لم تكن الصواريخ التي انطلقت الأسبوع الماضي، باتجاه المنطقة الخضراء في بغداد هي الأخطر لهذا الفعل المتكرر، لكن توابعه قد تفوق حجم الخسائر التي لم تتجاوز هذه المرة أضرارًا مادية محدودة، أصابت عددًا من البنايات السكنية في «عمارات القادسية» وبعضًا من السيارات المدنية دون خسائر بشرية. خلية الإعلام الأمني التابعة للجيش العراقي حددت منطقة إطلاق الصواريخ بأنها جاءت من معسكر الرشيد، وأن مجموعة «خارجة عن القانون» تستهدف بهذا العمل أمن المواطن، وتسعى إلى الانتقاص من هيبة الدولة وزعزعة الاستقرار. في الوقت الذي قام فيه الرئيس ترامب بالتعليق على العملية، من خلال الكتابة على «تويتر» واتهام إيران مباشرة بالوقوف وراء عملية الإطلاق، والتي حدد هدفها بـ«سفارتنا في بغداد»، بل ونشر أيضًا صورة مرافقة لصواريخ ثلاثة ذكر بأنها لم تنطلق!
الصواريخ التي ظهرت في الصورة المنشورة على حساب الرئيس الأمريكي، تعد من طراز «107 MM» إيرانية الصنع ويبلغ مداها نحو «١٠ كم». وهي ربما الصواريخ ذاتها التي جاء ذكرها في الوثيقة الأمنية العراقية، التي جرى نشرها على نطاق واسع في وسائل الإعلام الأمريكية باعتبارها تحمل «تهديدًا محتملًا»، من ميليشيات موالية لإيران باستهداف «قاعدة أمريكية» بالقرب من مطار بغداد، بالتزامن مع الذكرى الأولى لمقتل القائد الإيراني قاسم سليماني والقيادي بالحشد الشعبي أبو مهدى المهندس. الوثيقة العراقية بينت أن توقيت الهجوم ربما يكون قبل يوم الثالث من الشهر المقبل، وهو نفس تاريخ الضربة الأمريكية بحق القياديين المذكورين، ويرجح- حسب الوثيقة ذاتها- أن الهجوم قد يكون من منطقة «الشيحة» التابعة لقضاء أبو غريب المحاذي لمطار بغداد الدولي. جدية ما جاء من معلومات بالوثيقة الأمنية؛ استتبع اجتماع رفيع المستوى بواشنطن عقده كبار مسئولي الأمن القومي بالبيت الأبيض، تناول مجموعة الخيارات المقترحة لتأمين العسكريين والدبلوماسيين الأمريكيين ببغداد، فضلًا عن كيفية ردع مثل هذا الهجوم الذي بدا في اجتماعهم وشيكًا. للحد الذي طرحت فيه مرة أخرى مسألة سرعة إغلاق السفارة الأمريكية، بل وحدد فيه نقل السفير «ماثيو تولر» وأعضاء البعثة الدبلوماسية ما بين مكانين، إما إلى مدينة أربيل في إقليم كردستان أو إلى «قاعدة الأسد» الجوية في غرب العراق.
من داخل العراق؛ تبدو الصورة وكأن الولايات المتحدة ليست وحدها المهددة، بالفعل الإيراني المستخدم لذراع ميليشيات «الحشد الشعبي» وغيره، فهناك رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الذي يخوض معركة استرداد مقومات الدولة العراقية، وخلالها تصادم مع أشكال الهيمنة الإيرانية مرات عديدة، للحد الذي صار يمثل «حالة» تهدد تلك الهيمنة في صميم سياساتها بالمنطقة. وليس خافيًا مساحات التململ التي باتت علنية من قِبل الفصائل المسلحة تجاه الرجل، حيث جاهرته بالقول «لا تختبر صبرنا» بأكثر من ذلك، فيما تحاول استخدام جميع أوراقها ومهاراتها في المناورة على مساحات الأرض التي صار الكاظمي يكسبها مؤخرًا. على تلك الخلفية جاءت زيارة «إسماعيل قاآنى» غير المعلنة إلى بغداد في هذا الأسبوع، حيث حرص القائد الجديد لـ«فيلق القدس» وخليفة سليماني على سرعة الاجتماع مع قادة أربع ميليشيات عراقية، تمثل المكون الأكبر للأذرع الإيرانية والتي تواجه مرحلة بالغة الصعوبة، حسب تقدير طهران. القادة الأربعة الذين اجتمعوا مع إسماعيل قاآنى؛ هم كل من «قيس الخزعلى» زعيم «عصائب أهل الحق»، و«شبل الزيدى» أمين عام «كتائب الإمام على»، و«أكرم الكعبي» القائد العام لـ«ميليشيا النجباء»، و«أحمد الحميداوى» قائد كتائب «حزب الله العراقي». وحرص خليفة سليماني على أن ينقل لهؤلاء أهمية الاستعداد لشن هجمات على المصالح الأمريكية في العراق، في حال تم استهداف إيران من قِبل الولايات المتحدة، والتأكيد على أن طهران تعتبر هذه الكيانات جزءًا حيويًا من رسم ملامح المشروع السياسي الإيراني في العراق.
المطلعون على تفاصيل هذا الاجتماع المهم من العراق، أكدوا أن هناك مساحة كبيرة منه حملت توصيات إيرانية بالتهدئة التكتيكية، وأيضًا ترميمًا لبعض الإشكاليات البينية في صفوف الفصائل الرئيسية التي تمثل القوة الرئيسية لـ«الحشد الشعبي»، حملها القائد الإيراني لضمان تخفيف حدة التوتر مع الجانب الأمريكي على الأقل لحين وصول الإدارة الجديدة، وألا تتسبب الحالة المنفلتة للفصائل في الإسراع بالصدام الذى يعلن الرئيس ترامب أنه مستعد له للحظة الأخيرة لإدارته. وربما جاء تسريب هذا الجانب من اجتماع «إسماعيل قاآنى» مع قادة الفصائل، الخاص بضبط استهداف البعثات الدبلوماسية في المنطقة الخضراء ببغداد بعد العملية الأخيرة، باعتباره يحمل لواشنطن وبغداد رسالة مزدوجة تحرص طهران على إنفاذها في الوقت الراهن، مفادها أن إيقاع معادلة الأمن العراقي ما زال بيدها، في الوقت الذي تؤكد فيه نيتها بضبط الميليشيات والذهاب نحو التهدئة. وهو ما سار على ذات نهجه؛ بعد أيام من الاجتماع السيد «خطيب زادة»، المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، حين قال من طهران إن بلاده تعد الهجوم على البعثات الدبلوماسية أمرًا مرفوضًا. فالأصوات العاقلة داخل إيران تحرص هذه الأيام على الدعوة إلى تفويت الفرصة على إدارة الرئيس ترامب، من توجيه أي عمل عدائي مباشر ضد إيران، في حال تسبب انفلات الفصائل العراقية في عمل يستلزم ردًا أمريكيًا، يعد الآن على درجة من الجاهزية أكثر من أي وقت مضى.
رئيس الوزراء الكاظمي؛ لم ولن يخرج من دائرة تهديد فصائل الحشد، رغم جميع دعوات التهدئة، فالأخيرة وفى ظل أجواء المزايدات بينها تضع تهمة اشتراكه في عملية اغتيال سليماني والمهندس، وكأنها حقيقة مطلقة باعتبار شغله منصب رئيس الاستخبارات العراقية حينها. لكن حقيقة الأمر هي تقف بالمرصاد لمشروع الرجل الذي يصر على تحويل العراق إلى دولة ذات سيادة وطنية، ويسير على أشواك تناقضات الحالة العراقية بدأب وببراعة التعاطي مع الواقع الذي لا ينكره، لكنه يملك رؤية متدرجة ومتزنة لإعادة تشكيله، مستخدمًا في ذلك معطيات الداخل المرهق من أوضاعه الاستثنائية، ودعم الخارج الإقليمي العربي الذي يتماثل معه في أهمية عودة العراق القوى، الوازن لكثير من معادلات الأمن القومي العربي.
نقلا عن جريدة الدستور، الأربعاء ٣٠ ديسمبر ٢٠٢٠.
المدير العام المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية