تواجه أوروبا أزمة متفاقمة في إمدادات الطاقة من مختلف أنواعها، ومن الممكن أن يزداد الوضع سوءًا بمجرد حلول الشتاء، حيث تواصل أسعار الغاز وفواتير الكهرباء الارتفاع بشكل غير مسبوق بما يهدد التعافي الذي تحاول الاقتصادات الأوروبية تسجيله عقب الركود الناتج عن الجائحة.
ولا تعتبر تلك الأزمة وليدة الشهور الأخيرة فقط، بل إنها تعود إلى سنوات سابقة اعتمدت فيها القارة العجوز على الواردات لتلبية احتياجاتها من الطاقة مع الاتجاه سريعًا إلى مصادر الطاقة المتجددة دون وجود مصادر كافية لتخزينها، بالتوازي مع ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي لمستويات قياسية.
مزيج الطاقة في القارة الأوروبية
تأتي الطاقة المتوفرة في دول الاتحاد الأوروبي من مصدرين؛ يتمثل الأول في توليدها محليًا بما يمثل 39% فقط من إجمالي الطاقة المتوفرة، فيما يرتكز الثاني على استيرادها من الخارج بما يمثل 61% من الإجمالي، ومن هنا يتبين اعتماد القارة العجوز على المصادر الخارجية لتأمين احتياجاتها من الطاقة.
وخلال عام 2019، شكّلت المنتجات البترولية حوالي 36.4% من مزيج الطاقة في أوروبا يليها الغاز الطبيعي بنحو 22.4%، لتأتي الطاقة المتجددة في المركز الثالث بحوالي 15.3% والطاقة النووية بنحو 13.1%، وأخيرًا الوقود الأحفوري الصلب (الفحم) في المركز الأخير بحوالي 12.6%، كما يتبين من الرسم التالي:
الشكل (1): مزيج الطاقة في الاتحاد الأوروبي – 2019
ومع النظر إلى التطور التاريخي لمصادر الطاقة المُتاحة لدول الاتحاد الأوروبي، يتبين انخفاض إجمالي الطاقة خلال 2019 بنحو 1.7% على أساس سنوي، وهو ما يوضحه الشكل التالي:
الشكل (2): إجمالي الطاقة المتاحة في أوروبا
وقد احتفظ النفط الخام والمنتجات البترولية بالمركز الأول على الرغم من الاتجاه الهبوطي على المدى الطويل، فيما ظل الغاز الطبيعي ثاني أكبر مصدر للطاقة، في حين ارتفعت مصادر الطاقة المتجددة من إجمالي الطاقة المتاحة في التكتل الأوروبي مقارنة بالطاقة النووية والوقود الأحفوري الصلب (الفحم)، كما يوضح الشكل (3):
الشكل (3): إجمالي الطاقة المتاحة في أوروبا – وفقًا للمصدر
ورغم احتفاظ المنتجات البترولية بالمرتبة الأولى –كما ذكرنا سابقًا- إلا أن حصتها من إجمالي الطاقة المتوفرة قد تراجعت بنحو 3.9% منذ عام 2000 وحتى عام 2019، وكذلك هبطت حصة الطاقة المتولدة من الوقود الأحفوري الصلب بحوالي 6.8%، مقابل ارتفاع حصة الطاقة المتجددة بشكل ملحوظ من 6.3% إلى 15.3%، وهو ما يمثل ارتفاعًا بنحو 9% خلال الفترة محل الدراسة، وهو ما يوضحه الشكل الآتي:
الشكل (4): تطور حصص مصادر الطاقة
أسباب أزمة الطاقة
ترجع أزمة الطاقة التي تشهدها القارة الأوروبية في الوقت الحالي إلى العديد من الأسباب الداخلية والخارجية، التي يُمكن حصرها في النقاط الآتية:
1.تراجع إمدادات الغاز:
سجل كل من إنتاج وواردات أوروبا من الغاز الطبيعي تراجعًا واضحًا خلال الربع الأول من العام الجاري؛ إذ انخفض الإنتاج بنحو 11% أو بحوالي 1.7 مليار متر مكعب ليبلغ 13.8 مليار متر مكعب، مسجلًا ثاني أدنى إنتاج فصلي خلال عقدٍ زمني، كما هبطت صافي واردات الغاز في الاتحاد الأوروبي بنسبة 3% أو 2.5 مليار متر مكعب إلى 78.5 مليار متر مكعب مقارنة مع 81 مليار متر مكعب خلال الفترة نفسها من عام 2020.
وخلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام، جاءت ألمانيا في المركز الأول بقائمة أكبر المستوردين في الاتحاد الأوروبي (22 مليار متر مكعب)، وإيطاليا (17 مليار متر مكعب)، وفرنسا (10 مليارات متر مكعب)، وإسبانيا (8 مليارات متر مكعب)، وبلجيكا (6 مليارات متر مكعب).
وكنتيجة لما سبق، تراجع مخزون القارة من الغاز الطبيعي بنحو 75% في الوقت الحالي مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وهي وتيرة الانخفاض الأسرع منذ عام 2013.
2.ارتفاع الطلب على الغاز الطبيعي:
قفز الطلب على الغاز الطبيعي عالميًا مع تعافي الاقتصادات من وباء كورونا وعودة الحياة إلى طبيعتها مع إعادة فتح المصانع مما أسفر عن زيادة الحاجة إلى المزيد من الغاز لتعزيز الإنتاج، فمن المتوقع أن يرتفع الطلب العالمي على الغاز بنسبة 3.6% في عام 2021، ونحو 7% بحلول عام 2024 مقارنة بمستويات ما قبل انتشار كورونا خلال 2019.
وفيما يخص الاتحاد الأوروبي، فقد ارتفع استهلاك الغاز خلال الربع الأول من عام 2021 بنسبة 7.6% على أساس سنوي إلى 141.8 مليار متر مكعب مقارنة مع 131.7 مليار متر مكعب خلال الأشهر الأولى الثلاثة من العام الماضي، و120.6 مليار متر مكعب خلال الربع الرابع من 2020. وفي مجال توليد الكهرباء، ارتفع الطلب على الغاز بنسبة 3.4٪ على أساس سنوي (زيادة 4.9 تيراوات ساعة).
3.زيادة الاعتماد على روسيا:
تغطي إمدادات خطوط أنابيب الغاز الروسية نحو 45% من صافي واردات الغاز في الاتحاد الأوروبي خلال الربع الأول من 2021 ارتفاعًا من 41% خلال الفترة نفسها من 2020، تليها الخطوط النرويجية التي تغطي نحو 23%، يليها الجزائر التي تحتل حوالي 12% من واردات الغاز الأوروبية.
الشكل (5): أبرز موردي الغاز الطبيعي للاتحاد الأوروبي
يتبين من الشكل السابق أن ثلاث دول فقط تلبي 80% من احتياجات أوروبا من الغاز الطبيعي، وهو ما يُعد مصدرًا للتهديد
4.انخفاض سرعة الرياح:
تعتمد أوروبا على طاقة الرياح في توليد الطاقة المتجددة، حيث تمتلك القارة حاليًا أكبر قدرة لتوليد طاقة رياح في العالم بما يمثل حوالي 70% من الإجمالي. ولهذا تساهم الرياح بنسبة كبيرة من مزيج الطاقة، وحين توقفت الطواحين نتيجة عدم وجود رياح قوية، تأثرت سلبًا شبكة الكهرباء بأكملها. وأدت سلسلة من الانقطاعات في محطات الطاقة وكابل رئيسي يربط بريطانيا بفرنسا إلى ارتفاع الأسعار في السوق.
تداعيات الأزمة
تباينت تداعيات أزمة الطاقة الأوروبية بداية من ارتفاع أسعار الغاز لمستويات قياسية إلى تأثيرات على صناعات الأسمدة والأغدية، وهو ما يُمكن عرضه على النحو الآتي:
1.صعود أسعار الغاز الطبيعي:
في ظل ارتفاع الطلب وتناقص المعروض، قفزت أسعار الغاز بنسبة 250% منذ بداية العام، وبنحو 70% منذ أغسطس الماضي، حيث جرى تداول العقود الآجلة للغاز الطبيعي القياسي للسوق الأوروبية في هولندا بحلول الرابع والعشرين من سبتمبر بسعر 71.5 يورو لكل ميجاوات/ساعة، وهو ما يتبين من الشكل الآتي:
الشكل (6): العقود الآجلة للغاز الطبيعي (يورو لكل ميجاوات/ ساعة)
2.ارتفاع تكلفة الكهرباء:
ارتفعت أسعار الكهرباء منذ بداية سبتمبر في ألمانيا وفرنسا بنحو 36% و48% على التوالي، لتصل إلى حوالي 160 يورو لكل ميجاوات/ ساعة، كما وصلت الأسعار في بريطانيا إلى 385 جنيهًا إسترلينيًا لكل ميجاوات/ ساعة ارتفاعًا من 147 جنيهًا إسترلينيًا الشهر الماضي.
وتمثل الطاقة نحو 10% من الإنفاق الاستهلاكي في أوروبا، ولذا فإن أي ارتفاع في أسعار الطاقة سيؤثر مباشرة على معدلات التضخم في المنطقة مما يضر المستهلكين ويهدد التعافي الاقتصادي في المنطقة بعد الوباء. وفيما يلي عرض لمؤشر أسعار المستهلك للطاقة في الاتحاد الأوروبي منذ بداية العام:
الشكل (7): مؤشر أسعار المستهلك للطاقة (نقطة)
يتبين من الشكل السابق ارتفاع مؤشر أسعار المستهلك للطاقة بنحو 9.4% منذ بداية العام وحتى أغسطس الماضي، مع توقعات تشير إلى احتمالية استمرار هذا الارتفاع حتى نهاية العام الجاري.
3.تضرر صناعة الغذاء:
تواجه صناعة الغذاء الأوروبية، ولا سيما في المملكة المتحدة، تهديدات جديدة بضغطٍ من تأثير أزمة إمدادات الغاز الطبيعي على صناعة الأسمدة مما أجبر العديد من المصانع والشركات على خفض إنتاجها أو إغلاق مصانعها مثل شركة “سي في إندستريز هولدنجز”. ومع تضرر صناعة الأسمدة، من المرجح أن يتأثر إنتاج ثاني أكسيد الكربون الذي يُعد منتجًا ثانويًا للصناعة ويستخدم في عمليات التغليف لإطالة صلاحية المنتج وفي تصنيع الثلج الجاف للحفاظ على المنتجات المجمدة أثناء التسليم، بالإضافة إلى أنه يُستخدم عند ذبح الدجاج وغيرها، وكل ذلك يعني أن أزمة الطاقة قد تؤثر على الأمن الغذائي الأوروبي بشكل مباشر.
4.تعطل خطط مكافحة المناخ:
يعتبر الغاز الطبيعي أحد الدعائم الرئيسية للتحول نحو الطاقة النظيفة ومكافحة المناخ، وفقًا لدراسة صادرة عن شركة “آي إتش إس ماركت” التي أظهرت أن الاستثمار في البنية التحتية للغاز سيكون عاملًا مساعدًا في دعم إزالة الكربون من نظام الطاقة على المدى الطويل. كما كشفت الدراسة أن استخدام الغاز الطبيعي في محطات الكهرباء القديمة والأقل كفاءة من شأنه أن يقلّل الانبعاثات بنسبة 50% لكل وحدة كهرباء.
ومع تنامي دور الغاز الطبيعي في خطط مكافحة المناخ، فمن الممكن أن يعيق ارتفاع أسعاره أهداف مبادرة “الصفقة الخضراء” الخاصة بالاتحاد الأوروبي للوصول إلى الحياد المناخي بحلول عام 2050.
وختامًا، ينبغي القول إن تداعيات الأزمة التي تشهدها القارة العجوز حاليًا بشأن توفير إمدادات الغاز الطبيعي لا تقتصر على البلاد الأوروبية فحسب، بل من الممكن أن تمتد إلى آسيا التي سارعت لشراء الغاز خوفًا من انتشار موجة ارتفاع الأسعار في أوروبا على نطاق أوسع.