انعقدت الدورة الكاملة الثالثة للجنة المركزية العشرين للحزب الشيوعي الصيني ببكين في الفترة ما بين يومي 15 و18 يوليو 2024، والتي أكدت على أهمية التمسك بأفكار الرئيس “شي جين بينج” حول الاشتراكية ذات الخصائص الصينية من أجل تعزيز وتعميق الإصلاح على نحو شامل، ودفع عجلة تحديث نظام حوكمة الدولة.
وفي هذا الشأن، تستهدف الدراسة الآتية استعراض التطور التاريخي لمفهوم “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية” من الناحية النظرية، مع دراسة كيفية مساهمتها في تحول الصين إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم من خلال استعراض أهم مؤشرات الصين الاقتصادية والاجتماعية، والوقوف على أبرز التحديات الماثلة أمام بكين في الوقت الحالي.
أولًا- ماهية الاشتراكية ذات الخصائص الصينية:
يعتمد الاقتصاد الصيني على هيمنة الحزب الشيوعي الصيني على مكامن الاقتصاد الوطني منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية في عام 1949، حيث يزعم الحزب أن الاقتصاد المخطط مركزيًا مع السيطرة على عوامل الإنتاج وتحديد المنتجات التي يتم تصنيعها، وبأي كميات يتم تصنيعها، وبأي أسعار يتم بيعها هو الخيار الأفضل للمجتمع الصيني آنذاك.
ولهذا فقد اتسمت فترة حكم “ماو تسي تونج” حتى وفاته عام 1976 باقتصاد شيوعي صارم مع عدم السماح بوجود ملكية خاصة، إلا أن الوضع قد تغير قليلًا مع تولي “دينج شياو بينج” مقاليد الحكم خلال الفترة (1978-1989) حيث بدأ في فتح الاقتصاد تدريجيًا مع تحرير الأسعار، ونجح في صياغة مفهوم “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية”، من خلال إضفاء الطابع الصيني على الأفكار الماركسية اللينينية والتكيف مع الظروف الاجتماعية والاقتصادية المُعاصرة في الصين، بهدف إعادة تعريف العلاقات بين الاشتراكية والاقتصاد المُخطط وبين الرأسمالية واقتصاد السوق، ولهذا حاولت البلاد في ذلك الوقت الحفاظ على القيم الاشتراكية والمؤسسات المملوكة للدولة مع الاستفادة من الخبرة الغربية في إدارة الأسواق. ولهذا، ففي عام 1977، أعلن “دينج شياو بينج” عن إطلاق خطط لتحديث القطاع الصناعي، والقطاع الزراعي، والقطاع العسكري، ومنظومة العلوم والتكنولوجيا، حتى أصبحت عملية تطوير تلك القطاعات أحد المكونات الأساسية لسياسة الإصلاح والانفتاح في الصين.
ولتحقيق هذا الهدف أطلق الحزب الشيوعي الصيني خطة تستهدف تعبئة وتمكين القوى المنتجة في المجتمع، مع تأسيس العديد من الشركات التي تعود ملكيتها للدولة من أجل تعزيز التنمية الاقتصادية، وتحقيق الإصلاح والانفتاح التدريجي على العالم الخارجي، وضمان سيطرة الحزب الشيوعي الصيني على الدولة والمجتمع. وبحلول عام 1980، تم إنشاء مناطق اقتصادية خاصة ومنحها معاملة تفضيلية في كلٍ من شنتشن وتشوهاي وشانتو وشيامن.
ومع قدوم عام 1989، تولى “جيانغ زيمين” السلطة بعد مظاهرات ساحة تيانانمن التي ساهمت في تهديد استمرار الإصلاح الاقتصادي حيث تسببت في تعزيز الانقسام داخل البلاد، وخاصة بين الفصائل المعتدلة والمحافظة التي اعتبرت أن الإصلاح الاقتصادي في الصين ساهم في زيادة الانفتاح التجاري والانفتاح على الاستثمار الأجنبي المباشر؛ مما قد يفقد الحكومة الصينية السيطرة على اقتصاد البلاد، إلا أن “زيمين” نجح في قيادة تحول الصين إلى قوة عالمية من خلال استعادة ثقة المستثمرين الأجانب وتعزيز التجارة الخارجية الصينية، مع اتخاذ عدد من التدابير الرامية إلى الحد من النمو السكاني، ودعم سياسات تطوير مجالات العلوم والتكنولوجيا.
وعقب ذلك، قاد “هو جينتاو” الحزب الشيوعي الصيني خلال الفترة (2002-2012) وأعاد خلالها تحكم الدولة في بعض القطاعات الاقتصادية، كما تميزت تلك الفترة بنمو اقتصادي مستمر عزز مكانة الصين كقوة عالمية كبرى، وركز “هو جينتاو” على القوة الناعمة في علاقات الصين بالعالم الخارجي، مما ساهم في ازدياد نفوذ بلاده في أفريقيا وأمريكا اللاتينية ومناطق أخرى من العالم.
ومنذ عام 2012، تولى “شي جين بينج” مقاليد الحكم وركز على دراسة أسباب إخفاق الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي، وكيفية تجنب تلك الأخطاء في الصين، حيث رأى أن الاتحاد السوفيتي قد أغرق في تمسكه بعقيدة جامدة لم يحاول تطويرها. وبناءً على ذلك، اعتمد “بينج” خلال إدارته للبلاد على مبادئ “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية” في العصر الحديث، والتي تقوم على الاستمرار في نهج أسلافه من زعماء الحزب، مع التركيز على استمرار وتعميق عملية الإصلاح الشاملة ولا سيما في القطاعات الاقتصادية والإدارية، واعتماد الأفكار العلمية لتحقيق الابتكارات التكنولوجية، مع الحفاظ على بيئة خضراء مستدامة.
وفي عام 2013، أطلق “بينج” رؤيته لنظام عالمي تقوده الصين من خلال مبادرة الحزام والطريق، التي تشمل بناء الطرق والموانئ البحرية والمطارات والاتصالات والمستشفيات والطاقة واستخراج المعادن، ليأتي تمويل هذه المشاريع من مجموعة متنوعة من المصادر، بما في ذلك قروض البنوك التجارية الصينية، والاستثمارات من الشركات الصينية.
مما سبق يتبين أن الصين باتت تعتمد على نهجها الاشتراكي الخاص الذي يعني الالتزام بالنظرية الاشتراكية بما يتناسب مع ظروفها الفعلية ومصالحها الوطنية، حيث يتم رسم الاقتصاد الصيني بالكامل استراتيجيًا من خلال سلسلة من الخطط الخمسية التي تحدد أهداف النمو السنوية والقطاعات التي يجب إعطاؤها الأولوية، كما يحتفظ الحزب الشيوعي الصيني بشركات مملوكة للدولة تعمل في غالبية الصناعات الاستراتيجية، بما في ذلك استخراج المعادن والطاقة والخدمات المصرفية وحتى الفنادق والمطاعم، ويعين الحزب الشيوعي الصيني مديري ومشرفي الشركات المملوكة للدولة ويوجه عملية اتخاذ القرار فيها. وفي المقابل، تحصل تلك الشركات على عدد من المزايا كالإعانات الحكومية، وسهولة الوصول إلى رأس المال من البنوك المملوكة للدولة، والمواد الخام من شركات التعدين، كما تحصل الشركات المملوكة للدولة على دعم سياسي، ومزايا ضريبية، وإطار تنظيمي مواتٍ. وعلاوة على ذلك، يحتفظ الحزب الشيوعي الصيني بقوائم بالقطاعات التي تُمنع الشركات الأجنبية من الاستثمار فيها، أو وضع شروط تستلزم وجود شريك صيني. كما يتسم المجتمع الصيني بعدم وجود نقابات عمالية مستقلة حيث تقع جميع النقابات تحت اتحاد نقابات العمال في عموم الصين التابع للحزب الشيوعي الصيني.
ولهذا، لا يعني كون الصين أكبر دولة تجارية في العالم أنها تخلت عن الاشتراكية، بل إنها استغلت بعض مبادئ السوق الحرة التي سمحت لها ببناء الثروة الوطنية، وتطوير صناعاتها في بيئة تنافسية عالمية، واجتذاب رءوس الأموال والخبرات والمهارات من خارج الصين بشروط تضعها الدولة. فلا تزال هناك اختلافات استراتيجية وجذرية بين منهج القيادة الصينية في الحكم والمنظومة الرأسمالية الغربية؛ إذ لا تزال الدولة الصينية تلعب الدور الأهم والأبرز على الساحة الاقتصادية عبر ملكيتها للشركات الكبرى الفاعلة في الاقتصاد الصيني التي تعود عوائدها وأرباحها للخزينة العامة للدولة، وملكيتها لوسائل الإنتاج، والثروات الطبيعية.
ثانيًا- الأداء الاقتصادي في ظل الاشتراكية ذات الخصائص الصينية:
حققت الصين إنجازات اقتصادية ملحوظة خلال العقود الثلاثة الماضية، حيث سجل معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي ارتفاعات ملموسة ساهمت في دفع الاقتصاد الصيني من فئة الدخل المنخفض إلى المستوى الأعلى من الدخل المتوسط لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم. وهكذا، أصبحت الصين تُعرف بـ “مصنع العالم” بفضل العمالة الرخيصة والكبيرة العدد، بالإضافة إلى قدرتها على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، مما خلق مزيجًا من رأس المال والمعرفة التكنولوجية. أتاح هذا التحول للاقتصاد الصيني الازدهار أكثر من أي دولة أخرى. ومع ذلك، لا تزال تواجه العديد من العقبات والتحديات خلال هذه الفترة الكبيرة من التغيير الاقتصادي والاجتماعي. ومن أبرز مؤشرات التنمية الاقتصادية في الصين بعد الإصلاح والانفتاح في عام 1978:
1- المؤشرات الاقتصادية الكلية:
• معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي: منذ أن بدأت الصين في الانفتاح وإصلاح اقتصادها في عام 1978، بلغ متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي أكثر من 9% سنويًا، إلا أن النمو الاقتصادي قد تباطأ بشدة مع انتشار جائحة كورونا حيث سجل أدنى مستوياته عند 2.2% في عام 2020. وفي الوقت الحالي، تخطط بكين لتعزيز الاستهلاك المحلي وتقليل اعتمادها على الصادرات بتعزيز الطلب المحلي، مما سيدعم معدل النمو الاقتصادي.
الشكل 1- معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي (%)
Source- World Bank, GDP Growth.
وعلى الرغم من ارتفاع دخل العمالة، الذي يشكل القسم الأكبر من دخل الأُسر المتاح للإنفاق حيث يمثل نحو 56% خلال عام 2023 مقارنة بنحو 48% في عام 2007، إلا أن إنفاق الأُسَـر الاستهلاكي لا يزال منخفضًا ممثلًا نحو 38% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بنسبة تتراوح بين 60% إلى 70% في أغلب البلدان المتقدمة، وفي المقابل تمتلك الصين أعلى نسبة ادّخار خاصّ في العالم، حيث تبلغ من الناتج المحلي الإجمالي حوالي 46%.
• معدل التضخم: بدأت الضغوط التضخمية في الظهور بالصين خلال الفترة (1985-1987) بالتزامن مع دعوة الرئيس “دينج شياو بينج” إلى إلغاء التسعير الحكومي للبضائع وتركها لآليات السوق، ولهذا ارتفع معدل التضخم إلى مستويات تتجاوز 18% خلال عامي 1988-1989 بينما كان المعروض النقدي يرتفع بمعدل متوسط بلغ 23.2%.
وهو الأمر الذي أدى لدفع الحكومة إلى إرجاء تحرير الأسعار حتى تستعد الأسواق لاستقبال هذه الخطوة لتهدأ المخاوف التضخمية ويستعيد الاقتصاد الكلي توازنه، لتعود البلاد إلى إجراءات تحرير الأسعار من جديد بحلول عام 1992 حيث حررت أسعار 648 نوعًا من وسائل الإنتاج والنقل والمواصلات، و50 نوعًا من المنتجات الزراعية، كما حررت أسعار الحبوب الغذائية التي كانت الدولة تشتريها وتحدد أسعارها، وأسعار منتجات الصناعات الخفيفة باستثناء الأدوية. وبحلول عام 1993، تم تحرير أسعار 95% من منتجات البيع بالتجزئة، و90% من المنتجات الزراعية و85% من وسائل الإنتاج.
الشكل 2- معدل التضخم (%)
Source- World Bank, Inflation, consumer prices (annual %).
يُبين الشكل السابق أن معدل التضخم في الصين بدأ في التباطؤ تدريجيًا منذ عام 2000 ليسجل 0.2% بحلول عام 2023، حيث تعاني البلاد من تباطؤ في التضخم منذ بداية عام 2023، مما أجبر صناع القرار على خفض أسعار الفائدة لتعزيز النمو الاقتصادي وخلق فرص عمل جديدة.
• سعر الصرف: انتهجت الصين نظام سعر الصرف الثابت ثم النظام المزدوج لسعر الصرف قبل عام 1994، حيث حددت الدولة سعرًا رسميًا للدولار عند 1.49 يوان لكل دولار، إلى جانب سعر الصرف المستخدم لتسوية المعاملات بين المصدرين والمستثمرين عند 2.28 يوان لكل دولار. وبحلول أوائل عام 1994، تبنى بنك الشعب الصيني نظام سعر الصرف المدار على أساس العرض والطلب في السوق. وتم توحيد سعر الصرف عند مستوى قدره 8.7 يوان لكل دولار، ليتدخل البنك المركزي الصيني من جديد مع الأزمة المالية الآسيوية عام 1997 عبر تضييق نطاق حركة سعر الصرف ليستقر عند 8.28 يوان لكل دولار، كما يُبين الشكل الآتي:
الشكل 3- سعر صرف اليوان مقابل الدولار
Source- World Bank, Official exchange rate (LCU per US$, period average).
وعقب انحسار الأزمة المالية الآسيوية، قامت الصين باستئناف وتحسين نظام سعر الصرف المُدار، حيث استكملت إصلاحات نظام سعر الصرف عام 2005، مع قيام بنك الصين الشعبي بتحديد سعر الصرف يوميًا، مع رفع أو خفض اليوان بنسبة 2% بناءً على الظروف الاقتصادية اليومية.
2- المؤشرات الاجتماعية:
• نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي: تحولت الصين في السنوات الأخيرة من اقتصاد معتمد بالأساس على الزراعة إلى ثاني أكبر اقتصاد عالمي بعد اقتصاد الولايات المتحدة، إلا أن الصين لا تزال تقع في فئة الاقتصادات ذات الدخول المتوسطة، حيث لم يتجاوز نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي مستوى 12 ألف دولار حتى عام 2020 مقارنة بمستوى يبلغ 64 ألف دولار في الولايات المتحدة، كما يتبين تاليًا:
الشكل 4 – نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي (دولار أمريكي)
Source- World Bank, GDP Per Capita.
• الفقر وعدم المساواة: نجحت الصين في انتشال 800 مليون شخص من الفقر منذ إطلاق إصلاحاتها الاقتصادية في أواخر السبعينيات، وهكذا تراجع معدل الفقر من 88.3% من السكان عام 1981، إلى 0.3% خلال 2018. كما انخفض عدد الفقراء في الأرياف من 98.99 مليون شخص في نهاية عام 2012 إلى 30.46 مليون شخص في نهاية عام 2017، كما تم تخفيض عدد المحافظات الفقيرة لأول مرة، حيث تم محو وصمة المحافظة الفقيرة عن 28 محافظة في عام 2016.
وعلى الرغم من أن معامل جيني في الصين -الذي يقيس عدم المساواة ويقع بين نطاق 0 إلى 100، وكلما اقتربت القراءة من الصفر، كلما كان المجتمع أكثر مساواة- قد شهد تراجعًا منذ عام 2010 وفقًا للبنك الدولي، فإن مستواه لا يزال مرتفعًا نسبيًا عند 38.6، وهو مستوى أعلى بكثير مما كان عليه قبل 40 عامًا، مما يبرز أن انعدام المساواة لا يزال يمثل مشكلة كبيرة في الصين في الوقت الراهن.
3- التعاملات مع العالم الخارجي:
• الاستثمار الأجنبي المباشر: يرتكز الجزء الأكبر من الاستثمار في الصين في القطاع العام، حيث تفرض الدولة قيودًا على الاستثمارات الأجنبية المباشرة بشكل أقوى مقارنة بتلك التي تفرضها دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، كما إنها تقدم ظروفًا أقل ملاءمة للاستثمار الأجنبي المباشر، وذلك على الرغم من محاولات البلاد للانفتاح على العالم الخارجي؛ إذ تواجه الشركات الأجنبية ظروفًا إطارية معقدة كصعوبة الوصول إلى السوق وتوفر حماية غير كافية لحقوق الملكية الفكرية، وفيما يلي استعراض لتطور الاستثمار الأجنبي المباشر:
الشكل 5- الاستثمار الأجنبي المباشر (% من الناتج المحلي الإجمالي)
Source- World Bank, Foreign direct investment, net inflows (% of GDP).
والجدير بالذكر أنه في عام 2023، انخفض الاستثمار الأجنبي المباشر في الصين بنسبة 8% على أساس سنوي إلى 163.253 مليار دولار، مقارنة بنحو 310.947 مليار دولار جذبتها الولايات المتحدةـ، وذلك في ظل استمرار التوترات الجيوسياسية وتباطؤ تعافي الاقتصاد العالمي، وعليه، اتخذت الحكومة الصينية خطوات جديدة لوقف تباطؤ الاستثمار الأجنبي، بما في ذلك توسيع الوصول إلى الأسواق وتخفيف بعض القواعد.
• التجارة الخارجية: تحتل التجارة الخارجية الصينية مكانة بارزة في الاقتصاد العالمي؛ فهي أكبر دولة في العالم من حيث حجم التجارة الخارجية وأكبر مصدّر وثاني أكبر مستورد في العالم، ويأتي ذلك إيمانًا من القيادة الصينية من أهمية الاستمرار في توسيع نطاق الانفتاح على الخارج، وأهمية العمل على تعزيز البناء المشترك عالي الجودة لمبادرة “الحزام والطريق”، فضلًا عن تعميق التعاون الاقتصادي الثنائي والمتعدد الأطراف والإقليمي، وفيما يلي استعراض لتطور نسبة الانفتاح التجاري (نسبة التجارة الخارجية إلى الناتج المحلي الإجمالي):
الشكل 6- الانفتاح التجاري (%)
Source- World Bank, Trade Openness.
وخلال عام 2023، شهدت التجارة الصينية مع شركائها الرئيسيين تراجعًا ملحوظًا، إذ انخفضت الصادرات السنوية لأول مرة منذ سبع سنوات، وذلك نتيجة لتراجع الطلب على السلع الصينية وسط تباطؤ النمو العالمي، ففي يوليو 2023، انخفض مستوى الصادرات إلى أدنى مستوياته خلال خمسة أشهر، حيث هبطت بنسبة 14.5%، وهي نسبة أسوأ من التوقعات التي كانت تشير إلى انخفاض بنسبة 12.5%، مما يعكس التدهور الكبير في الصادرات الصينية.
وبالنسبة للواردات، فقد تراجعت هي الأخرى بنسبة 12.4% على أساس سنوي، ليصل إجمالي القيمة إلى 201.16 مليار دولار في يوليو 2023، مقارنة بمبلغ 214.70 مليار دولار في يونيو 2023. ويعد هذا الانخفاض الأكبر منذ يناير 2023، وهو ما يعزى إلى تدهور الطلب المحلي.
ومن أبرز الشركاء التجاريين للصين الاتحاد الأوروبي الذي يُعد أكبر شريك تجاري للصين فيما تُعد الصين ثاني أكبر شريك تجارى للاتحاد الأوروبي، وبلغت قيمة التجارة بين الصين والاتحاد الأوروبي حوالي 600 مليار دولار أمريكي، كما كانت دول آسيان أهم شركاء الاستيراد للصين، حيث بلغت قيمة الواردات حوالي 2.55 مليار يوان في عام 2021.
ثالثًا- تحديات ماثلة:
لا يزال ثاني أكبر اقتصاد في العالم يواجه عددًا من التحديات والعقبات الداخلية والخارجية التي تحول دون تحقيق معدلات نمو مرتفعة ومستدامة، كما يتبين تاليًا:
1- التوترات التجارية بين الصين والولايات المتحدة:
لطالما كان النموذج الاقتصادي الذي تتبعه الصين سببًا أساسيًا في نشوء التوترات بينها وبين الولايات المتحدة، حيث زادت واشنطن التعريفات الجمركية على الصادرات الصينية من 3.1% في أوائل عام 2018 إلى 19.3% بحلول عام 2020، مما أثر في حوالي 66.4% من إجمالي صادرات الصين، كما فرضت ضوابط تصدير غير مسبوقة للحد من قدرة بكين على الوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة، وضاعفت التعريفات الجمركية على المركبات الكهربائية المصنعة في الصين، وهو ما ألقى بظلاله على نمو الاقتصاد الصيني والتجارة الصينية.
ومن المرجح في حال فوز “دونالد ترامب” في الانتخابات الأمريكية القادمة أن تتصاعد التوترات التجارية مع الصين حيث أكد في برنامجه الاقتصادي على فرض تعريفة بنسبة 60% على جميع الواردات الأمريكية من الصين للتخلص التدريجي من الواردات الصينية من السلع الأساسية خلال 4 سنوات.
2- تراجع القيمة السوقية لقطاع التكنولوجيا:
شهدت شركات التكنولوجيا الصينية الرائدة، ولا سيما “علي بابا” و”تينسنت”، انخفاض قيمتها السوقية منذ بداية العام الجاري بنسبة تصل إلى 75% من ذروتها قبل ثلاث سنوات، وذلك بسبب الحملة التنظيمية الشاملة التي بدأتها الحكومة الصينية في أواخر عام 2020، والتي استمرت لمدة 18 شهرًا، حيث قدمت السلطات الصينية سلسلة من القوانين الصارمة لمكافحة الاحتكار وتنظيم البيانات، في حين فرضت غرامات على بعض الشركات التكنولوجية لاتباعها ممارسات احتكارية.
وخلال الفترة من 2021 إلى 2022، انخفض إجمالي رأس المال الاستثماري في صناعة الإنترنت الصينية بنسبة بلغت 80%من 49 مليار دولار إلى 10 مليارات دولارات فقط. وفي الوقت نفسه، انكمش إجمالي القيمة السوقية لشركات الإنترنت الصينية من 2.5 تريليون دولار عام 2020 إلى 1.4 تريليون دولار في عام 2022.
- ضعف الاستهلاك الناتج عن تفشي جائحة كورونا:
تأثر الاقتصاد الصيني بشدة نتيجة اتباع ضوابط صارمة تحت ما يُسمى سياسة “صفر كوفيد”، تتمثل في عمليات الإغلاق والحجر الصحي والفحوص الصارمة مع تطبيق قيود للسفر والتنقلات. واعتبارًا من مايو 2022، فرضت الصين قيودًا على المسافرين بإجراء اختبارات تفاعل البوليميراز المتسلسل في غضون 24-48 ساعة من رحلتهم، بالإضافة إلى اختبار الأجسام المضادة، كما يتعين على المسافرين أن يتم تطعيمهم في غضون 14 يومًا من دخولهم البلاد، كما يجب تقديم إثبات لنتائج الاختبارات السلبية وسجلات التطعيم عند الوصول، ويتم فحص الوافدين في المطار مع ضرورة إكمال الحجر الصحي الإلزامي لمدة 14 يومًا على الأقل. وعلاوة على ذلك، تم إجبار الشركات باستثناء موردي السلع الأساسية والغذائية على الإغلاق المؤقت حتى تؤكد السلطات المحلية عدم وجود إصابات جديدة في المنطقة.
- تباطؤ التوظيف:
تجاوزت نسبة البطالة بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و24 عامًا من الحاصلين على تعليم عالي 20%، وهو ما يُعادل حوالي أربعة أضعاف معدل البطالة العام لجميع السكان في المدن الصينية، والذي بلغ 5.2% في الشهر نفسه، وفقًا لبيانات المكتب الوطني الصيني للإحصاء. ويرجع هذا المعدل القياسي إلى عدم التوافق بين تخصصات الشباب المتعلمين والوظائف المتاحة.
- الأزمة العقارية:
تشــكل الأصول العقاريــة إحــدى دعامــات الاقتصاد في الصين، حيث يُنظر إليه كاستثمار آمن للطبقة الوسطى، مما أدى إلى ارتفاع أسعار العقارات بشكل سريع نتيجة لارتفاع الطلب، مما حفز المطورين على توسيع أعمالهم بفضل القروض البنكية. ومع ذلك، أدت المستويات القياسية للديون وتزايد حالات التخلف عن السداد إلى تدخل السلطات بحلول عام 2020 لكبح سرعة النمو في القطاع؛ مما أدى إلى تقليص القروض للمطورين، وجعل الأضعف بينهم يواجهون صعوبات لإكمال مشاريعهم؛ مما خلق أزمة ثقة مع العملاء وساهم في تراجع الأسعار.
- أزمة الشيخوخة:
انخفض عدد سكان الصين للعام الثاني على التوالي في عام 2023 إلى 1.409 مليار نسمة، بانخفاض 2.08 مليون عن العام السابق، وفقًا لبيانات المكتب الوطني للإحصاء في الصين. وتشير التوقعات إلى تسارع الانخفاض في عــدد الســكان في ســن العمــل في الصين مقابل ارتفاع عدد السكان في سن الشيخوخة خلال العقـود المقبلة، حيث شهدت البلاد خلال عام 2023 زيادة كبيرة في عدد كبار السن، مع ما يقرب من 17 مليون شخص إضافي يبلغ أعمارهم 60 عامًا أو أكثر، وتمثل هذه الفئة العمرية بالفعل أكثر من 20% من السكان، وهي نسبة من المتوقع أن ترتفع لتطال ثلث السكان تقريبًا بحلول عام 2035.
ومن شأن شيخوخة السكان في الصين أن تهدد أهداف السياسة الرئيسية لبكين للعقد القادم التي ترمي إلى تعزيز الاستهلاك المحلي وكبح جماح الديون المتضخمة؛ مما يشكل تحديًا خطيرًا لآفاق النمو الاقتصادي على المدى الطويل.
رابعًا- استنتاجات ختامية:
• مر الاقتصاد الصيني بمرحلتين رئيستين منذ عام 1948، اتسمت الأولى بالتركيز على السياسات الاشتراكية وتطبيق النظرية الماركسية وذلك في عهد “ماو تسي تونج”، فيما بدأت الثانية منذ عام 1978 وحتى الوقت الحالي، مرتكزة على الإصلاح الاقتصادي والانفتاح التجاري على العالم الخارجي.
• نجحت التجربة الصينية في تحقيق أهدافها بالاعتماد على مبادئ “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية” حيث استطاعت أن تصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وأكبر دولة صناعية وتجارية، فضلًا عن ارتفاع معدل مساهمة الصين في نمو الاقتصاد العالمي لمستويات تصل إلى 30%.
• ومنذ عام 1979، كانت الصين من بين أسرع الاقتصادات نموًا في العالم، حيث بلغ متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي السنوي الحقيقي 9%حتى عام 2023، وهي الوتيرة التي وصفها البنك الدولي بأنها “أسرع توسع مستدام في التاريخ”.
• ارتكزت الإصلاحات الاقتصادية الصينية على زيادة الإنتاج الزراعي والصناعي، والاهتمام بالقطاع التكنولوجي والذكاء الاصطناعي، واستكمال إنشاء البنى التحتية في الريف والحضر وإنشاء نظام حوكمة الشركات الحديثة؛ مما أرسى أُسسًا راسخة للتنمية الاقتصادية المستدامة.
• رغم نجاح التجربة الصينية فإنها لم تخلُ من المشكلات والتحديات التي تراكمت على مدار العقود الماضية، من أبرزها؛ تضخم ديون الشركات الصينية، والتوترات التجارية مع الولايات المتحدة، وضعف الاستهلاك المحلي، وتصاعد المشكلات التي تواجه القطاع التكنولوجي.
• حاولت الصين على مدار السنوات السابقة أن تعطي المزيد من المساحة للقطاع الخاص، ومع ذلك لا تزال الشركات المملوكة للدولة تتحكم في شرايين الاقتصاد القومي وتلعب دورًا رئيسيًا في الصناعات الاستراتيجية كالدفاع والكهرباء والبترول والكيماويات والاتصالات والطيران المدني والفحم، أما باقي القطاعات فيقوم فيها القطاع الخاص والمشترك بالدور الرئيسي.
• تتمتع الشركات المملوكة للدولة بمعاملة تفضيلية من الحكومة تتمثل في سرعة الحصول على الموافقات وسهولة الوصول للتمويل المصرفي منخفض التكلفة؛ مما يمنحها بالتالي ميزة تنافسية غير عادلة.