها التنفيذي عن إعادة تقدير موقفها من الحكومة والائتلاف المكون لها. وأدانت محاولة شركائها في الحكومة استهدافها المتكرر والاصطفاف مع ما اعتبرته قوى “التطرف السياسي”. وقد حاول مجلس شورى النهضة فعليا سحب البساط من تحت حكومة الفخفاخ، الإثنين الماضي، عندما كلف الغنوشي بإجراء مفاوضات مع رئيس الجمهورية والقوى السياسية والاجتماعية لبدء مشاورات تشكيل حكومي جديد، الشيء الذي رفضه رئيس الدولة ما دام رئيس الوزراء الحالي لم يقدم استقالته أو لم توجه له لائحة اتهام (إلى حدود كتابة هذا المقال).
في المقابل، بدأت أربع كتل برلمانية تمثل أحزاب تحيا تونس والتيار الديمقراطي وحركة الشعب وهي أحزاب مشاركة في الائتلاف الحاكم إضافة إلى كتل الاصلاح الوطني، الإثنين الماضي، إجراءات لسحب الثقة من رئيس البرلمان بسبب ما وصفته بأنه إدارة سيئة للمؤسسة البرلمانية وخروقات وتجاوز للصلاحيات وأيضا العلاقة المشبوهة بين رئيس النهضة وتركيا. وقد زادت الزيارة السرية التي قام بها الغنوشي، في يناير الماضي، إلى تركيا من الانتقادات الداخلية لتوجهات حزبه. واعتبرها سياسيون أنها تؤكد مدى انخراط الغنوشي وحركته في محاور خارجية تخدم اجندتهم الأيديولوجية على حساب مصلحة الوطن العليا، وأنها تمثل خرقا لقواعد الدستور، واستهانة بمؤسسة الرئاسة.
الوضع الاجتماعي والسياسي في تونس في غاية التعقيد. لا شك ان حركة النهضة تتصرف ببرغماتية وحرص شديد على السلطة، وإذا ما نجحت الكتل البرلمانية في جمع 73 توقيعا على الأقل من أجل إجازة التصويت في جلسة عامة، وينص النظام الداخلي للبرلمان الحصول على تصويت أغلبية مطلقة تبلغ 109 نائبا لسحب الثقة من رئيس البرلمان.
أمام هذا الاحتمال، وبالنظر لعدم التوصل بعد إلى صيغة لتشكيل حكومة جديدة، ستكون إعادة الانتخابات التشريعية أحد الحلول لإنتاج مشهد جديد، ربما أكثر انسجاما وأقل تجاذبات من المشهد الحالي. لكن تكلفة ذلك ستكون عالية على المستوى الاقتصادي والأمني، خاصة في ظل تواجد الإرهابيين والمقاتلين السوريين الذين نقلتهم تركيا إلى ليبيا، والذين سيتم استخدامهم كورقة ضغط لخلق الفوضى وتخويف الشارع التونسي من مصير مماثل.
______________________________________
نقلا عن جريدة الأهرام، الخميس 16 يوليو 2020.