ثمة رهان على أن تشكل الجولة التي تستضيفها القاهرة الأسبوع الجاري، والمخصصة للمسار الدستوري، والتي ستجمع وفدي مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة؛ فرصة جديدة للتسوية العالقة حول القاعدة الدستورية، منذ إقرار البرلمان التعديل الدستوري الثاني عشر (10 فبراير 2022) والذي تضمن خريطة طريق انتقالية جديدة بعد فشل إنجاز الاستحقاق الانتخابي في 24 ديسمبر 2021، وقد استبق رئيس البرلمان عقيله الاجتماع بتشكيل لجنة من 12 برلمانيًا لمراجعة المواد والنقاط الخلافية في مشروع الدستور وإجراء التعديلات اللازمة، فيما سيعرض مجلس الدولة رؤيته للقاعدة الدستورية، حتى يتمكن الطرفان من التوصل إلى حل توافقي ينهي حالة الانسداد السياسي الراهن في المشهد الليبي. فمن شأن هذه الخطوة أن تضع حدًا للمبادرات المتعددة التي تعلن عنها الأطراف الليبية، إضافة إلى مبادرة المستشارة الأممية ستيفاني وليامز.
تفاؤل حذر
ويمكن القول إن هناك تفاؤلًا حذرًا بشأن هذه الخطوة، فلقاء القاهرة سيكون الأول من نوعه بين فريقي المجلسين، وهو ما يشكل بدوره خطوة إيجابية على طريق حلحلة التباين في الرؤى بين الفريقين، فإنجاز تلك الخطوة يتطلب التخلي عن المواقف الاستباقية وبناء الثقة، بالإضافة إلى أهمية توافر الخبرة الفنية اللازمة التي تتطلبها عملية وضع القاعدة الدستورية بشكل عام. وعلى الأرجح تساهم رعاية القاهرة لهذا الحوار في محاولة تقريب وجهات النظر ما بين الطرفين، لا سيما وأن هناك سابقة في لقاءات الغردقة بشأن المسار ذاته الصيف الماضي، يمكن البناء عليها في تطوير المباحثات وصولًا إلى مرحلة النتائج المرجوة بالانتهاء من هذه الخطوة، ووضع الآليات التنفيذية والجدول الزمني لها.
تحديات عديدة
يتجه المشهد الليبي بشكل عام إلى حالةٍ من التوتر يُخشى معها خروج الموقف عن السيطرة، في ظل استمرار بقاء حكومة الوحدة في المشهد ورغبتها في عدم تسليم السلطة إلى حكومة فتحي باشاغا المكلفة من البرلمان، فيما لا تزال الأخيرة تواصل سياسة ضبط النفس وعدم التصعيد، يزيد من صعوبة هذا الوضع تعليق فريق القيادة العامة في اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) مشاركته في عمل اللجنة (10 أبريل 2022) بدعوى استمرار تجاوزات حكومة الوحدة، كما طالب الفريق بإيقاف تصدير النفط، وإغلاق الطريق الساحلي، محملين “الدبيبة” شخصيًا المسئولية عن الوصول إلى تلك النقطة على خلفية سياساته بشكل عام. ومن المتصور أن الاستجابة لهذه المطالب سيعيد المشهد الليبي إلى نقطة الصفر، بل قد يُشكل تهديدًا لحالة الاستقرار الأمني التي تشهدها ليبيا منذ التوصل لوقف إطلاق النار (أكتوبر 2020).
على هذا النحو، من المتصور أن إذابة الجليد بين مجلسي النواب والدولة، وإنجاز القاعدة الدستورية؛ سيشكل اختراقًا نوعيًا في المشهد الليبي بشكل عام وليس فقط ما يتعلق بحالة الانسداد السياسي، فالمشهد الليبي بحاجةٍ إلى إنجاز يساهم في تبريد الأجواء ويُثبت المبدأ الأساسي الذي تؤكد عليه القاهرة، وهو أن الحوار السياسي يظل الوسيلة الأفضل لكافة الأطراف وفي صالح ليبيا التي تعاني جراء حالة الانسداد بسبب ممارسات النخبة السياسية الليبية. فقد أكدت القاعدة الشعبية الليبية رغبتها في الاستقرار والاحتكام إلى صناديق الانتخابات بدلًا من اللجوء إلى صناديق البارود. وقد أهدرت فرصة الانتخابات الليبية، لكن لا يُعتقد أن النخبة الليبية تمتلك ترف إطالة الوقت وإهدار المزيد من الفرص، مما يتطلب تقديم الأطراف لتنازلات تسمح بالوصول إلى نقطة توافق لحلحلة الانسداد السياسي.
ثمة تحدٍّ آخر يتمثّل في الضغوط الخارجية التي تمارس على الليبيين بشأن الإسراع في إجراء الانتخابات، وهنا يجب التفرقة بين تقديم النصائح والخبرات الدولية ودعم الليبيين في إنهاء المرحلة الانتقالية، وبين ممارسة الضغوط عليهم لإتمام عملية الانتخابات كإجراء شكلي، ربما يعيد المشهد الليبي إلى السيناريو الأسوأ مرة أخرى، بينما يفترض أن تؤدي الانتخابات إلى حالة الاستقرار، مما يتطلب إنضاج عملية سياسية توافقية في إطار هندسة وطنية بدون تدخلات أو ضغوط خارجية، مع الوضع في الاعتبار أن هندسة خريطة الطريق هي مسألة حصرية للقوى الوطنية الليبية، وليست من شأن القوى الخارجية، وهو ما يلفت الانتباه بالتعبية إلى أن مبادرة المستشارة الأممية لا تستند إلى هذا المبدأ، بل تشكل مصادرة لحق الليبيين في تقرير مصيرهم السياسي، بينما يتوقف دور البعثة الأممية عند حدود تقديم الدعم الممكن للأطراف الليبية. وبالتالي يتعين على القوى الخارجية أيضًا الاستفادة من التجربة السابقة، لا سيما وأن خلفية تلك الضغوط تتعلق بالمطالب الغربية باستقرار صادرات النفط الليبي، بل وزيادتها بسبب تداعيات الأزمة الأوكرانية، وهي مطالب ستتضاعف في المدى الزمني القريب. لكن ما يُمكن أن تقود إليه هذه الضغوط قد يُشكل ارتدادات عكسية لن تكون في صالح الأطراف المحلية والخارجية على حد سواء، كما يعكس بالتبعية شبهة مصالح خارجية في المقام الأول دون الوضع في الاعتبار المصالح الوطنية الليبية.
حدود الرهان على فرصة المسار الدستوري
ربما يكون لقاء القاهرة هو الفرصة الأخيرة لوضع القاعدة الدستورية وفقًا لإطار الاتفاق السياسي الليبي، لكن لا يشترط أن تكون آخر المطاف إذا ما تعثرت ولم تتمكن الأطراف من إنجازها، فقد سبق دعوة القاهرة لوفدي المجلسين زيارة لرئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي عول عليها في حل الانسداد السياسي بشكل عام، وأشير في أكثر من مناسبة إلى صلاحية المجلس الرئاسي في إصدار مرسوم بالقاعدة الدستورية، لكن يبدو أن القاهرة دفعت باتجاه منح الأطراف فرصة جديدة قبيل الوصول إلى هذه المرحلة واضطرار الرئاسي لفرض القاعدة الدستورية لإنقاذ العملية السياسية وإنهاء الاحتقانات التي يخلفها هذا الانسداد، وبالتالي يتعين على الطرفين استثمار فرصة لقاء القاهرة في وضع القاعدة الدستورية، من أجل التمهيد لاستكمال باقي الاستحقاقات الأخرى، وفي المقدمة منها الاستفتاء على القاعدة الدستورية، والاحتكام للقاعدة الناخبة في حسم أمر هذه الإشكالية باعتبارها صاحبة الحق في هذا الصدد.
في الأخير؛ يمكن القول إن عملية إنجاز القاعدة الدستورية قد تشكل تكتيكيًا خطوة نحو تسوية أحد التعقيدات التي تشهدها الأزمة الليبية، ومن شأنها أيضًا أن تخفف الضغوط والتوتر بشأن باقي الملفات العالقة في المشهد الليبي. فلم تعد الأزمة الليبية بحاجة إلى المزيد من الأعباء أو الفشل السياسي، وعليه يتعين على الأطراف الليبية بشكل عام التخلي عن ذهنية تصلب المواقف واحتكار مشروعية القرار السياسي بشكل منفرد، خاصة في القضايا المصيرية التي يتوقف عليها مستقبل البلاد، والتخلي عن تقديم المشروعات الخاصة على حساب المشروع الوطني المتمثل في استعادة عافية الدولة الليبية التي أُنهكت على مدار أكثر من عقد في المعارك المسلحة ومعارك التسويات السياسية التي لا تفضي محصلاتها إلى نتائج ملموسة بقدر ما تُفضي إلى ارتدادات عكسية تعمق الأزمة الممتدة.