على الرغم من التاريخ الطويل لمحاولات علماء النفس دراسة شخصيات القادة وتأثيرها على عملية صنع القرار؛ إلا أن التقدم في هذا المجال لا يزال يسير بوتيرة بطيئة للغاية، في ظل ما يشوبه من محاذير ترتبط بالتحفظ على تقديم تحليلات لشخصيات لم يتم دراستها وجهًا لوجه، وما ينطوي عليه التحليل القائم على تحليل الكتابات والسير الذاتية وغيرها من المصادر الثانوية من عدم دقة في تفسير سمات شخصيات وأنماط تفكير القادة. غير أن هناك العديد من المحاولات الجادة والنظريات التي يمكن الرجوع إليها للوصول إلى ما يشبه المقاربات التحليلية الخالية من إصدار الأحكام القاطعة حول الشخصية.
ولعلّ المتابع للأزمة الأوكرانية الروسية سيتبدّى له -دون شك- مدى تأثير سمات شخصية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونمط تفكيره ونظرته للعالم على اتجاهات الأزمة وتحولاتها، فهو بمثابة “المفتاح” لفهم ما يجري في الوقت الذي تعجز فيه أحيانًا الرؤى الاستراتيجية عن الإجابة على العديد من التساؤلات الهامة حول الأزمة وجذورها ودوافعها واتجاهاتها.
مغالطة اللاعقلانية في تقييم اتجاهات الرئيس الروسيّ
هل تسير تحركات الرئيس الروسيّ وفقًا لمبدأ العقلانية؟ وهل يُعد افتراض العقلانية عند تفسير التحركات الروسية القادمة هو المسار الأمثل؟.
أيُّ حرب في العالم تقوم على مجموعة من الاختيارات، التي يقوم بها قادة يعملون على موازنة المكاسب والخسائر المحتملة جراء كل تحرك يقومون به. يخبرنا علم النفس المعرفي أن البشر يكرهون الخسارة. وتخبرنا نظرية الاحتمالات عن الظروف التي من المحتمل أن يتخذ الأشخاص بموجبها قرارات أكثر خطورة لمنع الخسارة، بدلًا من السعي لتحقيق مكاسب. يرى الكثير من المحللين أن حسابات بوتين -في هذا الصدد- تفتقر للعقلانية، بل إنّ هناك من يذهب بعيدًا ليُشكّك في الحالة العقلية للرئيس الروسي؛ إلا أن المعضلة الكبرى التي تواجه معظم التحليلات السياسية للقادة تتمثل في “الذاتية” والاعتماد على نظرية لعب الأدوار. والحقيقة هي أنك بمجرد “أن تضع نفسك في موضع الآخر” فإن هذا لن يضمن لك بالضرورة التمكّن من الدخول في عمق تفكيره، وموازنة الأمور وفقًا لحساباته. وفي الوقت الذي يرى فيه الغرب تحركات الرئيس الروسي وكأنها تصرفات غير محسوبة؛ ترى حسابات المنطق الروسي أنها التحركات المثلى.
يرى بينوا فيتكين Benoît Vitkine، مراسل صحيفة «لوموند» الفرنسية اليومية في موسكو، أن إحساس بوتين بالوقت يدفعه إلى اتخاذ إجراءات أكثر حسمًا ضد كييف، ويصف الطموحات السياسية للرئيس الروسي بأنها مثل عمره (يبلغ 70 عامًا في أكتوبر)، تصطدم بضغط الوقت المتبقي لبناء حلم الإمبراطورية. في عام 2015 وعلى صفحات صحيفة «نيوزويك» كتب «جيرولد بوست» Jerrold M. Post عضو الجمعية الأمريكية للطب النفسي وهو واحد من أبرز علماء النفس السياسي، عن بوتين قائلًا: “… يرى نفسه قيصر اليوم المسئول عن الشعوب الناطقة بالروسية. لكن الشخص الأكثر أهمية بالنسبة له هو بوتين نفسه، وليس الشعب الروسي”. وفي تحليل نفسي مفصل اتسم بالكثير من التحامل، أرجع بوست الطبيعة الصارمة لبوتين إلى مشاكل في الطفولة نتيجة لتعرّضه للتنمر الذي دفعه نحو تعلّم مهارات الجودو.
بمطالعة وسائل الإعلام الغربية والأمريكية -بشكل خاص- ستجد العديد من التحليلات النفسية التي تتجه بعيدًا عند محاولتها تفسير تحركات الرئيس الروسي ونظرته للعالم من بعد سيكولوجي بحت، ولكن سيظهر لك بوضوح كمّ الذاتية في تلك التحليلات التي أدت -في أحيان كثيرة- إلى نقص القدرة التنبؤية فيما يتعلق بأفعال روسيا، أو إلى تنبؤات عاطفية مبالغة تتّجه جميعها إلى إثبات فرضية “لا عقلانية الرئيس الروسي”، وهي مغالطة أصلية سيترتب عليها حزمة من المغالطات الأخرى عند تفسير التحركات الحالية أو محاولة استشراف/التنبؤ بردود فعل الرئيس الروسي حيال التحركات الغربية المحتملة. حتى من يميلون لتبنّي رؤى أكثر حيادية ينظرون إلى الرئيس الروسي على أنه قائد تكتيكي وليس استراتيجيًا، وهي أيضًا ثنائية مغلوطة، يبدو خطؤها بوضوح عند تأمل قدرة بوتين على التكيف فيما يتعلق بتحديات السياسة الخارجية. ففي أحيان كثيرة كان الرئيس الروسي يُظهر مرونة بارعة، ويتمكن من عكس مساره وتغيير أولوياته دون انحراف عن الاهتمامات الاستراتيجية الرئيسية وشعوره بالمصلحة الوطنية لروسيا.
ثنائية المظلومية والانتقام
عقب أزمة رهائن مدرسة بسلان أو كما يطلق عليها “مجزرة بسلان” التي وقعت في 1 سبتمبر 2004، ونتج عنها مقتل حوالي 320 رهينة، علّق الرئيس الروسي قائلًا إن روسيا قد تعرضت للهجوم “بسبب ضعفها”. عند تبني منظور الرئيس الروسي حيال روسيا وعلاقتها بالعالم تبدو بوضوح ثنائية المظلومية والانتقام كدافع رئيسي لتحركات الرئيس الروسي الذي يصف الانهيار السوفيتي بأنه “كارثة جيوسياسية ضخمة” في القرن العشرين، ويأسف علانية حيال حقيقة أن 25 مليون روسي قد وجدوا أنفسهم خارج روسيا، وينتقد أيضًا علانية حقيقة أن 12 مليون روسي وجدوا أنفسهم في الدولة الأوكرانية الجديدة. كما كتب في مقاله المؤلف من 5000 كلمة المنشور في الصيف الماضي بعنوان “حول الوحدة التاريخية للروس والأوكرانيين”: “في عام 1991، وجد الناس أنفسهم في الخارج بين عشية وضحاها، وقد أخذوا هذه المرة بالفعل من وطنهم التاريخي”، علمًا بأن مقالته تم توزيعها على القوات الروسية.
يقول إيان روبرتسون Ian H. Robertson، أستاذ علم النفس بجامعة تكساس: “لا يساورني شك في أن بوتين يشعر بالإهانة الشخصية بسبب سقوط الاتحاد السوفيتي وإمبراطورتيه، وأنه سيعمل بجد أكبر من أجل تعويض هذا الإذلال من خلال المزيد من المغامرات الخطرة. سوف يكون مدفوعًا أكثر بشعوره بالتفوق الشخصي والوطني على القوى الغربية الضعيفة والمفككة والجبانة، كما يراها على الأرجح”. والحقيقة هي أن رواية الخسارة للغرب هذه ترتبط بهوس خاص لدى بوتين الذي يرى أن مخاوفه مبررة، فبعيدًا عن كل شيء لقد تعرضت روسيا على مدار تاريخها للغزو المتكرر من الغرب، وتمتلئ وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الحكومة بالمزاعم بأن أوكرانيا يمكن أن تكون منصة انطلاق لعدوان الناتو، وهو ما كتبه بوتين في مقاله عام 2021 بأن أوكرانيا تتحول إلى “نقطة انطلاق ضد روسيا”. ولعلّ ما يميل العديد من المحللين إلى إغفاله هو إحساس بوتين الانتقامي القوي بتجديد فخر روسيا ومكانتها في العالم، هذا الشعور الذي تم دعمه وإذكاؤه على المستوى الشعبي، وهو ما يفسر ارتفاع معدلات شعبية بوتين السياسية (من 70-80٪ في معظم فترة ولايته) والتي لا يمكن لأي سياسي آخر في روسيا أن يضاهيها.
وبالنظر إلى ما كتبه هنري كيسنجر Henry Kissinger عندما تحدث عن الاتحاد السوفيتي قائلًا: “الأمن المطلق لطرف ما يجب أن يعني انعدام الأمن المطلق لجميع الأطراف الأخرى”، سيبدو بوضوح مدى تطابقه مع السلوك الحالي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولكنه يُثير في الوقت نفسه تساؤلًا هامًا مؤداه: هل الأمن المطلق لروسيا هو جلّ طموحات الرئيس الروسي؟ أم أنه يتجه إلى ما هو أبعد من ذلك؟.
يعتقد بوتين أن لروسيا حقًا مطلقًا في مجال المصالح المتميزة في فضاء ما بعد الاتحاد السوفيتي. وهذا يعني أن جيرانها من الاتحاد السوفيتي السابق يجب ألا ينضموا إلى أي تحالفات تُعتبر معادية لموسكو، ولا سيما الناتو أو الاتحاد الأوروبي. وقد أوضح بوتين هذا المطلب في المعاهدتين اللتين اقترحهما الكرملين في 17 ديسمبر، واللتين تطالبان أوكرانيا ودول ما بعد الاتحاد السوفيتي الأخرى، وكذلك السويد وفنلندا، بالالتزام بالحياد الدائم وتجنب السعي للحصول على عضوية الناتو. كما سيتعين على الناتو أن يتراجع إلى وضعه العسكري في عام 1997، قبل توسعه الأول، عن طريق إزالة جميع القوات والمعدات في وسط وشرق أوروبا (وهذا من شأنه أن يقلل الوجود العسكري لحلف الناتو إلى ما كان عليه عندما تفكك الاتحاد السوفيتي). كما سيكون لروسيا حقّ النقض (الفيتو) على خيارات السياسة الخارجية لجيرانها من خارج الناتو. وبالنظر لمطالب الرئيس الروسي يتبدى تصميمه على إعادة تأكيد حق روسيا في تقييد الخيارات السيادية لجيرانها وحلفائها السابقين في حلف وارسو، وإجبار الغرب على قبول هذه القيود، سواء كان ذلك عن طريق الدبلوماسية أو القوة العسكرية.
معضلة السيادة في عقل بوتين
لقد كتب الرئيس بوتين في سيرته الذاتية: “أعتبر أن من واجبي المقدس توحيد شعب روسيا، وحشد المواطنين حول أهداف ومهام واضحة، وتذكر كل يوم وكل دقيقة أن لدينا وطنًا واحدًا، وشعبًا واحدًا، ومستقبلًا واحدًا..”. هنا تبدو بوضوحٍ رغبة الرئيس الروسي في “توحيد شعب روسيا”، ولكن مع الأخذ في الاعتبار أنّ تفسير الكرملين للسيادة له أوجه تشابه ملحوظة مع تفسير الاتحاد السوفيتي الذي يرى أن دولًا مثل أوكرانيا -على سبيل المثال- ليست ذات سيادة كاملة. يقول ألكسندر باونوف Alexander Baunov، وهو زميل بارز في مركز كارنيجي في موسكو: “بعد سنوات عديدة في السلطة، يرى بوتين نفسه مسئولًا عن صياغة النظام النهائي لما بعد الاتحاد السوفيتي”. “بهذا المعنى، فإن العديد من الأحداث أو الحقائق التي قد يبدو أنها لا رجوع فيها تاريخيًا هي -من وجهة نظره- أخطاء لا يزال يتعين تصحيحها”. وتقول أنجيلا ستنت: “لقد أدت مطالب بوتين إلى اقتراحات بأنه رجل من القرن التاسع عشر يعيش في القرن الحادي والعشرين، حيث يحاول بوتين بالفعل إعادة عقارب الساعة إلى الوراء عن طريق التراجع عن نظام ما بعد الحرب الباردة”.
والحقيقة أن نظرة بوتين إلى كييف لا تختلف كثيرًا عن نظرة الشعب الروسي الذي ترسّخ لديه الإدراك بأن كييف هي “أم” جميع المدن الروسية، التي باعت نفسها “للغرب”، وتم التلاعب بها وتحويلها إلى أداة ضد روسيا، بينما ينظر للأوكرانيين والبيلاروسيين على أنهم “الإخوة الأصغر سنًّا للروس”، وهو تعريف قائم على الوصاية والرعاية في الوقت نفسه، فهناك رسالة ثابتة في الدعاية اليومية خلال سنوات بوتين تتمثل في أن: الغرب هو عدو روسيا الذي يبذل كل ما في وسعه لإبقائها على ركبتيها، بينما يرى الزعيم الروسي نفسه على وجه التحديد كبطل يجب أن يهزم المنافس (الولايات المتحدة) ويحمي الأم (روسيا الكبيرة، التي ليست فقط روسيا، ولكن جميع أراضي الإمبراطورية).
وبالتالي فإنّ عقل الرئيس الروسي ينظر إلى الغزو الروسي لأوكرانيا بوصفه “عملية إنقاذ” ومحاولة للمّ شمل العائلة التي تفككت بفعل الفتن والدخلاء، في ظل إصرار قائم لم يتغير على أن كل هذه البلدان المختلفة هي في الواقع “شعب واحد”، كتلة واحدة مصيرها البقاء إلى الأبد في كيان واحد مشترك، وعلى الرغم من أنّ الإشارات إلى “الإخوة الصغار” و”الأم كييف” هي مجازات قديمة متأصلة في الثقافة الروسية؛ إلا أن الابتكار الأحدث هو تصوير وزارة الخارجية الروسية للبلدان التي اعتادت أن تكون في الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو، مثل التشيك وإستونيا وبولندا، على أنها دول “يتيمة” تنتظر عودة الأب موسكو.
وعلى الرغم من صعوبة توقّع قرارات الرئيس الروسي وتحركاته القادمة، للحد الذي دفع مجلة «L’Express» الفرنسية نحو وصفه بأنه “لاعب بوكر يصعب توقع قراراته”؛ إلا أن هدفه الرئيسي من غزو أوكرانيا يبدو واضحًا دون التباس، حيث لا تمثل أوكرانيا للرئيس الروسي فقط محاولة لإحياء حلم الاتحاد السوفيتي أو توسيع الأراضي الروسية، وإنما هي فرصة روسيا لإعادة تأكيد أهميتها الجيوسياسية، وبالتالي -وكما يرى بوتين- فإن التهديد بالحرب وحده هو الذي يمكن أن يعيد فتح محادثات حول أمور شعر الغرب، وكأنها تاريخ مستقر، فإذا انضمت أوكرانيا إلى الناتو أو انجذبت إلى تحالف عسكري فإن مشروع بوتين قد فشل، بينما إذا تم منع أوكرانيا من القيام بذلك، فقد أدى بوتين دوره التاريخي. وبالتالي، ووفقًا لما كتبه جريج يودين Greg Yudin، عالم الاجتماع والفيلسوف والأستاذ في مدرسة موسكو للعلوم الاجتماعية والاقتصادية، فـ”بدون العملية العسكرية في أوكرانيا، لن يصبح بوتين أبدًا إمبراطورًا “لكل الأراضي الروسية”.
واستنادًا لما سبق وبالنظر إلى مجمل الدوافع والمبادئ الحاكمة لفكر وسياسة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يتضح أن جميعها يتمركز حول هدف أساسي يتمثل في دفع العالم للتعامل مع روسيا وكأنها الاتحاد السوفيتي، قوة يجب احترامها والخوف منها، تتجاوز سيادتها حدودها الجغرافية الحالية، وتمتد لتكفل لها حقوقًا في جوارها، وصوتًا في كل قضية دولية هامة. وبالتالي فإن لروسيا، بحسب بوتين، حقًا مطلقًا في الجلوس على طاولة المفاوضات في جميع القرارات الدولية الكبرى، والانتماء إلى ما يمكن أن نطلق عليه “مجلس الإدارة العالمي”، بعد ما حدث من “إذلال” في التسعينيات أجبر روسيا في ذلك الوقت على الانضمام إلى أجندة وضعتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون.