في التاسع والعشرين من يوليو 2021 بدأ وزير الشئون الخارجية الجزائرية والجالية الوطنية بالخارج “رمطان لعمامرة” زيارة لكلٍ من إثيوبيا والسودان ومصر، والتي جاءت بالتزامن مع وضع معقد للعلاقات بين الدول الثلاث في ضوء تعثر مفاوضات ملف سد النهضة، والتوتر المتزايد للعلاقات الإثيوبية السودانية على خلفية النزاع الحدودي في منطقة الفشقة.
متغيرات إفريقية مهمة
بالنظر لجولة وزير الخارجية الجزائري، التي تُعتبر الأولى من نوعها لمحيط الجزائر الإفريقي، يتضح أنها تأتي في ظل متغيرات إقليمية متعددة تتمثل في الآتي:
- تأزم ملف سد النهضة والعلاقات بين السودان وإثيوبيا: حيث شهد ملف سد النهضة حالة تأزم غير مسبوقة على خلفية التعنت الإثيوبي، والإجراءات الأحادية التي لطالما اعتادت على اتخاذها في هذا الملف دون النظر لمصالح وشواغل دولتي المصب، وما أفضى إليه هذا الأمر من توقف وشل تام لعملية التفاوض بعد فشل جولة كينشاسا في أبريل 2021، وتدويل الملف على مستوى مجلس الأمن. ولا يمكن تجاهل تأثير الاضطرابات الأمنية واسعة النطاق داخل إثيوبيا، والنزاع المسلح مع جبهة تحرير التيجراي، فضلًا عن تجدد النزاع الحدودي بين أديس أبابا والخرطوم والذي يُنذر بصورة كبيرة بالمزيد من التأثيرات السلبية على الأمن والسلم الإقليميين وتزج بالمنطقة إلى تجاذبات تؤثر على استقرارها.
- انخراط متسارع لإسرائيل في العمق الإفريقي: جاءت زيارة وزير الخارجية الجزائري بعد أيام معدودة من إعلان الاتحاد الإفريقي قبوله عضوية إسرائيل بصفة مراقب، وهي الخطوة التي كانت الخارجية الجزائرية من أهم معارضيها. وتأتي التحفظات الجزائرية على خلفية علاقاتها المتوترة مع المغرب، حيث بادرت الجزائر بالإعلان عن رفضها القاطع للتحرك المغربي للتطبيع مع إسرائيل في ظل ما تتبناه الجزائر من موقف حاسم تجاه مساندة القضية الفلسطينية. على هذا شهدت زيارة رمطان لعمامرة للعاصمة الإثيوبية أديس أبابا (مقر الاتحاد الإفريقي) عقد لقاء جمعه مع نائبة رئيس مفوضية الاتحاد.
- الملف الليبي وتغيّر المعادلة: على خلفية التطورات السياسية التي باتت تشهدها ليبيا، وفي ظل التراجع النسبي للدور الجزائري في الملف الليبي بسبب انشغالها بأزماتها الداخلية، تستهدف الجزائر الحفاظ على موقع مؤثر من الترتيبات والتفاهمات المستقبلية الليبية، خاصة وأن طرابلس بصدد عقد انتخابات رئاسية نهاية العام الجاري. وفي ظل الخلاف المستمر بين الجزائر والمغرب في ملفات إقليمية متعددة من بينها الملف الليبي، ترتبط فرص التنسيق الإقليمي لسياسة الجزائر الخارجية تجاه ليبيا في إحراز تقدم ملموس في التنسيق مع مصر بشأن مستقبل الأوضاع في ليبيا.
- الصحراء الغربية وتبدل المواقف: أحد المتغيرات الأخرى التي باتت تؤثر على صانع القرار الجزائري هو حالة التغيير المستمرة لملف الصحراء الغربية، خاصة في ظل تزايد أعداد الدول الإفريقية المؤيدة للطرح المغربي والذي تعارضه الجزائر تقليديًا بصورة كاملة.
منطلقات الاشتباك الجزائري مع ملف سد النهضة
يمكن القول إن زيارة وزير الخارجية الجزائري تأتي ضمن وساطة لحل أزمة سد النهضة، وحلحلة المفاوضات وتحريكها بما يحقق تطلعات الدول الثلاث، علاوة على الرغبة في نزع فتيل التوترات الحدودية بين كل من الخرطوم وأديس أبابا، والعمل عبر الجهود الدبلوماسية من أجل إيجاد نافذة للحوار والتفاوض مرة أخرى حول ملف سد النهضة. ومن وجهة النظر الجزائرية، تتجاوز أهمية هذه الزيارة محطاتها الثلاث، حيث تتصل بالتصورات الكبرى التي تتبناها الجزائر تجاه محيطها العربي والإفريقي.
فأحد الأهداف الإثيوبية وراء تلك الزيارة هو إعادة تقديم الجزائر كوسيط إقليمي فعال داخل أروقة جامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي كذلك. خاصة وأن أديس أبابا قد انتقدت الدور التونسي في الأزمة بعدما جاء الموقف التونسي متزنًا حول المطالب المصرية والسودانية، وبرز ذلك فيما قدمته من مشروع قرار لمجلس الأمن خلال جلسته التي انعقدت مطلع يوليو 2021، لذا تقدم المبادرة الجزائرية نفسها كبديل توافقي قابل لبناء إجماع عليه، حتى قبل أن يتم الكشف عن بنودها تفصيلًا.
وتسعى الجزائر للاستفادة من دورها النشط تقليديًا داخل منظمة الوحدة الإفريقية، ومن بُعدها في الاتحاد الإفريقي، خاصة بعد انتخابها عضوًا داخل مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد لمدة ثلاث سنوات (2019-2022) ممثلًا لدول شمال إفريقيا. فلا يمكن إغفال الدور الذي قامت به الجزائر في حل النزاع الإثيوبي-الإريتري، ونجاح وساطتها في حل ذلك النزاع، وتوقيع اتفاق سلام بينهما مطلع عام 2000.
وانطلاقًا من كون أجندة التباحث مع مسئولي تلك الدول سيطر عليها بصورة كبيرة ملف سد النهضة؛ فمن المحتمل أن تلعب الجزائر دور الوسيط خلال الفترة القادمة في هذا الملف عبر فتح آفاق ونافذة للتفاوض، خاصة وأن الجزائر على مدار السنوات الماضية لم تُبدِ انحيازًا مُطلقًا لأي من أطراف الصراع، علاوةً على ما تقدمه اللحظة الحالية من فرصة بعد فشل “أديس أبابا” في تخزين كمية المياه المستهدفة في المرحلة الثانية للملء والراجع لعدم إنجاز وتعلية الممر الأوسط للسد. بهذا تأتي الجولة التي أجراها “لعمامرة” في إطار تفعيل استراتيجية “الحلول الإفريقية للقضايا الإفريقية” والتي تحظى من حيث المبدأ بتأييد إفريقي ودولي كبير.ختامًا، تسعى الجزائر للعودة لمكانتها الإقليمية الإفريقية والعربية عبر الانخراط المتسارع في القضايا العالقة لدول القارة، وعلى رأسها “سد النهضة”، للحيلولة دون تفاقم الصراعات في الإقليم وبما يحفظ الأمن والسلم الإقليميين. وبعيدًا عن الرؤية الخاصة بتلك القضية، تأتي جولة وزير الخارجية لتبرهن مساعي الجزائر لتحقيق مكاسب متعددة سياسية واقتصادية عبر استغلال حالة الفراغ الجيواستراتيجي، ولعل نجاح الجزائر في التوسط لحل تلك القضية يتوقف على مدى القدرة الجزائرية على إقناع الطرف الإثيوبي في إبداء مرونة على طاولة التفاوض وصولًا لتفاهمات مشتركة لأطراف الأزمة.