هروب أحد عناصر حماس المنتمين الى قوة بحرية مقاتلة تابعة للحركة منذ عشرة أيام إلى إسرائيل قبل اعتقاله بوقت قصير أعاد تسليط الضوء على مستوى الأمن في حركة حماس ومدى الاختراق الذي تتعرض له من خلال جواسيس تم زرعهم في مفاصلها ومؤسساتها المختلفة. وقبل يومين تم اعتقال مسئول آخر له صلة مباشرة بشبكة الاتصالات السرية المؤمنة شكلا والتابعة للحركة بتهمة التجسس على كتائب القسام الجناح العسكري للحركة لصالح اسرائيل منذ العام 2009. وخطورة موقع الرجل المعتقل أنه دائم الاطلاع على كافة المعلومات السرية الخاصة بالحركة، وقادتها السياسيين والعسكريين، ما يشكل اختراقا أمنيا كبيرا.
الأمر ذاته يمكن قوله بالنسبة لمستوى الأمن في إيران على ضوء التفجيرات الكبرى التي حدثت خلال الأسبوعين الماضيين سواء في معسكرات تابعة للحرس الثوري او منشأة نتانز النووية التي تضررت كثيرا بفعل الانفجار الغامض. والمشترك بين الحالتين انهما يتعلقان باختراقات خارجية كبرى تنتج عنها أضرارا هائلة، وترتبط بوجود عناصر تم استقطابها للعمل لصالح اسرائيل في حالة حماس، ولصالح جهات معادية في حالة إيران غالبا تتضمن كلا من الولايات المتحدة وإسرائيل معا. وبعض هذه العناصر العميلة يقوم بأعمال ميدانية مباشرة، كزرع عبوات ناسفة، أو اختراق أجهزة الحاسوب وتغيير شفراتها، أو زرع فيروسات اليكترونية تسمح بانتقال المعلومات إلى جهات خارجية، وسرقة وثائق مهمة.
التجسس بين الأطراف المتصارعة أمر معتاد تاريخيا، والقيام بإجراءات للحد من آثار عمليات التجسس المعادية يمثل موقفا طبيعيا ومطلوبا. ولحماس جواسيس تم اكتشافهم من قبل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في أوقات سابقة. والأجدر هو أن يتم منع عمليات التجسس أصلا، إلا أن الحادث هو أن نسبة من عمليات التجسس تنجح في الوصول إلى أهدافها بدون أن يتم اكتشافها. وفى حالة حماس تؤدى المعلومات التي يوفرها الجواسيس سواء كانوا تابعين لحماس أو لغيرها من الفصائل إلى تمكين إسرائيل بالقيام بعمليات نوعية كقتل بعض القيادات العسكرية أو السياسية، ومنع حماس من القيام بعمليات ضد إسرائيل وجنودها. وفى السنوات العشرة الماضية تكرر اعتقال حماس للعديد من العناصر التي اتهمت بالتجسس لصالح العدو الإسرائيلي، وكثير منهم تم إعدامه كما حصل في أعوام 2011 و2014 و2017. وفى كل مرة كانت حماس تعد بإعادة هيكلة أجهزتها الأمنية والاستخبارية وسد الثغرات التي قد يستفيد منها العدو، ولكنها تُفاجئ بعد حين باكتشاف خلايا وعناصر تجسس جديدة، ما يعنى فشل ما تم اتخاذه من قرارات وجهود سابقة، بما في ذلك جهودها ذات الطابع الديني ودعوات التوبة للعناصر المارقة، والتي يتم تكثيفها خلال شهر رمضان المبارك تحديدا.
والمحيطون بحماس يبررون سقوط مجموعات تلو مجموعات من عناصرها في فخ الجاسوسية لصالح إسرائيل كنتيجة للضغوط المعيشية والحياة الصعبة التي يمر بها القطاع، وتستغله أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية لتجنيد جواسيس أو خداع البعض لجمع المعلومات الدقيقة عن تحركات حماس وقياداتها السياسية والعسكرية، وهو تبرير وإن حمل بعضا من الحقيقة بالنسبة للغزاويين البسطاء، لكنه لا يفسر لماذا يسقط بعض عناصر حماس نفسها في التجسس عليها، ولا ينفى مسئوليتها المباشرة عن وصول الاحوال المعيشية للقطاع بأسره الى هذا المستوى المتدني، نتيجة إصرارها على الانفراد بحكم القطاع وعدم التجاوب مع كل محاولات المصالحة الوطنية، واعتمادها على دعم مالي قطري مشروط لا يمر إلا بواسطة اسرائيل، ما يضرب في تماسك الحركة ويضعف من شعاراتها أمام أهل القطاع ككل.
اكتشاف خلية تجسس ينتمي أعضاؤها إلى مفاصل مهمة وقيادية في الحركة هو إنذار مهم يستدعى من قيادة حماس أسلوبا جديدا من المعالجة، يبعد عن الإنكار أو النفي أو وصف الأمر بالإشاعات المضللة أو الاستهزاء بدعوات المراجعة والعودة إلى طريق المصالحة. فالمعلومات المتاحة والدقيقة لا يمكن تجاوزها بمثل هذه الأساليب البالية. المطلوب مراجعة هيكلية وسياسية حقيقية وشاملة، ووضع المصلحة الفلسطينية فوق كل اعتبار.
وبالرغم من الفارق الكبير بين إيران كدولة ذات مؤسسات ومصادر دخل مستقلة رغم تعرضها للعقوبات الأمريكية، وبين حركة حماس المُحاصرة في القطاع ومحدودة الموارد، فإن أسلوب التغاضي وتجاهل الدلالات الحقيقية والمؤلمة فيما حدث على مدى اسبوعين من انفجارات متعمدة طالت منشآت نووية مهمة ويفترض أنها محصنة أمنيا ومواقع تخص الحرس الثوري الإيراني، يكشف عن مدى الحرج الذي أصاب المؤسسات الأمنية الإيرانية حيث ظهر ضعفها واهترائها، وتعرضها للاختراق الممنهج ماديا وإليكترونيا. وفى يناير2018 كشف نتنياهو عن عملية نوعية قام بها الموساد في العمق الإيراني حيث توصل إلى أرشيف سرى للبرنامج النووي الإيراني، وقام بسرقته والخروج به إلى إسرائيل، التي وظفت بعض معلوماته في إظهار خطورة البرنامج النووي الإيراني حسب القناعات الإسرائيلية، وبررت به مهمتها الرئيسية في اضعاف القدرات النووية الإيرانية كأولوية لا تراجع عنها مهما كلف الأمر.
لم تأخذ إيران هذه العملية النوعية محمل الجد، وتظاهرت بأنها دعاية إسرائيلية لا أكثر ولا أقل. والظاهر أن هذا النوع من خفض أهمية الاختراق الأمني، كرسالة موجهة للداخل الإيراني، لم يرافقه دراسة الدلالات العميقة لسرقة أرشيف يخص برنامج يفترض أنه مُؤمن بأعلى الأساليب وأكثرها دقة. وتشير التفجيرات التي تمت في معسكرات للحرس الثوري الإيراني بأنها تمت بحيث لا تؤدى الى خسائر كبيرة في الأرواح ولكنها تحدث خسائر مادية كبرى، وبالنسبة لمنشأة نتانز النووية فقد تمت الانفجارات بحيث لا تؤدى إلى تسرب إشعاعي، ولكنها تخرب المنشأة تخريبا دقيقا وتمنع عملها لسنوات عديدة حتى إذا تم إصلاحها، ومن ثم يتحقق تعطيل مباشر وحاسم في دورة البرنامج النووي الإيراني، وهو الهدف المُعلن أمريكيا وإسرائيليا.
تقارير أمريكية كشفت أن تحليل صور الأقمار الاصطناعية لموقع نتانز بعد تفجيره تكشف غالبا عن وضع مواد ناسفة في زوايا ومواقع محددة بحيث تحقق أكبر دمار ممكن بدون تسرب إشعاعي، وهو أمر اعتمد على معلومات دقيقة وايضا تعاون عناصر بشرية من داخل المنشأة النووية. وفى حال ثبوت تلك المعلومات، فإن مستوى الاختراق الأمني الإيراني يكون غير مسبوق، ولا ينفع معه إغماض العيون.
وفى كل الأحوال فإن هذه العمليات النوعية تدل على أن إدارة الصراعات والأزمات من خلال التجسس واقتناص المعلومات الدقيقة والعمليات النوعية التي يصعب تحديد القائم بها دون الوصول إلى مستوى الحرب المباشرة، سيكون أسلوبا شائعا بين إسرائيل وخصومها.
___________________________
نقلا عن جريدة الوطن – الأربعاء 15 يوليو 2020.