كشفت فرنسا مؤخراً عن نيتها تغيير أدوات نفوذها فى أفريقيا، أو هكذا بدا الأمر منذ عقد القمة الافتراضية التى ترأسها إيمانويل ماكرون مع زعماء دول الساحل فى 9 يوليو الماضى، حينها بدا لهؤلاء القادة أن باريس أخيراً أفصحت عن خارطة الطريق لانسحابها من منطقة الساحل الأفريقى، التى ظلت لعقود تمثل أبرز مناطق النفوذ الفرنسى على مستوى العالم. وإن حاول الرئيس الفرنسى خلال تلك القمة الاستثنائية أن يخفف من وقع هذا الخروج؛ بوصفه مجرد «انسحاب محدود» مكانياً وعددياً، يهدف إلى تخفيف الأعباء المالية والخسائر البشرية دون التخلى عن متطلبات الاحتفاظ بالنفوذ فى المنطقة.
لكن فى طيات تلك الخريطة كان هناك عديد من التفاصيل والإشارات تتجاوز فى دلالاتها، عمومية الحديث عن مجرد تخفيف الأعباء وتقليص الخسائر. ففى الفصل الذى سبق هذه القمة استبق الجنرال محمد ديبى رئيس المجلس العسكرى الحاكم فى تشاد، انعقادها، بزيارة سريعة إلى باريس للقاء «ماكرون» فى جلسة استغرقت ساعة واحدة، استمع خلالها إلى استعراض لاستراتيجية فرنسا الجديدة فى المنطقة، لكن الأهم أن حاكم تشاد الجديد عبّر فيها عن تحفظ وامتعاض كبيرين من الاستفزازات الروسية لبلاده، عقب توغل جنود من جمهورية أفريقيا الوسطى فى الأراضى التشادية واشتباكهم مع قواته.
فى هذا إشارة إلى حجم النفوذ والوجود الروسى على تخوم منطقة الساحل، وهى من المعضلات التى صار على باريس مواجهتها أو على الأقل دعم حلفائها ليمثلوا حائط صد فى حال تنامى هذا التوغل الروسى، وهو بالفعل مرشح لذلك بصورة كبيرة وفق معطيات تتجاوز أفريقيا الوسطى. ما أثار قلق الجنرال التشادى الجديد أن سمعته وخبرته العسكرية وشبكة علاقاته الواسعة، التى اكتسبها خلال توليه منصب «القائد المساعد» للقوات المسلحة التشادية فى مالى، حيث شاركت الأخيرة كقوة رئيسية فى «عملية برخان» العسكرية التى استهدفت محاربة الإرهاب والجماعات المسلحة غير الشرعية، صارت جزءاً من التاريخ بعد أن أعلنت باريس فى قمة يوليو انتهاء هذه العملية، التى تشارك فيها مع القوات الفرنسية فضلاً عن قوات تشاد وحدات وكتائب لعدد من بلدان الساحل الأخرى.
وهذه تعد إشارة أخرى ذات دلالة؛ خاصة أن خطوة من هذا النوع تتخذ تزامناً مع ما تشهده المنطقة من تنامٍ غير خافٍ لمهددات جديدة ومتنوعة. العملية العسكرية التى ظلت لسنوات تحافظ على توازن معقول، وتنسق مع القوات الأمريكية «أفريكوم» لتضييق المساحات أمام حركة التنظيمات ونشاط الإرهاب، تواجه اليوم غلقاً للقواعد العسكرية الفرنسية فى «كيدال» و«تومبوكتو» و«تيسالى» بشمال مالى، وتقليص عدد القوات الفرنسية من (5100 جندى) إلى نحو 2000 عنصر ما بين عسكرى واستخباراتى، على أن يتم ذلك خلال الفترة بين النصف الثانى من 2021 إلى بداية 2022. ووفق المعلن من باريس أن قوة الـ«2000 عنصر» لن ينخرطوا فى أعمال عسكرية، إلا فى حال جرى الاتفاق على عملية عسكرية بديلة تتشارك فيها الدول الأوروبية والولايات المتحدة، لمنع انزلاق المنطقة لاختلال أمنى لصالح الجماعات المسلحة والتنظيمات الإرهابية. فقد تكبدت فرنسا منفردة 8 مليارات يورو فى معركتها بالساحل، وبالنظر إلى النتائج فهذا أمر وفق رؤية الرئيس ماكرون يحتاج لمراجعة حاسمة.
فى جانب آخر، ترى باريس أن تعديل انخراطها على الأرض فى تلك المنطقة السائلة أمنياً، ربما يحقق لها أوضاعاً أفضل وفق ما اكتسبته من خبرات بديلة بعد التعاون المثمر مع قوات «الأفريكوم» الأمريكية، وتضرب مثالاً حديثاً عن ذلك بعملية ملاحقة وقتل «أبو وليد الصحراوى» بمعرفة القوات الفرنسية، التى ما زالت قائمة وتنفذ بعضاً من العمليات النوعية ذات الجهد الاستخباراتى الأبرز. وتكفى هنا تغريدة «ماكرون» على تويتر فى إعلانه عن العملية، كى تكشف رؤية مجمل المشهد من زاوية فرنسية حين كتب: «الأمة تفكر هذا المساء بكل أبطالها، الذين ماتوا من أجل فرنسا فى منطقة الساحل فى عمليتى سرفال وبرخان، وبالعائلات المكلومة وبجميع جرحاها.
تضحيتهم لم تذهب سدى. مع شركائنا الأفارقة والأوروبيين والأمريكيين سنواصل هذه المعركة». وهى فعلياً معبرة بشكل واضح عن مكونات مسرح العمليات، فضلاً عن من يقفون فيه، بعد مقتل قيادى إرهابى بارز بوزن الصحراوى بواسطة مسيرة فرنسية قامت بقصفه عن بعد، أثناء تحركه على دراجة نارية صحبة أحد مرافقيه بعد التأكد عبر وحدات الاستخبار الموجودة بالقرب من المكان، التى أكدت شخصيته ونجحت فى تمرير المعلومة للقوة العسكرية التى حركت المسيرة التى قامت باغتياله. وينظر للعملية باعتبارها نجاحاً كبيراً للفرنسيين بحسب ما وصفتها «فلورانس بارلى» وزيرة الجيوش الفرنسية، على اعتبار أنها عملية انتقامية وتصفية حساب قديم مع الصحراوى الذى له باع طويل فى المنطقة، إذ شارك فى القتال بشمال مالى سنة 2012 عندما كان فى تحالف مع تنظيم «القاعدة فى المغرب الإسلامى» قبل أن ينضم إلى جماعة «مختار بلمختار» ليؤسس معه تنظيم «المرابطون» فى منطقة الساحل. وخلال سنوات انخراطه فى النشاط الإرهابى المسلح ما بين «القاعدة» و«داعش»، كان المسئول عن مقتل أول جندى فرنسى على يد تنظيم «المرابطون» فى نوفمبر 2013، قبل أن يدبر ويتبنى عملية اصطدام مروحيتين فرنسيتين فى نوفمبر 2019، والتى راح ضحيتها 13 جندياً فرنسياً هم من عزَّى ماكرون أسرهم فى تغريدته الشهيرة مؤخراً.
لكن مع كل هذا، تدرك فرنسا أكثر من غيرها أن هذه المنطقة قادرة على إنتاج عشرات من نموذج «أبو وليد الصحراوى» طوال الوقت، ولن تكف عن إنتاجهم طوال المستقبل القريب على الأقل. لهذا يظل الأهم هو الإدراك الفرنسى الصامت بأن خرائط الساحل ورمالها تتحرك بقوة من تحت أقدامها، بعض الرياح قادمة بالفعل الروسى والصينى ومؤخراً التركى، وأخرى بفعل التنظيمات والمكونات المسلحة التى تعاظمت بأكثر مما يمكن ترويضها، للحد الذى صار لها تداخل ملحوظ فى الشأن السياسى لدول هذه المنطقة، فكيف ستتصرف فرنسا أمام مشهد معقد على هذا النحو.. نتناول ذلك فى الأسبوع القادم بمشيئة الله.