كان الرئيس ريجان قد قام عام ١٩٨٣ بتشكيل لجنة رفيعة المستوى من كبار المتخصصين لتحديد ما يتعين عمله من أجل تطوير التعليم الأمريكي بعد أن تصاعدت الآراء التي حذرت من تداعيات تراجع جودته في الوقت الذي تشهد فيه الأنظمة التعليمية في عدد آخر من الدول -خاصة الآسيوية- تطورًا متواصلًا مع تأكيد أهمية التحرك من أجل معالجة الموقف حتى يُمكن للولايات المتحدة مواصلة تفوقها وتنافسيتها وريادتها العالمية، وقد أعدت تلك اللجنة تقريرًا تحت عنوان “أمة في خطر” (Nation at Risk)، واكتسب هذا التقرير أهمية كبيرة من قبل العديد من الدوائر العلمية والثقافية، وأيضًا السياسية على مستوى العالم.
ويبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية تواجه في المرحلة الراهنة وضعًا خطيرًا آخر لا يتعلق هذه المرة بجودة التعليم، وإنما بتراجع الديمقراطية، خاصة وأن القوة العظمى الرئيسية في العالم لم تعد النموذج البراق للديمقراطية التي اعتدنا على الانبهار ببعض جوانبها أو الإعجاب بقدرة مؤسساتها الراسخة على التحرك من أجل معالجة ما قد تواجهه من تحديات، فالأزمة الحالية لا يمكن اختزالها في الأيام المتبقية من ولاية ترامب، أو في إمكانية اللجوء إلى التعديل الخامس والعشرين للدستور، أو السعي إلى عزله أو حتى بفترة ولايته التي امتدت طوال الأعوام الأربعة الماضية؛ بقدر اتصالها بضرورة تركيز الرئيس الجديد على محاولة معالجة الانقسام والاستقطاب الداخلي غير المسبوق، والتحرك نحو معالجة تآكل الديمقراطية وتخبط الأداء الاقتصادي. فالأوضاع الداخلية تستدعي الاهتمام الأكبر قبل التفكير في تشكيل سياسة خارجية متماسكة تتعلق بكيفية التعامل مع الصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران ضمن قضايا أخرى، خاصة وأن التحديات الدولية تتطلب تجنب تكرار الدخول إلى مستنقعات خارجية، وتكرار ارتكاب الأخطاء الجسيمة التي اقترفتها الإدارات الأمريكية السابقة في أفغانستان والعراق وسوريا وليبيا وفي غيرها أيضًا، إذ لم تؤدِّ التدخلات السياسية والعسكرية الأمريكية سوى للخراب والدمار وتمزيق دول وتشريد مجتمعاتها، وخلق أزمة للاجئين تعد الأكبر التي يشهدها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فقبل مواصلة السياسات الأمريكية لنشر الديمقراطية التي لم تخلُ من أخطاء جسيمة، فعلى الرئيس الجديد أن يحاول إنقاذ الديمقراطية في بلاده التي تحولت إلى ما يمكن وصفه بأمة في خطر تعاني من تمزق داخلي لا يجب التقليل من خطورته.
وقد كان “جوزيف ني” (Joseph Nye)، الأستاذ بجامعة هارفارد، محقًّا عندما تطرق لذلك في مقالته المنشورة يوم ٥ يناير الجاري والمعنونة (How Will Biden Intervene )، حيث حذر فيها من مغبة التدخلات الأمريكية في الشئون الداخلية للدول الأخرى، وهو ما تكرر في مقالة منشورة يوم ٧ يناير الجاري في دورية “فورين بوليسي” Foreign Policy، تحت عنوان “أمريكا لا تستطيع تعزيز الديمقراطية في الخارج، لأنها لا تستطيع حمايتها حتى في الداخل”، وهو ما سبق أن تناوله “ريتشارد هاس” Richard Hass، الدبلوماسي المخضرم ورئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي في نوفمبر الماضي في مقالته المعنونة “أمريكا واحدة وأمتان” (One America, Two Nations)، وأيضًا “فيليب جوردون” (Philip Gordon )، المنسق السابق للبيت الأبيض لشئون الشرق الأوسط في كتابه الصادر في أكتوبر الماضي تحت عنوان “الوعد الزائف بتغيير النظام في الشرق الأوسط” (The False Promise Of Regime Change in the Middle East)، خاصة وأن منطقة الشرق الأوسط لم تعد تحتمل أخطاء أمريكية وغربية إضافية في الوقت الذي تتركز فيه الجهود على إطفاء الحرائق ومكافحة الإرهاب، ومحاولة استعادة استقرار الدولة الوطنية التي تعرضت في عدد من الحالات لتحديات وجودية، وهو ما يتطلب وضع منطلقات جديدة للسياسة الخارجية الأمريكية تختلف عما اتبعته عدد من الإدارات الأمريكية السابقة التي حولت المنطقة إلى كتلة من اللهب مع كوارث إنسانية واقتصادية تفوق التصور.
ومع الاعتراف بثقل القوة العظمى الرئيسية في العالم؛ إلا أنها -بالإضافة إلى تآكل الديمقراطية الذي تشهده- في الوقت ذاته أكبر دولة مدنية في العالم تعاني من تآكل مطرد في الطبقة المتوسطة، ويعيش ١٧٪ من إجمالي عدد سكانها تحت خط الفقر، مع تركز الغالبية العظمى من الثروة في نسبة ضئيلة لا تتعدى ٤٪ فقط من السكان، مع عجز تجاري يفوق ٨٠٠ بليون دولار، منه ما يقرب من ٤٠٠ بليون دولار مع الصين وحدها، وهي ظواهر لأمراض تستدعي الاستعانة بخبراء متخصصين من أجل محاولة علاجها بعيدًا عن أسلوب اللجوء إلى خيار “من كل بستان زهرة” من مختلف الأقليات المتعددة حفاظًا على صورة خارجية مبهرة دون مضمون قد لا يكون كافيًا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، خاصة وأن الخطورة تكمن في الاعتقاد بأن غياب ترامب عن المشهد من شأنه أن يسمح بإعادة الهدوء والاستقرار، مع تجاهل أنه لا يمكن منطقيًا اختزال كل المشاكل الأمريكية الداخلية والخارجية في شخصه، وتجاهل وجود تحديات عاتية تواجه المجتمع الأمريكي ذاته ناتجة عن تصاعد ثقل التيارات اليمينية والشعبوية وحتى العنصرية، وهو ما يتواكب مع تآكل الثقة في مختلف المؤسسات السياسية وحتى الإعلامية، وتصاعد ثقل تيارات “مناهضة المؤسسة” (Anti establishment)، فالرئيس ترامب وإن كان قد خسر في الانتخابات إلا أنه حصل على اصوات ٧٤ مليون ناخب أمريكي يمثلون ما يقرب من ٤٧٪ من إجمالي الأصوات في التصويت الشعبي، وهي حقيقة لا يجب الاستهانة بها أو تجاهل أسبابها. لذا فالحديث الدائر في عدد من مراكز الأبحاث الرصينة حول إمكانية دخول العالم إلى مرحلة يصفونها بـ”العالم دون قيادة” (leaderless world)، واحتمال فقدان الولايات المتحدة الأمريكية لريادتها العالمية؛ لا يجب التقليل من أهميته، وهو الحديث الذي يتزامن مع آراء تدعو إلى ما يطلق عليه “إعادة النظر في الرأسمالية “(rethinking capitalism) في ظل الحاجة إلى المزيد من العدالة الاجتماعية، والتصدي إلى تآكل الديمقراطية، وتراجع ممارساتها في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي الغالبية العظمى من الديمقراطيات الغربية أيضًا. فالذي شهدناه خلال الأيام القليلة الماضية قد لا ينتهي برحيل ترامب؛ بل قد يمهد لتطورات ستكون لها انعكاساتها على مجمل الأوضاع الداخلية الأمريكية وعلى مكانتها الدولية، وهو ما قد يمتد إلى الغرب بأسره الذي لم يعد “نموذجه” براقًا كما كان عليه في السابق.