ما هي طبائع وقيم وأخلاق المصريين المحدثين؟ وهل القيم والأخلاق السائدة بينهم تساعد على التقدم؟ ما هي القيم والأخلاق والخصائص النفسية والثقافية التي يجب تعزيزها بين المصريين، وما هي القيم والأخلاق التي تحتاج إلى تغيير، وما السبيل إلى ذلك؟ أظن أن التقدم يحتاج إلى توافر قيم ثقافية معينة، وإلى قدر مناسب من توليفة من القيم والطبائع المواتية؛ وأنه من الممكن غرس وتنمية هذه القيم في النفوس لو جرى تطبيق السياسات والبرامج المناسبة.
ترتبط الشعوب في الأذهان بصفات معينة. فالألمان منضبطين؛ والدانمركيون أمناء يكرهون الفساد؛ والانجليز أهل دهاء، يجيدون الحكم والسيطرة وفنون الدبلوماسية؛ واليابانيون يقدسون العمل؛ والأمريكيون مستثمرون يسعون وراء الربح والمال؛ وأهل سويسرا يحترمون المواعيد ويكرهون الضجيج؛ والإيطاليون أهل فن؛ والفرنسيون متمردون يميلون للثورة؛ والصينيون، وآسيويون آخرون، يحترمون السلطة، ويتمتعون بروح الجماعة والتضامن والانضباط الوطني. قد تكون هذه الصفات دقيقة، أو لا تكون؛ فالتعميمات والصور النمطية من هذا النوع تخفي ورائها تنوع كبير في خصائص الأمة، أي أمة. مع ذلك فليس لدي شك في أن لهذه الصفات أصل من حقيقة، فما هي الخصائص المميزة للمصريين؟
أتمنى لو أستطيع تنفيذ بحث أسأل فيه الناس حول العالم عن الصورة التي يحملونها عن مصر والمصريين. سأسألهم عن أول شيء يرد إلى الذهن عند سماع اسم مصر. سيقولون الأهرام وأبوالهول، رائع. هل هناك شيء آخر، وما الذي يأتي بعد ذلك. يمكن طرح أسئلة إضافية تدلنا على مدى دقة انطباعات الشخص؟ وما إذا كان زار مصر، أو قرأ عنها، أو شاهد فيلما وثائقيا، أو أنه يكرر ما هو شائع بين الناس في بلده.
دعك من صورتنا لدى الأجانب، فالأمر يتعلق بنا نحن في المقام الأول. ما هو رأينا في أنفسنا، وما هي الأشياء التي تميزنا أو تعيبنا؟ هل نحن أمة البنائيين والفنانين العظام الذين بنوا المعابد والمساجد المهيبة الرائعة، أم أننا أمة من العشوائيين فاسدي الذوق والضمير، الذين بنوا على الأرض الزراعية، وخالف معمارهم القوانين وقواعد الذوق والجمال، واعتادوا مشاهدة القبح والقمامة وأكوام مخلفات البناء؟ لكل شيء سبب، ولعاداتنا وطبائعنا وأخلاقنا أسبابها، ولكن قبل أن نسأل على الأسباب علينا التأكد من الواقع، وأن نصفه بقدر كاف من الدقة.
بدلا من استطلاع رأي الخواجات عما يرونه فينا، أتمنى لو نجري بحثا نسأل فيه عينة من المصريين عن رأيهم في المصريين الآخرين. سنطلب منهم قبول أو رفض عبارات مثل: إتقان العمل هو من السمات المميزة للمصريين؛ المصري عطوف على الضعفاء والمحتاجين؛ يحترم المصريون المال العام والملكية العامة؛ الأسرة المصرية مترابطة، يحترم فيها الأبناء آبائهم؛ المصريون صادقون يقولون الحقيقة ويكرهون الكذب؛ المصري متدين؛ يكره المصري النفاق ومن يمارسونه؛ يتمتع المصريون بحس فكاهي؛ المصري نظيف لا يلقي المخلفات في الشوارع؛ المصري سريع البديهة؛ المصريون بارعون في العمل الجماعي؛ المصري متسامح يحترم الآخر؛ يحترم المصريون القانون؛ يخشى المصريون السلطة ويحرصون على تجنبها؛ يحترم المصريون النساء ولا يتحرشون بهم؛ يحب المصريون القراءة؛ المصريون يقدرون العلم ويحرصون على تحصيله؛ يحب المصريون بلدهم.
كانت الكتابة عن طبائع الشعوب والشخصية القومية أمرا شائعا حتى النصف الأول من القرن العشرين، لكنها فقدت شعبيتها بعد ذلك. كتب الرحالة والباحثون الأوربيون عديد المجلدات عن طبائع وأخلاق المصريين، وهي من أمتع ما يمكن قراءته، وإن كانت تصيبك بالغيظ والغضب أحيانا. هناك مجلد كامل عن طبائع المصريين في كتاب وصف مصر الذي كتبه علماء الحملة الفرنسية. هناك أيضا كتاب الإنجليزي إدوارد لين عن طبائع المصريين المنشور عام 1836. حتى ابن خلدون كتب عن مصر، فوصف شعبها بأنه سهل القياد. الكتابة عن طبائع الشعوب وشخصيتها القومية تنطوي على الكثير من الانطباعية والتحيز، ولهذا فقدت شعبيتها بين الدارسين الأجانب، والذين لم يتوقفوا رغم ذلك عن ممارسة تحيزاتهم.
مثل نقد العادات والأخلاق والقيم السائدة هما رئيسيا لرواد النهضة الفكرية في بلادنا حتى النصف الأول من القرن العشرين. في مجلته روضة المدارس وكتابه المرشد الأمين، وجه رفاعة الطهطاوي الكثير من النقد لعادات وقيم سائدة. رائعة الأيام، لطه حسين، هي كتابة راقية في النقد الاجتماعي والأخلاقي والثقافي الذاتي. لبيرم التونسي قصيدة ساخرة، يندم فيها على ذهابه إلى لندن وباريس، لأنها “بلاد تمدين ونضافة وذوق ولطافة وحاجة تغيظ”. توقفت الكتابة في نقد الأخلاق والعادات والطبائع عندما بدأنا نتحدث عن الشعب القائد والمعلم، لأنه من غير الجائز نقد المعلم والقائد. تراجعت الكتابة في النقد الاجتماعي والأخلاقي، في حين زادت الكتابة في النقد السياسي. توقفت الكتابة في نقد المجتمع قبل أن تحقق أهدافها، وربما لهذا السبب لم يكن للكتابة في النقد السياسي عائد يذكر.
القيم والأخلاق والعادات السلوكية السائدة بين أفراد أمة ما تصنع الشخصية القومية لهذه الأمة. في أي أمة يوجد هناك الكثير من التنوع، ولكن يوجد أيضا الكثير من السمات المشتركة بين عموم الناس، وهي السمات التي تكون الشخصية القومية. شخصية الأمة وقيمها وطبائعها ليست أمرا مطبوعا في الشفرة الجينية للبشر، ولكنها موروث تكون عبر عصور طويلة ونتيجة ظروف وتجارب معقدة.
شخصية الأمة وثقافتها وقيمها وأخلاقها وطبائعها ليست قدرا أبديا محتوما، فهي مكونات تتغير لو توافرت الظروف الملائمة. النهضة في كوريا والصين وسنغافورة ليست نهضة اقتصادية فقط، فهي نهضة ثقافية وأخلاقية أيضا. دراسة الطبائع والعادات والقيم والأخلاق ليست ترفا فكريا، ولا هي نوع من الافتخار بالذات، أو جلدها، وإنما هي من ضرورات الإصلاح والتقدم. على الأمة الناهضة محاربة أوجه الخلل في شخصيتها القومية، وفي طبائع أهلها وعاداتهم، وأن تبنى على ما في شخصية أبنائها من فضائل، وعليها أن تضع السياسات والبرامج التي تمكنها من تحقيق ذلك.