مرة أخرى أحاول التعمق أكثر فى مغزى مقترح الرئيس الأمريكى بترحيل سكان قطاع غزة إلى مصر والأردن، خاصة فى ضوء مهرجان الدعم السخى الذى قدمه ترامب إلى نيتانياهو خلال زيارته لواشنطن ومنحه كل مطالبه، بل أكثر فيما يتعلق بأزمة غزة والقضية الفلسطينية دون أن يطلب منه تقديم أى تنازلات.
والأمر الأكثر غرابة أن الرئيس الأمريكى الذى من المفترض أن تكون كلماته محسوبة بدقة متناهية، قد فأجأنا ومعه مساعدوه بالعديد من التصريحات المتتالية والمتعارضة والغامضة بشأن مقترح التهجير ولكن مايجمعها كلها أنها تصب فى مسار واحد وهو دعم مقترح تهجير سكان غزة، باعتباره هدفاً رئيسياً لاترغب الإدارة الأمريكية فى أن تحيد عنه رغم الرفض المصرى والأردنى الواضح.
وقد وضح اتجاه الإدارة الأمريكية لإلقاء الكرة فى ملعب الدول العربية ومطالبتهم بالبحث عن بدائل لمقترح التهجير، وكأن المسئولية تقع على العرب وليس على دولة الاحتلال التى دمرت القطاع، أو حتى على المجتمع الدولى الملزم بإعادة الإعمار، وبالتالى فإن المسألة كلها أصبحت تدور حول مخطط واضح وهو الوصول بالوضع الفلسطينى إلى الحالة التى تجبر الفلسطينيين على التسليم بما يطرح عليهم من أى حلول لتسوية القضية حتى لو تعارضت مع مطالبهم وحقوقهم.
وإذا كان الرئيس الأمريكى يعتقد أن مثل هذا المقترح يعد مقترحاً عملياً يجب تنفيذه، فإننى أرى أنه ليس على حق تماماً ولا يملك أى حق فى ترحيل السكان الفلسطينيين من أرضهم سواء طوعاً أو قسريا،ً فهؤلاء السكان هم أصحاب الأرض الحقيقيون التى اغتصبت إسرائيل أرضهم وأقامت دولتها عام 1948 على مساحة أكثر من 78% من أرض فلسطين التاريخية وتركت للفلسطينيين حوالى 22% ليقيموا دولتهم عليها بل تطمع فى ضم المزيد من هذه النسبة إليها. ومن ثم فإن مسار التهجير الذى يعتزم الرئيس الأمريكى التحرك فيه حتى النهاية والمرفوض فلسطينياً وعربياً ودولياً سوف يمهد الطريق إلى إنفجار الوضع فى المنطقة، وهو الأمر الذى يجب أن يعلمه الرئيس الأمريكى جيدا،ً وعليه أن يعلم أيضاً أن المبدأ الذى تبناه خلال حملته الانتخابية بقدرته على إنهاء الحروب فى المنطقة سوف يسقط بلا رجعة وسيشهد بنفسه حروباً لن يستطيع إيقافها مهما كانت تدخلاته حتى لو أرسل مئات المبعوثين. وسؤالى الذى أوجهه هنا إلى ترامب: ماذا ينتظر من الفلسطينيين الذين يفقدون كل أمل فى الحياة ويرون أن أكبر دولة فى العالم تتعامل معهم بهذا الاستخفاف وبمنطق الصفقة، وكأن غزة هى مجرد مشروع تجارى يجب تطويره بالهدم أو النقل أوغيره من أساليب الصفقات المجحفة بالحقوق؟! متناسياً أن غزة هى جزء لايتجزأ من الدولة الفلسطينية التى سوف تقوم فى النهاية رغماً عن أنف الجميع.
أما إذا كانت إدارة ترامب حريصة على استقرار المنطقة والحفاظ على أمن إسرائيل ودمجها فى مسار التطبيع العربى وفى المنظومة الإقليمية، فإن عليها أن تعلم أنها انتهجت المسار الخاطئ الذى يحاول تطوير صفقة القرن المطروحة فى يناير 2020 والمرفوضة عربياً من خلال إضافة جزء آخر لها أكثر توحشاً وسفوراً، بحيث إنه باكتمال الجزءين تكون القضية الفلسطينية قد دخلت مرحلة التصفية الفعلية وتكون الدولة التى يحلم بها الفلسطينيون والعرب قد أصبحت فى عداد المستحيلات. وفى ضوء ماوضح من الرفض القاطع لمقترح التهجير فإنى أطلب من الإدارة الأمريكية أن تمنح نفسها فرصة ولو لمرة واحدة للبحث عن بدائل أخرى لحل أزمة غزة انطلاقاً من مبدأ «إعمار دون تهجير» وهو ما سوف يجنبها الغضب العربى الرسمى والشعبى، وأنصح واشنطن بألا تستهين بهذا الغضب وألا تضحى بعلاقاتها الإستراتيجية مع الدول العربية، وعلى رأسها مصر والسعودية، مقابل مقترح مشبوه تعلم أنه مرفوض، كما أن عليها أن تأخذ فى اعتبارها أن صفقة القرن التى لم تشتمل على مقترح التهجير بهذا الشكل قد رفضها الفلسطينيون والعرب بكل شجاعة، ومن المؤكد أن هذا هو مصير مقترح التهجير.
وإذا فرضنا أن ترامب يعاقب الدول العربية على رفضها صفقة القرن الظالمة ومن ثم طرح مقترح التهجير، إذن فهو يحاول إصلاح الخطأ الجسيم بخطأ أكبر منه، وهنا أتساءل: كيف يمكن لأكبر دولة فى العالم أن تتبنى مشروعاً إسرائيلياً مطروحاً منذ أكثر من ربع قرن ولم يتم تنفيذه نظراً للرفض المصرى والعربى له؟! ومع كل التقدير لاستقلالية القرار الأمريكى إلا أننى أجد فى هذه الحالة أن القرار الأمريكى أصبح أسيراً للقرار الإسرائيلى، وهو الأمر الذى سيؤدى للإضرار بالمصالح الأمريكية مستقبلاً. وحتى أكون عملياً فإننى أوجه النصيحة للإدارة الأمريكية باتخاذ القرارات الخمسة العاجلة التالية:
• التراجع عن مقترح التهجير مع الابتعاد عن محاولة فرضه على الدول العربية المعنية أو تحميلهم مسئولية البحث عن البدائل، فهذا المقترح مرفوض بقوة، وإذا كان ترامب يراهن على موافقة العرب عليه فهو واهم تماماً.
• الضغط على إسرائيل لإدخال أكبر قدر من المساعدات الإنسانية إلى كل أنحاء غزة يومياً، حيث إن سكان القطاع لا يطلبون الرحيل بل أقل قدر من توافر الأمور المعيشية لهم.
• عقد مؤتمر عاجل لإعادة إعمار القطاع بقيادة الولايات المتحدة على أن يبدأ العمل طبقاً لخطة منظمة لا تتطلب تهجير السكان إلى خارج القطاع، بل نقلهم من منطقة لأخرى داخل القطاع وليس خارجه حتى لو كانت الضفة الغربية.
• تجنب اتخاذ أى قرارات جديدة بتأييد فرض إسرائيل السيادة على الضفة الغربية، فهذه الخطوة ستكون إيذاناً بانطلاق الانتفاضة الثالثة العنيفة والتى ستكون خارج إطار الوساطات والتوقعات.
• الإشارة إلى أن الإدارة الأمريكية سوف تعكف على بحث أفضل الحلول للقضية الفلسطينية بما يحقق مصالح جميع الأطراف.