الوحدة الأوروبية فكرة واحدة وثلاثة مشروعات سياسية متشابكة ومشتبكة، متناقضة ومتعايشة، تنمو معًا وكل منها على حساب الأخرى، وليس واضحًا إلى الآن إن كان من الممكن لهذه الصيغة أن تستمر دون أن تصاب بشلل وعطب. في البداية يتعين الإشارة إلى ذيوع تصورات عن أوروبا، ترى فيها إما قارة شاخت، غنية ومسلوبة أو ضعيفة الإرادة، أو امرأة عجوزًا غنية عاجزة عن الدفاع عن نفسها، وارتضت لنفسها دفع الإتاوات لمن يحميها ومن يبتزها، أو سفينة ركاب فخمة وضعت نفسها في ركن يمنعها من التقدم إلى الأمام ومن الرجوع إلى الخلف، ويجعل من الصعب النزول منها (التشبيه الأخير للفيلسوف الفرنسي الكبير “مارسيل جوشيه”).
تحدي اليورو
وفي كل ما سبق من تصورات بعض من الصحة وبعض من الخطأ. ما يهم في هذا الإطار أن أوروبا أثبتت فيما مضى أنها تتمتع بإرادة من فولاذ عندما تريد حقًا تنفيذ مشروع، والسؤال هو مدى توفيقها في تحديد واختيار المشروع المراد تنفيذه. وأبرز مثال على ذلك هو العملة الموحدة اليورو. من يوم الاتفاق على إنشائها قيل بوضوح إن هذا المشروع لا يمكن أن ينجح ما لم يتم الاتفاق على سياسات ضريبية واحدة، وعلى تضامن في سداد الديون، وعلى إعادة هيكلة الأنظمة الاقتصادية لكل دولة من الدول. وقيل من أول يوم إن المقومات والشروط الاقتصادية لنجاح هذا المشروع غير متوافرة. فعلى سبيل المثال، تمنع الاتفاقيات والمعاهدات قيام دولة بسداد ديون دولة أخرى، وهناك دائمًا دول تحتاج إلى تخفيض قيمة اليورو، وأخرى تحتاج إلى إبقائها مرتفعة، ورغم ذلك أصرت الدول على إنشاء اليورو رغم المشكلات والصعوبات الفنية الهائلة، ونجحت في إدارة الأزمات المتتابعة التي ترتبت على عدم توافر الشروط الاقتصادية، وتجاهلت نصوص المعاهدات عندما كان هذا ضروريًّا. والسؤال الذي يفرض نفسه: هل مميزات وجود تلك العملة (أهمها وجودها كمنافس للدولار يحد من ميل واشنطن إلى استخدام وضعها المميز كصاحبة العملة الرئيسية واستغلاله استغلالًا فيه قدر من الابتزاز) يستحق تكلفة أزماتها والأزمات التي تتسبب فيها وإدارتها؟
يمكن العودة إلى المشروعات السياسية الثلاثة المنبثقة عن فكرة الوحدة الأوروبية بالاقتباس من كتاب “لوك فان ميدلار”، وهو مؤرخ وفيلسوف عايش من الداخل أزمات الاتحاد في العقد الماضي، المشروع الأول والأقدم والرئيسي هو مشروع إلغاء السياسة والتسيس والقائد السياسي والقرار السياسي ليحل محلهم حكم القانون والقواعد القانونية والإدارية والإجراءات، وهو مشروع يمكن فهمه بالنظر إلى سياقات ميلاده وأوضاع أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، دول لا يجمعها لا لغة ولا تاريخ ولا ثقافة ولا مصالح مشتركة، بل كان بينها في الماضي القريب حروب دموية.
ولكن هذا المشروع يستلهم أفكاره من فكر “كانط”، وباختصار -قطعًا مخل- فإن فكر “كانط” فلسفة قانون وأخلاق لها تبعات سياسية، فلسفة ترمي إلى شمولية قانونية تحد من مجال القرار السياسي، بل تلغيه بجعله خاضعًا خضوعًا تامًا للقانون. لهذه المقاربة مميزات -على سبيل المثال لم يستطع الرئيس السابق “ترامب” منع المسلمين من دخول الولايات المتحدة- ولها عيوب جسيمة أبرزها قرار البرلمان الأوروبي الأخير الخاص بمصر. قواعد القانون عامة تنطبق على كل الحالات التي يشملها القانون، بينما السياسة هي فن تقدير كل وضع وخصوصيته على حدة، والتعامل معه كواقع فريد يشترك مع غيره من الأوضاع في أشياء ويختلف في أشياء. وباختصار، تفترض هذه المقاربة أن القيادة السياسية والقرار السياسي والتقدير السياسي للموقف لا ضرورة لهم. وعليهم الخضوع التام لحكم القانون، ويفترض أن القانون قادر على توقع كل الحالات المستجدة والتعامل معها، وأن حكمه ضروري ولو تم على حساب الأمن القومي والمصلحة الوطنية، والحديث هنا ليس ضد سيادة القانون وحكمه، ولكن ضد مبدأ الشمولية. أي شمولية هي اعتداء مبدأ ومنطق على مجالات من المفروض ألا تخضع لهما، وبالتالي فالحديث هنا ضد شمولية السياسة إن اعتدت على المجال الذي يحكمه القانون، والعكس صحيح. ويمكن ختام هذه الملاحظات القليلة على هذا المشروع الساعي إلى إحلال القانون محل السياسة باقتباس بتصرف لكانط: “أراد سياسة نظيفة اليدين فقطع يدي السياسة”.
موقف الاتحاد الأوروبي من مصر
أولًا، إن أغلب البيروقراطيين العاملين في مقر المفوضية ببروكسل من القانونيين والاقتصاديين، هم قطعًا أكفاء في مجالهم، ولكن فهمهم لسياسات الأديان، ولكيمياء الدين والسياسة من ناحية، ولقضايا الأمن القومي من ناحية أخرى، قاصر جدًا. وفيما يتعلق بمنطقتنا وبأوضاع المسلمين في أوروبا فإن مصادر معلوماتهم والتحليلات التي يعتمدون عليها والبرامج البحثية التي يقومون بتمويلها مخترقة من الإخوان أو مصدرها الإخوان (انظر مثلًا مقال فلورانس برجو بلاكلار في مجلة لوبوان بتاريخ ١٨ نوفمبر ٢٠٢٠).
ثانيًا، قال رئيس المجلس الأوروبي السابق السيد “دونالد تاسك” -بولندي الجنسية- يوم ١٧ مايو ٢٠١٧ إن “كلمات ومصطلحات مثل “أمن” و”حماية” و”فخر” و”شرف”.. عليها أن تعود وتدخل مرة أخرى (قاموسنا) ولغتنا وخطابنا السياسيين، لا يوجد سبب يبرر أو يعذر كوننا تركنا هذه المصطلحات للشعبويين المتطرفين يحتكرونها”، لا تعليق على هذا الاعتراف سوى أنه تقصير جسيم.
ثالثًا، فرص نجاح المشروع الأوروبي الجاري نقاشه هنا والرهان الكانطي (إحلال القانون مكان القائد السياسي) ضئيلة إن كان عدد الدول الأعضاء لا يتجاوز الستة أو السبعة. وطبعًا مع ازدياد عدد الدول الأعضاء فهذه الفرص تتضاءل أكثر وأكثر مع التعارض في المصالح واختلاف الثقافات والتنوع في التهديدات.
رابعًا، من المفيد والمؤلم متابعة تصريحات المسئولين عن السياسة الخارجية للاتحاد، كلها محاولات بعضها ذكي لإخفاء عدم وجود إرادة سياسية موحدة، عن طريق دعوة الفرقاء إلى الحوار وإلى الاحتكام إلى القانون الدولي وإلى الأخلاق. قد تبدو الدعوات الدائمة إلى تخفيف حدة الصراع أخلاقية، ولكنها أساسًا تعكس خوفًا من السياسة بصفة عامة وسياسات القوة بصفة خاصة، ورغبة في ترويضها. ولا غبار على ذلك إلا إذا عد دعوة المعتدي إلى مواصلة الابتزاز.
خامسًا، قد يقول البعض فيما يتعلق بالحالة المصرية إن مصر وقّعت على اتفاقيات دولية حول حقوق الإنسان، وبالتالي هي مقيدة بها، وردًا على ذلك يمكن القول أولًا وثانيًا وثالثًا إن توقيع مصر يلزمها، وبعد ذلك نترك قضية هل من اختصاص الأوروبيين وغيرهم توزيع الدرجات أم لا؟ هل هم الشرطة الدولية المختصة بفرض الالتزام بهذه الاتفاقيات؟
الاتحاد الأوروبي وفخ التعميم
ولن يقتصر القول على أنه لا يصح التعميم انطلاقًا من حالات فردية، ويمكن تذكير الأوروبيين وغيرهم بسلوك الولايات المتحدة بعد ١١ سبتمبر، وتذكيرهم أيضًا بأن الرئيس “أوباما” فشل في إغلاق معسكر جوانتانامو، وأن الجمهوريين والديمقراطيين ظلوا متفقين على وجود هذا المعتقل، وتذكيرهم أيضًا بلجوئهم إلى تعذيب غير إنساني وغيره من المخالفات الجسيمة. سيقولون إن هذا استثناء عندهم وأصل عندنا، ولكننا نرفض هذا التعميم المهين، ولن نقابله بتعميم مضاد حول ممارسات الشرطة لديهم، سنقول فقط إن هناك شبه اتفاق على أن حالة الحرب وحالة الطوارئ لهما أحكامهما، فالخطر الذي يهدد كيان المجتمع بأكمله وبقاء الدولة خطر استوجب تعطيلًا محدودًا ولفترة محدودة للقوانين. تجد كل الدول تقر هذا. ودون استطراد في شرح وضعنا واللحظة المصيرية التي نمر بها، فالوضع معروف، وأغلب ما يهددنا يهدد أوروبا. وعلى العموم، ليس من حق أي دولة في العالم تقييم تقييمنا لوضعنا وللتهديدات التي تحيق بنا، وبالتالي قرارنا بوجود طوارئ. لا نحتاج لا نحن ولا غيرنا لأحد لتشخيص وجود خطر واضح وداهم.
ستنكر بعض الدول الأوروبية وجود خطر يهددنا، وسيقول أغلبها إن حقيقة هذا الخطر لا تبرر كل الاعتقالات التي تتم في مصر، ولن ننكر احتمال تعرض بعض الحالات الفردية للظلم، ولكن يتعين تذكير الأوروبيين ببعض الحقائق: أولها، أن منظومة حقوق الإنسان حمالة أوجه، فاحسبوا عدد الضحايا التي وقعت ضحية عمل قام به متطرف كانت تعلم الأجهزة أنه كذلك. ثانيًا، وضعنا الاقتصادي غير وضعكم، قد تتحمل فرنسا خسارة قدرها عشرات الملايين من الدولارات تسبب فيها المخربون. نحن لا نتحمل خسائر دورية بهذا الحجم، فنحن في ظرف خاص جدًّا نظرًا للتهديدات والتحديات السياسية والأمنية والجيوسياسية والاقتصادية.
المشروعات الأوروبية الثلاثة
بالعودة إلى المشروعات الأوروبية الثلاثة، ذكر سابقًا أن الأول هو الأقدم والأصلي، ولكن مشروعين ظهرا في بداية الستينيات من القرن الماضي وتطورا بعد ذلك. ذكر المشروع الأول أن نوعًا من الرقابة ومن التمثيل الشعبي من شأنه دعمه، والتخفيف من سلبية صورة مفوضية تكنوقراطية غير منتخبة تمد أذرعها لإدارة عدد متزايد من جوانب الحياة، فتم إنشاء مجلس تمتع في الأول بسلطات رمزية لا أكثر، ثم تم إقرار مبدأ انتخابه انتخابًا مباشرًا من الشعوب في النصف الثاني من السبعينيات، وأطلق على هذا المجلس اسم البرلمان الأوروبي في النصف الثاني من الثمانينيات، وتم توسيع سلطاته في هذا العقد. ولكنها ما زالت محدودة. يمكن القول إن هذا المجلس يدعم البعد “فوق الوطني” للاتحاد، وهناك عدة محددات تؤثر على أدائه، وهي: ٢٣ لغة عمل، ثلاثة مقرات، ١٧٠ حزب ممثلين فيه فوق ٧٠٠ عضو، قلة اهتمام الشعوب بأعماله، وتتعين الإشارة أيضًا إلى أن هذا المشروع الثاني (التمثيل الشعبي) تدعمه ألمانيا بقوة، لأنها ستكون لها الغلبة فيه نظرًا لوزنها السكاني، ولقوة أحزابها المالية، ولأن ثقافتها وممارساتها السياسية تدفع كوادرها إلى إتقان فن الوصول إلى حلول وسطى، ويتعين الإشارة أخيرًا إلى أن رئيس المفوضية السابق السيد “جونكر” اختار خطًا قائمًا على توثيق التعاون بين المفوضية والبرلمان.
والمشروع الثالث أصله فرنسي. وهو اعتماد مبدأ القمم الدورية الجامعة لرؤساء الدول، من خلال إنشاء “المجلس الأوروبي”، أي إن منطقه الحاكم كونفدرالي، قائم على تعاون بين دول لا على تذويبها في تجمع أكبر، ويعكس وجهة نظر فرنسية ترى أن المشروع الرئيسي (إحلال القانون مكان القيادة) لا يصلح إلا لإدارة الاقتصاد، ولا يجوز أن يمتد ليحكم مجالات أخرى. والمشروع الثالث يعطي ميزة للدول التي اعتمدت النظام الرئاسي.
وكما يقول “ميدلار” فإن المفوضية تجد نفسها مكلفة بمهام مختلفة متناقضة. وفقًا للمشروع الأول فهي الوسيط الأمين والجهة التي تتقدم باقتراحات تتفق والصالح العام لكل الدول الأوروبية والتي تراقب التزام الكل بالقواعد، ووفقًا للمشروع الثاني (تمكين البرلمان) فهو مشروع حكومة أوروبية يحاسبها برلمان أوروبي، ووفقًا للمشروع الثالث فهي سكرتارية القمة الأوروبية والمجلس الأوروبي. ويقر “ميدلار” بأن القيام بكل هذه المهام في آن واحد مستحيل.