تشهد الساحة العراقية مشهدًا متشابكًا مرتبطًا بتصاعد تهديد تنظيم “داعش”، إذ أعلن الأخير مسئوليته عن الهجوم الانتحاري المزدوج الذي استهدف “سوق باب الشيخ” بساحة الطيران، في العاصمة العراقية بغداد، صباح الخميس 21 يناير 2021، وأودى بحياة 35 شخصًا وجرح أكثر من 100 آخرين. وبعد ذلك الهجوم بأيام قليلة شن هجومًا آخر على (اللواء 22) التابع لقوات الحشد الشعبي، الواقع شرق تكريت، مركز محافظة صلاح الدين، مما أسفر عن قتل 11 عنصرًا من قوات الأخير. ومن ثَمّ يُثير هذا المشهد جُملة من التساؤلات حول طبيعة النشاط الداعشي في العراق ودلالاته.
ملامح النشاط الداعشي في العراق
نفذ تنظيم “داعش” خلال عام 2020 حوالي (1422) عملية في مختلف محافظات العراق. وتركزت معظم تلك العمليات في محافظة ديالى (499 عملية)، ومحافظة صلاح الدين (335 عملية)، ومحافظة كركوك (235 عملية)، ومحافظة الأنبار (204)، ومحافظة بغداد (83 عملية)، ومحافظة بابل (49 عملية)، ومحافظة نينوى (17 عملية). واستهدفت تلك العمليات كلًا من قوات الجيش العراقي، والحشد الشعبي (قوات شيعية برعاية النظام العراقي)، والحشد العشائري (قوات سنية برعاية النظام العراقي)، والبيشمركه (القوات العسكرية الكردية)، بالإضافة إلى استهداف متعاونين مع القوات الأمنية.
(يشير الشكل (1) إلى توزع عمليات تنظيم “داعش” وأعدادها في العراق خلال عام 2020)
اتبعت معظم العمليات أسلوب “حروب العصابات” التي تقوم على توظيف مجموعات صغيرة يتراوح أعدادها بين 3 – 10 أفراد، للقيام بعمليات غير مركبة، وفي هذا السياق نفذ التنظيم (485) عملية بالاعتماد على العبوات الناسفة، و(334) عملية إطلاق نيران القنص، وحوالي (252) عملية تبادل إطلاق نار، وكذلك (94) عملية تصفية أشخاص، بالإضافة إلى (257) عملية غير محددة التكتيك.
وعلى الرغم مما شهده مطلع عام 2021 من تطور نوعي في عملياته داخل الأراضي العراقية؛ إلا أن التنظيم تجنب القيام بهجمات مركبة في العراق خلال العام الماضي، إذ عمد إلى اتباع استراتيجية الاستنفار المستمر، وذلك بهدف استنفار القوات الأمنية في كل وقت ومكان عن طريق الضغط عليها بعمليات متعددة مهما كانت بسيطة. ناهيك عن اتّباعه تكتيك الحرب الاقتصادية عبر حرق عدد من آبار النفط والمحاصيل الزراعية، وتفجير أعمدة لخطوط الكهرباء الرئيسية، وذلك من أجل استهدف موارد الدولة العراقية، سعيًا إلى تقويض شرعية الحكومة الحالية.
دلالات أساسية
في ضوء ما تقدم من معطيات، هناك جُملة من الدلالات الأساسية، والتي يمكن استعراضها على النحو التالي:
أولًا: على الرغم من سعي التنظيم إلى هيكلة نهجه الإقليمي عبر نقل مركزه إلى إفريقيا، إلا أن ذلك لا يعني تخليه عن مناطق نفوذه التقليدية، إذ يوضح تصاعد النشاط الداعشي في العراق، سعي الأول إلى تعزيز وجوده في معاقله الرئيسية، وقد ظهر ذلك التوجه في خطاب التنظيم الذي صدر في 28 مايو 2020، وجاء تحت عنوان “وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار”، الذي حاول التنظيم خلاله استعراض ملامح خطواته القادمة عبر قيامه بتهديد حكومة “مصطفى الكاظمي” في العراق، متوعدًا “بمواجهة مفتوحة” مع الانسحاب الأمريكي.
ثانيًا: يُشير تصاعد النشاط الداعشي الأخير في العراق إلى نجاح التنظيم في التكيف مع الضغط العسكري الواقع عليه، ولا سيما مع إعلان الجهاز العراقي لمكافحة الإرهاب في 19 ديسمبر 2020 تنفيذه حوالي 253 عملية خلال العام الماضي، وتم خلالها إلقاء القبض على 292 عنصرًا من عناصر التنظيم، وقتل 206 آخرين، الأمر الذي يحمل في طياته مؤشرين؛ يتعلق أولهما باحتفاظ التنظيم بخلايا نائمة عمل على توظيفها في الآونة الأخيرة تمهيدًا لتصعيد وتيرة عملياته الإرهابية. وينصرف ثانيها إلى استغلاله الثغرات الأمنية وضعف الإجراءات والأساليب المتبعة من قبل القوات.
ثالثًا: تؤكد الهجمات الأخيرة التي شهدتها العاصمة العراقية توسّع جغرافيا عمل التنظيم. فبعد مرحلة سقوط الخلافة شرع التنظيم في الانتقال إلى الصحراء لإطلاق عملياته. ومع بداية عام 2018، كانت مناطق عملياته الرئيسية هي المناطق الصحراوية في محافظات الأنبار، وبابل، ونينوى، غير أن نطاق تلك الهجمات تمدد بين عامي 2019 و2020 ليشمل محافظات ديالى، وصلاح الدين، وكركوك. ثم جاءت العمليات الأخيرة في قلب بغداد لتؤكد أن التنظيم يتجه إلى مرحلة جديدة من التصعيد تتمثل في استهداف المدن.
رابعًا: استهدفت الهجمات التي قامت بها عناصر التنظيم في بغداد منطقة أغلبية سكانها تنتمي للمذهب الشيعي؛ ويمكن تفسير ذلك في ضوء محددين؛ يتعلق أولهما بتبني التنظيم أيديولوجيا قائمة على وجوب إبادة أصحاب المذهب الشيعي. وينصرف ثانيها إلى اتباعه استراتيجيه قائمة على تعزيز سياقات الطائفية في المجتمعات من أجل إيجاد مساحات يستطيع أن يتمتع خلالها بحرية الحركة والتمدد والمناورة.
خامسًا: يسعى التنظيم بالعمليات الأخيرة في العراق إلى إرسال رسائل واضحة للإدارة الأمريكية الجديدة، مفادها التأكيد على بقائه واستمراره وتطور قدراته العملياتية، خاصة في الساحة العراقية. ويمكن ملاحظة ذلك في ضوء اهتمام التنظيم بمتابعه الانتخابات الأمريكية، إذ جاءت افتتاحية العدد 268 من صحيفة “النبأ” (الصادر في 7 يناير الجاري) تحت عنوان “الحرب مع أمريكا المثقلة بالأزمات” لتشير إلى التحديات التي تواجهها الولايات المتحدة، وما يترتب عليها انشغالها بقضاياها الداخلية، ومن ثم تقليل جهودها العسكرية المتعلقة بمكافحة الإرهاب.
سادسًا: تؤكد العمليات سالفة الذكر على تبدد الآمال المتعلقة بأن يؤدي مقتل “البغدادي” إلى تقويض نشاط التنظيم، إذ نجح “أبو إبراهيم الهاشمي القرشي” على الرغم من عدم ظهوره حتى الآن، في الحصول على البيعة من أكثر من عشرين فرعًا وشبكة من المجموعات التابعة للتنظيم، الأمر الذي يمكن قراءته في ضوء الأطروحة المتعلقة بكون التنظيم قائمًا على فكرة وليس على أشخاص، ومن ثم تشير تلك المعطيات إلى أن استراتيجية “قطع الرءوس” التي اتبعتها الولايات المتحدة لم تؤتِ ثمارها، مما يتطلب تفعيل استراتيجية جديدة تعمل على علاج الأسباب لا النتائج.
مجمل القول، مثلت الأحداث التي شهدها عام 2020 فرصة لتصاعد نشاط تنظيم “داعش”، إذ استغل الأخير التداعيات المرتبطة بجائحه (كوفيد-19) وما نجم عنها من ضغط على المنظومة الصحية والأمنية للدول، وأعاد بناء هياكله في معاقل نفوذه التقليدية ولا سيما العراق، مما أسفر عن تنفيذه عمليات ناجحة في العراق خلال عام 2020، وعمليات فاتكة في مطلع عام 2021، الأمر الذي يُنذر باحتمالية عودته “كتهديد استراتيجي” للدولة العراقية، إن ظلت تلك العمليات دون رد مناسب ومواجهة حاسمة تستهدف أماكن تمركزه، وخطوط إمداده، وعناصره الإرهابية.