شهد الشارع العراقي احتجاجات متصاعدة على مدار الأسابيع الماضية مدفوعًا بتراجع سعر صرف الدينار العراقي، واتساع الهوة بين سعر الصرف الرسمي ونظيره المتداول في السوق السوداء، الأمر الذي يصبّ المزيد من الوقود على أسعار السلع الأساسية نظرًا لاعتماد البلاد على العالم الخارجي في تأمين تلك السلع، مما قد يرفع من معدلات التضخم المحلية، ويزيد تآكل القوة الشرائية للمواطنين.
أسباب ومحركات الأزمة
تضافرت العديد من الأسباب والعوامل الاقتصادية والسياسية لتفاقم أزمة الدولار في العراق، لا سيما مع فرض البنك الفيدرالي الأمريكي إجراءات مشدّدة بالتعاون مع نظيره العراقي بهدف التدقيق على التعاملات الدولارية لمكافحة تهريب العملة.
• تضييق أمريكي: تستطيع الولايات المتحدة مراقبة عملية تدفق الدولار إلى العراق منذ عام 2003 انطلاقًا من خضوع البلاد للعقوبات الدولية، حيث يقوم البنك المركزي العراقي بشراء العملات الأجنبية التي حصلت عليها وزارة المالية عقب تصدير النفط للخارج ومن ثم يودعها في حسابه لدى الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ليطرحها عقب ذلك للبيع بسعر الصرف الرسمي إلى البنوك والمصارف التجارية ومحلات الصرافة من أجل تقديمها في الأخير إلى الشركات المختلفة من أجل استخدامها في استيراد السلع الأساسية. وقد أسفر هذا النظام عن تنامي الأنشطة غير القانونية من أجل استغلاله وذلك من خلال تزوير فواتير الاستيراد أو تضخيمها من أجل الحصول على الدولار بالسعر الرسمي، وتحويل مبالغ ضخمة من العملات الأجنبية إلى خارج البلاد بما في ذلك إيران وسوريا.
ولمواجهة هذا السلوك، بدأ فريق من البنك الفيدرالي الأمريكي بإجراء تحقيقات مكثفة مستمرة منذ 6 أشهر لمراقبة حركة التحويلات الخارجة من العراق، مما أدى إلى فرض قواعد جديدة صارمة تتطلب من البنك المركزي العراقي تجميع معلومات وافية عن أي كيان يسعى لشراء دولارات من المصرف المركزي بحيث تتضمن تلك المعلومات حجم التحويلات المالية والمستفيدين منها، والحساب النهائي الذي ينتقل إليه، فضلًا عن إدراج أربعة بنوك يشتبه في قيامها بغسيل الأموال على القائمة السوداء. ويكمن الهدف الباطني من تلك الإجراءات في تأكيد الامتثال للعقوبات الأمريكية والدولية والحد من قدرة طهران على استغلال السوق العراقية لتجاوز العقوبات المفروضة عليها.
واتصالًا بذلك، نتج عن تلك القيود رفض معظم طلبات تحويل الأموال من حسابات العراق في الولايات المتحدة، مما أدى إلى تراجع المعروض الدولاري المتاح في السوق العراقية، وارتفاع قيمة الدولار في السوق الموازية نظرًا لعدم قدرة البنك المركزي على تلبية الطلب على الدولار وانطلاقًا من اختيار العديد من المؤسسات العراقية عدم شراء الدولار من البنك المركزي نتيجة تشديد الضوابط المفروضة على هذه المعاملات.
• تهريب العملات الأجنبية: يعاني العراق –كما ذكرنا سلفًا- من ظاهرة تهريب الأموال إلى جيرانها مما يفاقم من أزمة المعروض من الدولار حيث أعلن جهاز المخابرات الوطني العراقي عن ضبط أكثر من مليون دولار من عصابات الجريمة المنظمة بهدف تهريب الأموال، كما اعترف رئيس الوزراء العراقي بحدوث حالات تهريب للعملات الأجنبية تم كشفها بعد تطبيق التنظيمات التي ترعى التحويلات المالية.
وبالإضافة إلى ما سبق، شهد العراق ما يعرف بـ “سرقة القرن” التي تمثلت في سرقة أكثر من مليارين ونصف مليار دولار من أموال هيئة الضرائب العراقية، والتي كشفت أيضًا عن شبكة واسعة من رجال الأعمال والسياسيين والمسؤولين الحكوميين، مما يدلل على استشراء الفساد في البلاد.
• اقتصاد ريعي: يعتمد الاقتصاد العراقي بشكل شبه كامل على قطاع النفط الذي سجلت عائداته أكثر من 99% من إجمالي صادرات البلاد على مدى العقد الماضي، ونحو 85% من ميزانية الحكومة، وحوالي 42% من الناتج المحلي الإجمالي. وفي ظل غياب أي مورد آخر غير النفط لتأمين حاجات البلاد من العملات الأجنبية ومع غياب الأنشطة الاقتصادية الحقيقية، فإن اقتصاد العراق أصبح عرضة لتذبذبات أسعار النفط التي تعتبر من أهم أسباب حدوث الأزمة الاقتصادية والمالية في البلاد.
وقد أبرزت التوترات الجيوسياسية بين روسيا وأوكرانيا مخاطر الاعتماد على مصدر وحيد للإيرادات، ففي حين أنه كان من المتوقع أن يساهم ارتفاع أسعار النفط في تحسين التوازن المالي في العراق، إلا أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية وتعطيل الواردات الزراعية فاقم من حدة الأزمات الاقتصادية، كما شكلت الحرب أيضًا مخاطر على إنتاج النفط الخام العراقي إذا تأثرت عمليات شركات النفط الروسية في العراق بالعقوبات الدولية المفروضة على موسكو. وكان صندوق النقد الدولي قد أكد أن ضعف المؤسسات والحوكمة في العراق أثر على قدرته على استخدام موارد النفط بكفاءة، فضلًا عن إعاقة قدرة الحكومة على توفير خدمات عامة مناسبة، محذرًا من خطورة الاعتماد المفرط على الموارد النفطية في عالم بدأ يتجه بعيدًا عن الوقود الأحفوري لمكافحة التغيرات المناخية.
انعكاسات مقلقة
ساهمت جميع الأسباب السابقة في حدوث بعض التداعيات السلبية التي أثقلت عبء المواطن العراقي بشكل أساسي، وهو ما يمكن تلخيصه على النحو التالي:
• موجة تضخمية: يسفر تراجع سعر الصرف في دولة تعتمد على الاستيراد بشكل أساسي في توفير السلع والمنتجات الغذائية عن ارتفاع حاد في فاتورة الواردات مما يؤثر على ميزان المدفوعات ويستنزف المزيد من الاحتياطي النقدي للعملات الأجنبية، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم المحلية انطلاقًا من مبدأ التضخم المستورد مما يصب في نهاية المطاف في تراجع القدرة الشرائية للمواطن العراقي، وتزايد نسبة الفقر في البلاد. ورغم عدم ارتفاع معدل التضخم إلى نسب مقلقة حتى الآن إلا أن التوقعات تشير إلى احتمالية حدوث ذلك الأمر في الشهور المقبلة؛ إذ ارتفع معدل التضخم في العراق خلال شهر سبتمبر 2020 بنسبة 0.2% على أساس شهري، فيما صعد التضخم السنوي إلى 5.3% مدفوعًا بارتفاع أسعار الغذاء والمشروبات غير الكحولية.
• احتجاجات واسعة النطاق: تمثل أزمة انهيار سعر الصرف تحدٍ أمام حكومة السوداني التي أكدت وقت توليها على الحاجة إلى تبنّي مسار جديد للإصلاح الاقتصادي عبر اعتماد صندوق العراق للتنمية، ومن الممكن أن يستغل التيار الصدري تفاقم الأزمة لتأليب الشارع العراقي ضد الحكومة الحالية عن طريق اتهامها بالفشل في معالجة الازمة الاقتصادية والمطالبة باستقالتها وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة مما يدخل البلاد في دائرة جديدة من الفوضى والاضطرابات السياسية، وذلك على الرغم من تأكيدات البنك المركزي أنّ ارتفاع الدولار فوق سعره الرسمي ليس أكثر من ناتج مؤقت للتغييرات في نافذة بيع العملة وسيزول بفعل التكيف مع الإجراءات الجديدة،
• قرارات متتالية: في ضوء الأزمات السابقة، اتخذ رئيس الحكومة العراقية جملة من القرارات الهادفة لاحتواء الأزمة وتخفيف السخط الشعبي، ومن بين تلك القرارات؛ إلقاء القبض على عدد من تجار العملة بتهمة المضاربة، كما صادق مجلس الوزراء العراقي على قرار مجلس إدارة البنك المركزي العراقي بتعديل سعر صرف الدولار مقابل الدينار، بما يعادل 1300 دينار للدولار الواحد بدلا من 1470 دينارًا، كما أعلن البنك المركزي استعداده لتلبية جميع الطلبات المشروعة للأفراد والشركات والمشاريع والمكاتب لتحقيق هدف البنك في استقرار المستوى العام للأسعار لحماية القوة الشرائية للمواطنين ولا سيما أن سعر الصرف الجديد الممنوح للتجار وغيرهم يتيح أسعارًا أقل للمواطنين. وبحلول الثالث والعشرين من يناير 2023، تم الإعلان عن قبول استقالة محافظ البنك المركزي “مصطفى غالب” وتعيين المحافظ السابق “على العلاق” محافظًا بالوكالة، كما شملت الإجراءات إحالة مدير المصرف العراقي للتجارة إلى التقاعد، وتعيين “بلال الحمداني” خلفًا له.
وعلاوةً على ما سبق، قرر “السوداني” فتح نافذة جديدة لبيع العملة عبر المصرف العراقي للتجارة لتتولى بيع العملة لصغار التجار، كما إنه أرسل وزير الخارجية العراقي “فؤاد حسين” في زيارة إلى العاصمة الأمريكية واشنطن من أجل إجراء مباحثات حول أزمة تراجع قيمة الدينار العراقي، والحد من تهريب الدولارات إلى النظام السوري وإيران، ومكافحة الفساد وغسيل الأموال فضلًا عن التعاون العسكري والأمني.
في الختام، يمكن القول إن أزمة الدولار في العراق ليست وليدة الوقت الحاضر، بل إنها تعود إلى الغزو الأمريكي للبلاد، ولكنها تفاقمت بنهاية العام الماضي نظرًا للإجراءات التدقيقية التي فرضتها الولايات المتحدة على حركة العملات الأجنبية لدى البنك المركزي العراقي بهدف محاربة غسيل الأموال، ووقف تهريب العملات إلى الدول المجاورة الخاضعة للعقوبات الأمريكية.