أثارت أزمة إشهار العقارات وفقاً للتعديل الخاص بالمادة 35 مكرر من قانون الشهر العقاري الكثير من الأسئلة حول مدى انضباط العملية التشريعية للكثير من القوانين التي اتُّخذت في البرلمان السابق، لا سيما ما يتعلق مباشرة بتنظيم حياة المواطنين وعلاقتهم بالأجهزة الحكومية، وهو أمر يستدعى حواراً مجتمعياً منتظماً وانفتاحاً على كل الأفكار والتقييمات بصدر رحب، وأن تقوم المراكز المتخصّصة كلٌّ في مجال عمله بإعادة تقييم تلك التشريعات، ووضعها أمام النواب، لينظروا في النتائج والتأثيرات التي تمس تماسك المجتمع وتحول دون انضباط العلاقة بين الحكومة والناس.
وإذا كان قرار الرئيس السيسي بوقف العمل بالتعديل المُسبّب للأزمة لمدة عامين كفترة انتقالية وتكليف الحكومة بتسهيل إجراءات الإشهار، لا سيما بالنسبة للعقود القديمة، قد أدى إلى احتواء حالة التوتر العارمة التي سادت في الأيام القليلة الماضية، فإن الأمر بحاجة إلى عدم تسرّع السادة المسئولين المعنيين بطرح أفكار أو رؤى باعتبارها شبه محسومة أو لا رجعة عنها، أو أنها الحل النهائي. فالحوار المجتمعي الذي وجّه به الرئيس السيسي، لم يبدأ بعد، والاستماع إلى أطراف المشكلة لم يبدأ بعد.
وقرار الرئيس يعنى عملياً فسحة من الوقت لكل الأطراف للتأمل في حالة المجتمع، بمن فيهم المواطنون أنفسهم وأعضاء البرلمان، والوزراء المعنيون مباشرة بعملية الإشهار وتحصيل الرسوم المقرّرة، لدراسة الأمر من جميع جوانبه، وبما يحقّق مصلحة المجتمع ككل، ويحافظ على حقوق الأفراد وحقوق الدولة وفق علاقة متوازنة لا يتغول فيها طرف على آخر.
وإذا كان بعض أعضاء البرلمان، لاسيما من تنسيقية شباب الأحزاب قد وعدوا بأن يتم عمل جلسات حوار يستمعون فيها إلى ما يطرحه الناس حول هذه المشكلة، فمن المهم أن تتّسع تلك الجلسات الحوارية وأن تمتد إلى ربوع البلاد ولا تنحصر في العاصمة فقط، وأن تُدار بحرية، وأن تُنشر على أوسع نطاق، ومن المهم أن يشارك فيها مسئولون حكوميون، ليعرفوا هموم الناس وشكاواهم في مجمل عملية الإشهار، التي يعرف الجميع أنها متعدّدة المراحل ومكلّفة للغاية وتتطلب الكثير من الأوراق والمستندات، وأن يكون الهدف هو التوصل إلى إطار عملي تترتب عليه تعديلات قانونية تُيسر حياة الناس وتحمى حقوقهم، كما تحمى حقوق الدولة.
ويمكن القول إن هذا هو الدرس الأبرز في تلك الأزمة، فغياب الحوار المجتمعي حول أي قانون يؤدى إلى أزمات وتوترات الجميع في غنى عنها. وإن أي قانون دون تشكيل وعى شعبي بشأنه، ويتم اتخاذه بليل دون شرح جوانبه التطبيقية للعموم من شأنه أن يثير حجماً هائلاً من التوتر.
ويرتبط بهذا الدرس درس آخر يتعلق بمدى وجود دراسات ميدانية فعلية تتعلق بالقضية أو المشكلة محل التشريع، سواء كان قانوناً مستحدثاً أو تعديلاً لقانون قائم.
إذ بدون تلك الدراسات الميدانية فمن المؤكد أن القانون أو التعديل سوف يكون مُعرّضاً للخلل، ولا يناسب الواقع المطلوب تقنينه.
والواضح أن التعديل الخاص بالمادة 35 مكرر، محل الأزمة الراهنة، لم تسبقه أي دراسات حول مفرداته فى الواقع، وكل ما طُرح تناول جانباً واحداً من الواقع، وهو الرغبة في فرض الإشهار وتحصيل الرسوم وزيادة موارد الدولة، دون مراعاة للوضع العرفي الذى شاركت الحكومات السابقة لعقود طويلة في انتشاره عبر السماح بإشهار التوكيلات في الشهر العقاري، التي تسمح بالبيع للغير وللنفس، مما أدى إلى انتشار الظاهرة واستفحالها، وتترتب عليها مصالح مجتمعية هائلة، ولم ينفها أحد، وكذلك الوضع بالنسبة للعقود الابتدائية التي نظمت حياة المجتمع لسنوات طويلة، والتي اعترفت بها الدولة، وأصبحت شقاً مهماً في بلورة النظام العام ويعترف بها القضاء، وتترتب عليها حقوق لا يمكن الاستغناء عنها.
ولذا كان من أسباب الأزمة تجاهل تلك العقود وعدم الاعتراف بها والتشكيك في قيمتها القانونية، بل ومعاقبة أصحابها بمنع الخدمات عنهم.
والواضح من تفسيرات السيد وزير العدل لقرار الرئيس السيسي بفترة انتقالية لا تقل عن عامين، أنها ستُخصص لحل تلك الإشكالية، تحديداً التي تتعلق بالعقود التي وصفها بالقديمة، وأن الفترة الانتقالية ستكون مخصّصة لكي يقوم أصحابها بتوفير المستندات المطلوبة للإشهار نظير مبلغ مقطوع في مقدور الناس بديلاً عن ضريبة التصرفات العقارية.
وفى هذا حل جزئي للمشكلة وليس حلاً شاملاً. حيث لم يُشر هل هي العقود الابتدائية الشائعة بين الناس، أم أنها شيء آخر، وهل ستظل الحكومة تعترف بالتوكيلات التي بُنيت عليها تلك العقود القديمة أم سيتم إنكارها؟ وهذا بدوره يتطلب المزيد من التوضيحات المبنية على دراسات وتقييمات واقعية وليست افتراضية بلا سند، حتى لا يغوص المجتمع مرة أخرى في أزمة وتوتر بلا داعٍ.
ومما قاله الناس وأثار لديهم التخوفات العميقة ما يتعلق بدورة المستندات المطلوبة والجهات الكثيرة التي تطلب رسوماً مبالغاً فيها ووقتاً طويلاً لإنهائها.
وإذا كانت هناك رغبة فعلية في تيسير حياة الناس، سواء أصحاب العقود القديمة التي لم تحدّد الحكومة بعد معناها ومدتها وكيفية التعامل معها، أو أصحاب العقود الجديدة الذين سيدفعون ضريبة التصرّفات العقارية، فمن الضروري مراجعة دورة مستندات الإشهار، ورسومها المُبالغ فيها، وإنهاء تعدّدية الجهات.
فالكثير من بسطاء المواطنين يواجهون صعوبة في معرفة تلك الدورة المستندية، والحلول المطروحة عبر مبدأ الشباك الواحد، أو المكتب الواحد، تتطلب بدورها تنسيقاً بين تلك الجهات، وتتطلب أيضاً إعداداً وتأهيلاً للعاملين في تلك المكاتب لتيسير الخدمات للمواطنين، وليس تعقيد حياتهم وإثارة الحنق على الدولة ككل.
أخيراً، المفارقة الأبرز التي أثارتها أزمة الإشهار العقاري أن الدولة بكل أجهزتها تقوم بتوفير آلاف الوحدات السكنية المجهّزة وبتكلفة رمزية لسكان المناطق العشوائية، استناداً إلى رؤية صائبة ومتكاملة بأن حق السكن المناسب والمؤهل للحياة الآمنة في ظل بيئة متكاملة هو حق أصيل من حقوق الإنسان غير القابلة للتنازل.
لكن أزمة الإشهار أظهرت جانباً معاكساً، حيث بدت وكأنها تناقض حق المواطن في الاحتفاظ بملكه وحقه في الحصول على الخدمات اليومية وحقه في سكن آمن.
مثل هذه المفارقة أظهرت ضرورة أن تتم معالجة الأمور من خلال نظرة شاملة لما يتطلع إليه المجتمع والدولة معاً، وليس من خلال أفكار جزئية متناثرة، ومن خلال رؤية توازن بين القرار أو القانون، وبين تداعياته وما قد يثيره من انعكاسات سلبية على صورة مصر وحركة مجتمعها.