بدأت تلوح في الأفق احتمالات عودة أعداد لا بأس بها من العمالة المصرية العاملة بالخارج خاصة بالبلدان الخليجية، كنتيجة أساسية للتأثيرات السلبية لفيروس كورونا على اقتصاديات هذه البلدان، خاصة مع الانخفاض الحاد المتوقع في أسعار النفط والمقترن بتخفيض الإنتاج، مما يقلل من العوائد المتحصلة من هذا المصدر ناهيك عن الإغلاق الجزئي أو الكلى لديها، وعدم الاستقرار السياسي والأمني لدى البعض مثل ليبيا والعراق وهما من أكبر البلدان المستقبلة للعمالة المصرية. وقد بدأت البشائر مع إعلان الكويت تخفيض نحو 30% من إجمالي العمالة الوافدة بها، فإذا أخذنا بالحسبان أن عدد المصريين العاملين هناك يقدر بنحو نصف مليون لاتضح لنا حجم المشكلة.
وهنا تطرح العديد من التساؤلات، أولها يتعلق بالآثار الناجمة عن هذه المسألة سواء فيما يتعلق بسوق العمل أو ميزان المدفوعات؟ وثانيا كيف يمكن الحد من الآثار السلبية المتوقعة والتعامل الإيجابي معها؟
ويعد من نافلة القول بأن العمالة المصرية بالخارج لعبت عدة أدوار إيجابية في الاقتصاد المصري. إذ تعد تحويلاتها أحد المصادر الأساسية للنقد الأجنبي في ميزان المدفوعات، مع الزيادة الملحوظة حيث ارتفعت من نحو 10 مليارات دولار عام 2009/2010 الى نحو 26 مليارا عام 2017/2018، وهبطت قليلا إلى 25 مليارا عام 2018/2019 وبعد أن كانت تشكل نحو 20% من إجمالي حصيلة النقد الأجنبي من المصادر الرئيسية الخمسة (الصادرات والسياحة ورسوم المرور في قناة السويس والاستثمار الأجنبي المباشر) أصبحت تمثل نحو 33% و30% من هذه المصادر. وارتفعت نسبتها للناتج المحلى الإجمالي من 4.5% إلى 10.5% و8.3% خلال السنوات الثلاث على الترتيب، وهى أمور توضح لنا بجلاء شديد الدور الحيوي لهذه التحويلات في ضبط ميزان المدفوعات. ومن ثم الحد من الضغط على سعر صرف الجنيه المصري، وتسمح بحرية الحركة في مواجهة المشكلات التي قد تظهر في أى قطاع من القطاعات.
وبالإضافة إلى ذلك فإن الزيادة في التحويلات قد أدت إلى زيادة الطلب على العديد من السلع والخدمات، ومثلت إحدى القنوات المهمة في زيادة الطلب المحلى، حيث يشير المسح القومي للهجرة الذي أجراه الجهاز المركزي للتعبئة والاحصاء، إلى أن 86% من الأسر التي استقبلت تحويلات نقدية من ذويهم في الخارج قد استخدمتها في تمويل نفقات المعيشة اليومية للأسرة (شراء أغذية وملابس وسلع لأسرة) و44% لدفع مصاريف مدرسية لأعضاء الأسرة ونحو 30% لدفع نفقات العلاج. وكلها أمور أسهمت في زيادة الاستهلاك والذي كان المحرك الأساسي للنمو.
كما أسهمت هذه التحويلات في تحسين مستويات معيشة الأسرة وبالتالي الحيلولة دون وقوعهم في براثن الفقر. وهنا تكمن المشكلة لأنها تتزامن مع ما أظهره الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء في دراسته عن “أثر فيروس كورونا على الأسر المصرية” والتي أشارت إلى انخفاض استهلاك الأسر من بعض السلع الأساسية كاللحوم والطيور والأسماك والفاكهة مقابل إرتفاع الاستهلاك من الأرز وزيت الطعام والبقوليات.
ولا يخفى ما لذاك من آثار على مستويات المعيشة والفقر خاصة إذا اخذنا بالحسبان نتائج بحث الدخل والانفاق 2017/ 2018، والتي أشارت إلى أن انخفاض نصيب الفرد من الإنفاق على هذه المجموعة السلعية، خاصة لدى العشر الأدنى من المجتمع، قد أدى إلى زيادة نسبة الفقراء بمقدار6.6 نقطة مئوية.
وعلى الجانب الآخر فقد استطاعت هذه العمالة تخفيف الضغط على سوق العمل الداخلي، حيث استوعبت أعدادا لا بأس بها من العمالة، مع ملاحظة أن معظم من ذهبوا للعمل في المنطقة العربية كانوا من قطاع التشييد والبناء بنسبة 47.2% من إجمالي الدول العربية، يليهم قطاع تجارة الجملة والتجزئة بنسبة 12% تقريبا، ثم الزراعة والصيد بنحو 10.6% وذلك ووفقا لمسح الهجرة.
ومما زاد من تعقيد المشكلة أنها تتزامن مع أوضاع هشة في سوق العمل، واستحواذ القطاع غير الرسمي على معظم الوظائف، وازدياد الطلب على العمالة المؤقتة، وارتفاع معدلات البطالة إلى نحو 9%، مع ارتفاع نسبة البطالة للإناث الي نحو 22% مقارنة ب 5% للذكور. يضاف إلى ذلك ارتفاع معدل البطالة بين الشباب (15 -29 سنة) إلى نحو 17% وترتفع هذه النسبة للإناث الي 43%. هذا فضلا عن ارتفاع نسبة المتعطلين الذين سبق لهم العمل لتصل الى 31% من إجمالي المتعطلين مع تراجع معدل التشغيل في المجتمع.
فضلا عن الظروف الصعبة التي يعمل فيها القطاع غير الرسمي إذ تصل نسبة العاملين بعقد قانوني إلى 41% من إجمالي العاملين بأجر، ونسبة المشتركين بالتأمينات الاجتماعية إلى 45%. وكذلك تبلغ نسبة المشتركين في التأمين الصحي نحو 39 %. وكما أشارت الدراسات فإن نحو 62% من الأفراد المشتغلين قد تأثرت حالتهم بسبب كورونا، منهم 26% تركوا العمل نهائيا ونحو 56% أصبحوا يعملون أيام عمل أقل أو ساعات عمل أقل من المعتاد، ونحو 18% يعملون عملا متقطعا. ونظرا لأن الدخل من العمل يمثل المصدر الرئيسي للدخل وفقا لبحث الدخل والإنفاق فإن غالبية الأفراد74% قد انخفضت دخولهم منذ ظهور الفيروس. والأهم من ذلك أن الغالبية العظمى من الشباب (15- 24 سنة) كانوا الأكثر تأثرا حيث انخفض دخل نحو 88% منهم.
كل هذه الأمور وغيرها تدفع للمطالبة بإتباع استراتيجية جديدة تهدف إلى العمل على استيعاب هذه العمالة
داخل دولاب الاقتصاد القومي عن طريق إيجاد كيانات استثمارية مناسبة للمدخر الصغير، وهم معظم من يتوقع أن يعودوا إلى البلاد قريبا، وضرورة دعم المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر، خاصة في المناطق البعيدة في الريف المصري، وتشجيع تكوين كيانات استثمارية تساعد على جذب المدخر أو المستثمر الصغير للدخول في شراكة معها.
ويمكن الاستفادة من المزايا العديدة في قانون تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة (رقم 152 اسمة 2020) الصادر مؤخرا. كذلك يجب أن تقوم البنوك بتوسيع دائرة الاهتمام لتشمل جميع قرى ومدن مصر مع إزالة العقبات أمام المعاملات المصرفية لصغار العملاء، والاستفادة أيضا من القانون الجديد للجهاز المصرفي، المزمع صدوره قريبا.
فضلا عن ضرورة الاهتمام بالتدريب التحويلي حتى تتمكن هذه العمالة من الالتحاق بالقطاعات الأكثر طلبا للعمالة، وتوفير ضمانات اجتماعية أفضل للعاملين في المهن الحرة وفى القطاع غير الرسمي، وتعزيز شبكات الامان الاجتماعي لحماية الأفراد الأكثر تضررا.
_____________________________
نقلا عن جريدة الأهرام، 22 يوليو 2020.