أولًا: المنظور الأوسع للاتصال السياسي: خلفية تاريخية
يمكن إرجاع ظهور الاتصال السياسي إلى العصور القديمة عندما استخدم القادة والحكام أساليب مختلفة لإيصال رسائلهم إلى الجمهور. في الحضارات المبكرة، مثل مصر القديمة، استخدم الحكام الرموز والكتابة الهيروغليفية في الآثار والهياكل العامة للتعبير عن قوتهم وإعلان إنجازاتهم للناس. مع تطور المجتمعات، تطور التواصل السياسي أيضًا. في اليونان القديمة، لعب مفهوم البلاغة دورًا مهمًا في التواصل السياسي. استخدم مفكرون كبار مثل أرسطو وديموسثينيس خطابات مقنعة للتأثير على الرأي العام وكسب الدعم لأجنداتهم السياسية. وفي عصر الإمبراطورية الرومانية، اتخذت الاتصالات السياسية شكل إعلانات مكتوبة، وخطب في مجلس الشيوخ، واستخدام المبعوثين لنشر المعلومات عبر الأراضي الشاسعة. وقد أحدث اختراع المطبعة في القرن الخامس عشر ثورة في التواصل السياسي، من خلال توزيع المعلومات والأفكار السياسية على نطاق أوسع من خلال المواد المطبوعة، مثل الصحف والنشرات والكتب. وقد مهد هذا الطريق لانتشار الأيديولوجيات السياسية خلال فترة التنوير.
في التاريخ الحديث، أدى ظهور الراديو والتلفزيون إلى مزيد من التحول في الاتصال السياسي. يمكن للسياسيين الآن مخاطبة الجماهير بشكل مباشر من خلال البث المباشر والوصول إلى جمهور أكبر وتشكيل التصورات العامة. ومع ظهور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، شهد التواصل السياسي ثورة أخرى. فيمكن للقادة السياسيين والمرشحين في الانتخابات التفاعل مع الجمهور بشكل فوري واستخدام الرسائل المستهدفة بناءً على تحليل البيانات.
ومن أمثلة التواصل السياسي عبر التاريخ، حجر رشيد في مصر القديمة، والذي تضمن نقوشًا في ثلاثة نصوص ولعب دورًا مهمًا في فك رموز الهيروغليفية، وإظهار قوة الحكام. كما خطب بريكليس في أثينا القديمة، والتي ألهمت وحفزت خطبه المواطنين خلال قيادته في الحرب البيلوبونيسية. وأطلقت أطروحات مارتن لوثر الـ 95، التي طُبعت ووزعت في القرن السادس عشر، شرارة الإصلاح البروتستانتي وتحدي سلطة الكنيسة الكاثوليكية. وفي الدولة الأمريكية ظهرت “الأوراق الفيدرالية” وهي سلسلة من المقالات كتبها ألكسندر هاملتون، وجيمس ماديسون، وجون جاي، تدعو إلى التصديق على الدستور. وقد أحدث اختراع التلغراف في ثلاثينيات القرن التاسع عشر ثورة في الاتصالات بعيدة المدى. وقد أتاح النقل السريع للأخبار والمعلومات عبر المناطق والبلدان، مما أثر على المناقشات السياسية وحشد الرأي العام. كما سمح ظهور الصحف واسعة الانتشار في أواخر القرن التاسع عشر بنشر الأخبار السياسية بشكل أكثر سهولة، وتشكيل التصورات العامة، وتصبح أدوات قوية للنقاش وفي قدرة الأحزاب السياسية والمرشحين على الوصول إلى الناخبين. وأحدث الإنترنت وشبكة الويب العالمية ثورة في التواصل السياسي من خلال تمكين النشر السريع للمعلومات وتسهيل التفاعل التفاعلي مع الجمهور. وفي العقد الأخير، يأتي استخدام منصات التواصل الاجتماعي مثل Twitter وFacebook من قبل السياسيين المعاصرين للتفاعل مع الناخبين بشكل مباشر وتشكيل الخطاب العام.
ويشهد القرن الحادي والعشرون أيضًا مخاوف ومناقشات حول اتساع عمليات التضليل وانتشار “الأخبار الكاذبة” في العصر الرقمي، مما أثر على الخطاب السياسي وثقة الجمهور في وسائل الإعلام التقليدية والمؤسسات السياسية. بشكل عام، تم تشكيل تطور الاتصال السياسي الحديث من خلال التقدم التكنولوجي، وإمكانية الوصول إلى وسائل الإعلام، والتفضيلات والسلوكيات المتغيرة للجمهور، مما أدى إلى تحول مستمر في كيفية صياغة الرسائل السياسية وطرق الوصول بها إلى الجمهور المستهدف. إن المتتبع لتطور وسائل الإعلام وتشعب أهدافه عبر العصور والأزمنة السابقة وصولًا إلى ما يعرف بعصر المعلوماتية وما تبعها من ثورة رقمية، يدرك إدراكًا يقينيًا ما تمتلكه شتى هذه الوسائل من قدرة على التأثير والإقناع وتوجيه الرأي العام، إذ أصبح الإعلام بوجهيه التقليدي والإلكتروني، اليوم، عمودًا أساسيًا للعملية التنموية عمومًا، وعنصرًا متزايد الأهمية في التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي على حد سواء، متجاوزًا كافة الحدود والحواجز المادية بين الأفراد والدول والقارات.
ثانيًا: تعريف الإعلام السياسي
الإعلام السياسي (أو الصحافة السياسية) هي عملية جمع وتقييم ونشر المعلومات حول الأحداث الجارية أو الأخبار المتعلقة بالسياسة. ويشير الإعلام السياسي إلى القنوات والمنصات والمحتوى الذي يستخدمه السياسيون والأحزاب السياسية والمؤسسات الحكومية لنشر المعلومات والتأثير على الرأي العام والتواصل مع المواطنين. وهي تشمل أشكالًا مختلفة من الاتصال، مثل البث التلفزيوني، والبرامج الإذاعية والصحف، ومنصات التواصل الاجتماعي، والمواقع الإلكترونية الرسمية، والبيانات الصحفية، والإعلانات السياسية. وبمعنى عام، فإن الصحافة السياسية، أو الإعلام السياسي، أحد الفروع الرئيسية لمهنة الصحافة، تقوم بجمع الأخبار حول الحكومة والسياسات العامة وتحللها لإنتاج قصص للجمهور.
تغير الإعلام السياسي أو الصحافة السياسية بشكل جذري في العقد الماضي، فلم يعد الأمر يتعلق فقط بالتعريف بما حدث ولكن أيضًا تحليله وإعطاء سياق للأحداث. وتنتج صناعة الصحافة السياسية أخبارًا بمصادر أكثر موثوقية، فيما تندمج الصحف مع الإنترنت لتقديم منظور مختلف للأخبار. وهناك ما يعرف بمشهد الإعلام السياسي Political Media Landscape وهو النظام البيئي العام لوسائل الإعلام Ecosystem of Media Outlets، الرسمية وغير الرسمية، التي تغطي الأخبار والمعلومات السياسية. وهي تشمل مصادر وسائل الإعلام التقليدية مثل الصحف وشبكات التلفزيون، فضلًا عن المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية المستقلة. يلعب المشهد الإعلامي السياسي دورًا حاسمًا في تشكيل الخطاب العام والنقاشات السياسية ونشر الرسائل السياسية. ويشهد الإعلام السياسي اليوم نمطًا أكثر تفاعلية. فبدلًا من مجرد قراءة الأخبار، قد يتمكن المتابع من زيارة المواقع الإلكترونية ومشاهدة مقطع فيديو أو زيارة موقع ومناقشة صاحب المحتوى السياسي في مضمون المشكلات المطروحة. لكنّ هناك تباينًا بين الإعلام السياسي والاتصال السياسي.
ثالثًا: الفارق بين الإعلام السياسي والاتصال السياسي
تباين تعريف “الإعلام السياسي” حسب اجتهادات علماء السياسة والإعلام، فهناك تعريف سكدسون بأنه يمثل “عملية نقل للرسالة بهدف التأثير على استخدام السلطة أو الترويج لها في المجتمع”، في حين اعتبره آخرون أنه “نشاط سياسي موجه يقوم به السياسيون أو الإعلاميون أو عامة الناس يعكس أهدافًا سياسية محددة تتعلق بقضايا البيئة السياسية، والتأثير في الحكومة أو الرأي العام أو الحياة الخاصة للأفراد والشعوب من خلال وسائل الاتصال”.
في المقابل، يُشير “الاتصال السياسي” إلى عملية تبادل المعلومات والأفكار بين الفاعلين السياسيين والجمهور أو بين الأفراد أو الجماعات أو المؤسسات داخل المجال السياسي، ويشمل أشكال مختلفة من الاتصال مثل الخطب السياسية والمناقشات والبيانات الصحفية والخطابات العامة. ويلعب الاتصال السياسي دورًا حاسمًا في تشكيل الرأي العام وتعبئة الناخبين ونشر الرسائل السياسية. من ناحية أخرى، يشمل الإعلام السياسي القنوات والمنصات التي يتم من خلالها التواصل السياسي. ويشمل ذلك وسائل الإعلام التقليدية مثل الصحف والتلفزيون والراديو، فضلًا عن منصات الوسائط الرقمية مثل وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية على الإنترنت والمدونات السياسية.
وينطوي الاتصال السياسي على مفهوم أوسع للغاية وأكثر تنوعًا للتواصل الاجتماعي، لأنه يحتوي على العناصر والدعاية والإعلانات ومواد العلاقات العامة وأخيرًا ما يسمى بالتسويق السياسي. وقد كان الاتصال السياسي اتصالًا أحادي الاتجاه، في غالبيته، في السابق، قبل أن تتغير طبيعة الاتصال السياسي تحت تأثير استخدام وسائل التواصل الحديث، حيث تتيح الوسائط الجديدة وشبكة الإنترنت إمكانية تلقي ردود فعل أسرع وتبادل غير محدود للرسائل. إنهم يحولون الاتصال السياسي أحادي الاتجاه إلى اتصال ثنائي الاتجاه، مما يتيح إمكانية الاستجابة السريعة للمواطنين ومتلقي الرسائل السياسية للمضمون.
فمن الصعب الحديث عن الاتصال السياسي الآن دون الالتفات إلى وسائل الإعلام. ويكمن الاتصال الجماهيري في صميم الاتصال السياسي، لأن الجمهور في المجتمعات الحديثة يحصلون على المعلومات ويصيغون آراءهم السياسية بصورة أساسية من خلال وسائل الإعلام، وفي المقام الأول من خلال قنوات التلفزيون. إن الإعلام اليوم أصبح أداة في أيدي السياسيين. وتقوم وسائل الإعلام بدور الوسيط في تمرير رسائل سياسية محددة، لا تخدم فقط الإعلام، ولكن الأهم من ذلك كله التأثير وبناء صورة عامة بعينها. من الواضح من السياق السابق، أنه في حالة الاتصال السياسي، يتم تقليص دور وسائل الإعلام إلى دور (الوسيط) في نقل رسائل الأحزاب السياسية والمؤسسات والسلطات العامة والنخب السياسية إلى المواطنين. فلا يمكن للاتصال السياسي الوصول بسرعة وبشكل فوري إلى الجمهور العريض، ومع ذلك، يجب أن نتذكر أن وسائل الإعلام هي مشارك نشط في الاتصال السياسي.
وبالتالي، لا تقوم وسائل الإعلام دائمًا بنقل الرسالة بطريقة تتفق مع قصد مرسل الرسالة (الفاعل السياسي). غالبًا ما يتم تحريفه أو عرضه للتفسير أو استخدامه في سياق آخر أو يتم تجنبه فقط. فلا جدال في أن وسائل الإعلام تملي قواعد لعبتها وغالبًا ما تحيل الموقف السياسي إلى مشهد في عرض أو مسرحية. ويوجه الاتهام لوسائل الإعلام دائمًا بالتحيز والتلاعب بالحقائق (من خلال تقديم التفسير أو شكل العرض). هذا لا يغير حقيقة أن وسائل الإعلام هي عنصر أساسي في الاتصال السياسي، وبدون وصولها إلى جمهور عريض من المتلقين سيكون من المستحيل عمليًا وصول الرسالة المقصودة. فالاتصال السياسي، كما ذكرنا سابقًا، هو اتصال يتم عبر وسيط كبير ينتقل عبر الوسائط المطبوعة والإلكترونية.
التواصل السياسي ذو الطبيعة المباشرة مهم ولا يزال مستخدمًا ولا يمكن إغفاله. يلتقي السياسيون مع المواطنين ويتحدثون معهم ويستمعون إلى ما يود الناخبون إبلاغهم به. ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن هذا النشاط، الاتصال المباشر، ينعكس في مجال الاتصال غير المباشر. إن الهدف الرئيسي لهذه الأشكال المختلفة من السياسة المباشرة هو وضع الشخص أو الرسالة على أجندة وسائل الإعلام، إما في عبر دورات الأخبار أثناء فترة الذروة أو في البرامج الحوارية الإذاعية، أو في تعليقات صحفية في وسائل مقروءة أو إلكترونية.
أوجه التمييز بين الإعلام السياسي والاتصال السياسي
النطاق والوصول Scope and Reach: يمكن أن يحدث الاتصال السياسي من خلال وسائل مختلفة تتجاوز وسائل الإعلام، مثل التفاعل المباشر مع الجماهير. في المقابل، تركز وسائل الإعلام السياسية على نشر المعلومات من خلال قنوات الاتصال الجماهيري، ومن المحتمل أن تصل إلى جمهور أوسع من المستهدفين في عمليات الاتصال السياسي.
التحكم Control: يسمح الاتصال السياسي للسياسيين بمزيد من التحكم في رسائلهم والمحتوى الذي يقدمونه. بينما تتيح وسائل الإعلام السياسية، وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي، النشر السريع للمعلومات ولكنها قد تخضع أيضًا لإمكانية نشر معلومات مضللة أو محتوى خارج عن سيطرة القائمين على صناعة القرار السياسي.
إشراك الجمهور Audience Engagement : توفر وسائل الإعلام السياسية المزيد من الفرص للمشاركة التفاعلية مع الجمهور من خلال التعليقات والمشاركات وردود الفعل. في المقابل، قد لا يقدم الاتصال السياسي التقليدي نفس المستوى من المشاركة المباشرة.
التأثير والتحيز Influence and Bias : يمكن أن يكون للإعلام السياسي تحيزات متأصلة اعتمادًا على القائم بالاتصال أو نمط الملكية أو السياسة التحريرية. وقد يكون للتواصل السياسي، رغم تأثره بمنظور القائم بالاتصال، قدرة على الوصول المباشر بشكل أوقع بالرسائل المستهدفة من جانب رجل السياسة دون مرورها على مصفاة مثلما هو الحال في وسائل الإعلام.
التنظيم والأخلاقيات Regulations and Ethics: غالبًا ما تواجه وسائل الإعلام السياسية مدونات رسمية تتعلق بالمعايير الصحفية الواجب اتّباعها، في حين أن الاتصال السياسي قد يخضع للاعتبارات الأخلاقية وقواعد السلوك الخاصة بالتفاعلات السياسية.
تستخدم الأنظمة السياسية كلا من الاتصال السياسي ووسائل الإعلام السياسية كأدوات قوية لتحقيق أجنداتها، والسيطرة على المعلومات، والحفاظ على السلطة. ومن الوسائل الشائعة لاستخدام هذه الأدوات:
الدعاية: قد تستخدم الأنظمة السياسية الدعاية من خلال وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة لنشر المعلومات المتحيزة التي تدعم أيديولوجياتها وقمع الآراء المعارضة.
بناء الصورة: غالبًا ما تستخدم الأنظمة استراتيجيات الاتصال السياسي لخلق تصورات إيجابية عن قادتها وسياساتها، وتسليط الضوء على الإنجازات والتقليل من شأن الإخفاقات.
السيطرة على وسائل الإعلام: تمارس بعض الأنظمة سيطرتها على وسائل الإعلام، وتقييد الصحافة المستقلة وتفرض الرقابة على الأصوات المعارضة للتلاعب بالرأي العام.
التضليل الإعلامي: باستخدام وسائل الإعلام السياسية، قد تنشر الأنظمة معلومات كاذبة أو نظريات مؤامرة لإرباك وتضليل الجمهور وخصومهم.
الحملات السياسية: تستخدم الأنظمة الاتصالات السياسية لإدارة حملات تروج لسياساتها أو مبادراتها، بهدف حشد الدعم الشعبي والشرعية.
قمع المعارضة: يمكن استخدام الاتصال السياسي ووسائل الإعلام لتقويض المعارضين السياسيين وتصويرهم بشكل سلبي لإضعاف نفوذهم.
رابعًا: أمثلة عن فاعلية وسائل الإعلام السياسية في تنفيذ استراتيجيات محددة
١- حملة باراك أوباما لوسائل الإعلام الاجتماعية (2008 و2012): خلال حملات الرئاسية في عامي 2008 و2012، استخدم باراك أوباما وسائل التواصل الاجتماعي بشكل فعال للتواصل مع الناخبين. استفاد فريقه من منصات مثل Twitter وFacebook وYouTube لمشاركة الناخبين في المواقف السياسية ولحظات ما وراء الكواليس والقصص الشخصية. سمح استخدام وسائل الإعلام الرقمية في الحملة لأوباما بالوصول إلى جمهور أصغر سنًا وتعزيز الشعور بالتوافق مع أفكار المرشح الديمقراطي. وأصبحت تغريدة أوباما التي حملت عنوان “أربع سنوات أخرى” بعد فوزه في إعادة انتخابه في عام 2012 واحدة من أكثر المشاركات التي أُعيد تغريدها على Twitter في ذلك الوقت، مما يدل على قوة وسائل التواصل الاجتماعي في توصيل الرسائل السياسية في الحقبة الحالية.
٢- منبر عرائض التماسات البيت الأبيض: كانت منصة التماس “نحن الشعب”، التي أطلقتها إدارة أوباما في عام 2011، مثالًا على التفاعل التفاعلي مع المواطنين. لقد سمحت المنصة للأمريكيين بإنشاء وتوقيع التماسات حول قضايا مختلفة، وأي عريضة وصلت إلى عتبة معينة من التوقيعات تلقت ردًا رسميًا من البيت الأبيض، حيث عززت هذه المبادرة مشاركة المواطنين، مما سمح للناس بالتعبير مباشرة عن اهتماماتهم وأولوياتهم.
٣- ناريندرا مودي: خلال الانتخابات العامة في الهند لعام 2014، أصبحت حملة “Chai Pe Charcha” أو (Chat over Tea) التي يقودها رئيس الوزراء الآن ناريندرا مودي مثالًا بارزًا لسرد القصص والجاذبية العاطفية. عقد “مودي” جلسات شاي تفاعلية مع الناخبين في جميع أنحاء البلاد، حيث شارك الحكايات الشخصية وتواصل مع المواطنين على مستوى غير رسمي بدرجة أكبر. استخدمت الحملة وسائل التواصل الاجتماعي لنشر هذه التفاعلات، وجعلها في متناول جمهور أوسع وخلق صورة إيجابية عن المرشح.
٤- البودكاست من قبل السياسيين: تبنى العديد من السياسيين في جميع أنحاء العالم البث الصوتي كوسيلة لمشاركة أفكارهم مباشرة مع ناخبيهم. على سبيل المثال، أطلق بيتو أورورك، وهو سياسي أمريكي، سلسلة بودكاست خلال حملته الرئاسية لعام 2020. من خلال الاستفادة من هذه الوسيلة، قدم المرشح منظورًا أكثر عمقًا حول مختلف القضايا وقدم منصة للمحادثات ثنائية الاتجاه مع المستمعين، بهدف تعزيز المشاركة وإمكانية الوصول بأرائهم إلى من يسعي إلى الفوز منصب عام.
٥- الديمقراطية الرقمية في تايوان: تشتهر تايوان بنهجها المبتكر في الديمقراطية الرقمية. أنشأت الحكومة منصات رقمية مختلفة تسمح للمواطنين بالمشاركة في عمليات صنع القرار والتواصل المباشر مع المسئولين. منصة vTaiwan، على سبيل المثال، تتيح المشاورات والمناقشات عبر الإنترنت حول مسائل السياسة، وتمكين المواطنين من المساهمة في عملية صنع السياسات.
توضح هذه الأمثلة كيف يمكن لوسائل الإعلام السياسية الرسمية وغير الرسمية التفاعل بشكل فعال مع المواطنين، والاستفادة من رواية القصص والجاذبية العاطفية، والاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من المنصات الرقمية، وإنشاء قنوات تفاعلية للمشاركات العامة. ويسلط نجاح هذه الاستراتيجيات الضوء على أهمية التكيف مع التطورات التكنولوجية والتركيز على إجراء مقابلات مع المواطنين أينما كانوا، مما يؤدي في النهاية إلى تعزيز العلاقة بين السياسيين والجمهور.
خامسًا: مظاهر وحدود تأثير وسائل الإعلام الجديد في الإعلام السياسي
يبشر العصر الرقمي بعصر جديد من الاتصال السياسي والإعلام السياسي. فقد أحدث العصر الرقمي بالفعل تحولات كبيرة في الاتصال السياسي والإعلام، على نحو تدعمه الدراسات الأكاديمية. ومن مظاهر التحول الكبير زيادة إمكانية الوصول والمشاركة. فقد أظهرت الأبحاث أن منصات الوسائط الرقمية، مثل وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية على الإنترنت، قد وسعت من إمكانية الوصول إلى المعلومات السياسية لجمهور أوسع. يمكن للناس الآن الانخراط في المحتوى السياسي بسهولة أكبر والمشاركة في المناقشات السياسية، وتعزيز بيئة سياسية أكثر شمولًا وتشاركية. كما أن التواصل المباشر للسياسيين مع الناخبين صار أكثر سهولة من خلال منصات التواصل الاجتماعي، متجاوزين بوابات وسائل الإعلام التقليدية.
تسمح الوسائط الرقمية بالنشر الآني للأخبار السياسية وإجراء التحديثات الفورية، حيث أظهرت الدراسات أن الأحداث والتطورات السياسية يمكن أن تنتشر بسرعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مما يؤدي إلى زيادة الوعي والمشاركة بين الجمهور. كما سهلت وسائل الإعلام الرقمية تشكيل مجتمعات في الفضاء الإلكتروني، حيث يتشارك الأفراد ذوو التفكير المتماثل معتقداتهم السياسية ويعززونها فيما بينهم. وقد أشارت الأبحاث إلى أن “غرف الصدى” هذه يمكن أن تساهم في زيادة الاستقطاب السياسي والتعرض المحدود لوجهات النظر المتنوعة. من جانبها، تستخدم منصات الوسائط الرقمية الخوارزميات لتخصيص المحتوى للمستخدمين الأفراد بناء على تفضيلاتهم وسلوكياتهم. ويمكن أن يعزز هذا النهج الشخصي للتواصل السياسي القائم على تعزيز المعتقدات القائمة، ولكنه قد يحد أيضًا من التعرض لوجهات النظر المعارضة.
وبشأن دور العصر الرقمي في زيادة المشاركة السياسية، تشير بعض الدراسات إلى أن العصر الرقمي قد ساهم في مستويات أعلى من المشاركة السياسية، خاصة بين الأجيال الشابة، حيث ارتبطت منصات وسائل التواصل الاجتماعي بزيادة المشاركة في المناقشات والنشاط السياسي. وبصورة عامة، تؤكد الدراسات الحديثة أن العصر الرقمي قد أعاد تشكيل التواصل السياسي والإعلام السياسي بشكل عميق. في حين أنه أدى إلى إضفاء الطابع الديمقراطي على الوصول إلى المعلومات ومكّن السياسيين من التواصل المباشر مع الناخبين، فقد أدي أيضًا إلى ظهور تحديات تتعلق بمصداقية المعلومات والاستقطاب والتلاعب المحتمل في الخطاب العام. ويعد فهم هذه الديناميكيات أمرًا بالغ الأهمية لصانعي السياسات والمهنيين الإعلاميين والجمهور من أجل التعامل مع المعلومات الرقمية بمسئولية ونزاهة. في العقد الأخير، برز دور وسائل التواصل الاجتماعي في تسهيل التعبئة السياسية والحركات الشعبية، حيث لعبت منصات مثل Twitter وFacebook دورًا أساسيًا في تنظيم الاحتجاجات، والدفاع عن القضايا السياسية، وتضخيم الأصوات المهمشة.
كما شهد العصر الرقمي الانتشار السريع للمحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي Viral Content مما أدى إلى ظاهرة تُعرف باسم “إعداد جدول الأعمال” Agenda Setting حيث تكتسب موضوعات أو قضايا معينة مكانة متميزة في الخطاب العام بناء على شعبيتها عبر الإنترنت. ويمكن أن يؤثر ذلك على التغطية الإعلامية والأولويات السياسية. كما أحدثت الوسائط الرقمية ثورة في الإعلانات السياسية، مما سمح بالاستهداف الدقيق لمجموعات ديموغرافية محددة من الناخبين. في المقابل، تنتشر اليوم الحسابات المزيفة وتتفاقم عمليات التلاعب من خلال حسابات و”روبوتات” مزيفة على وسائل التواصل الاجتماعي، يتم استخدامها لنشر الدعاية السياسية والمعلومات المضللة. كما ارتبط بالإعلام الجديد ظهور المحتوى الذي ينشئه المستخدمون وصحافة المواطن حيث مكّن صعود الإعلام الرقمي المواطنين من أن يصبحوا منشئين للمحتوى، وبالمثل، بزغ البودكاست السياسي ومنصات حوارية أخري على مواقع التواصل مناقشات وتحليلات متعمقة للقضايا السياسية، وتلبية احتياجات الجمهور المتخصص وتنويع المحتوى السياسي. في ضوء التطور السابق، سهلت وسائل الإعلام الرقمية الاتصالات السياسية عبر الوطنية، مما سمح بالتفاعلات العالمية وتبادل الأفكار عبر الحدود.
لقد أعاد العصر الرقمي تشكيل الاتصال السياسي والإعلام السياسي بشكل كبير، مما أدى إلى إتاحة مزيد من الفرص وظهور مزيد من التحديات في كل المجتمعات. في حين زادت المنصات الرقمية من الوصول إلى المعلومات، وسهلت الاتصال المباشر بين السياسيين والمواطنين، وتمكين صحافة المواطن، ظهرت أيضًا قضايا مستحدثة تتعلق بالمعلومات المضللة والاستقطاب السياسي وقضية خصوصية البيانات. يعد فهم تعقيدات تأثير العصر الرقمي على الاتصالات السياسية ووسائل الإعلام أمرًا بالغ الأهمية للتعامل مع مشهد المعلوماتية المتطور. ويتعين على صانعي السياسات والإعلاميين والمواطنين على حد سواء أن يظلوا يقظين في مواجهة هذه التحديات وتسخير إمكانات الوسائط الرقمية لصالح المجتمعات من أجل مزيد من الاستنارة والمشاركة. فيمكن للمجتمعات تسخير قوة الإعلام الجديد لإثراء الخطاب السياسي وتعزيز المشاركة السياسية والديمقراطية في العصر الرقمي.
سادسًا: كيف يتحقق إعلام سياسي رسمي فعال؟
اتفق علماء الاتصال والإعلام على ضرورة مراعاة عدد من العوامل التي يمكن أن تجعل الإعلام السياسي الرسمي أكثر فعالية في ظل المتغيرات المتلاحقة في بيئة المشهد الإعلامي المعاصر:
الشفافية والمصداقية: يمكن أن تصبح وسائل الإعلام السياسية الرسمية أكثر فعالية من خلال الإلتزام بأولوية الشفافية والمصداقية. يتضمن هذا توفير معلومات دقيقة وغير متحيزة، وتجنب الدعاية المباشرة، والانفتاح في عمليات صنع القرار. فعندما يثق المواطنون في صحة المعلومات المقدمة، فمن المرجح أن يتفاعلوا ويحترموا القنوات الإعلامية الرسمية.
المشاركة التفاعلية: لتعزيز الفعالية، يجب أن تتبنى وسائل الإعلام السياسية الرسمية استراتيجيات تفاعلية تشجع مشاركة المواطنين. يمكن أن يشمل ذلك استضافة جلسات تقوم على طرح أسئلة وأجوبة مباشرة، وإجراء اجتماعات افتراضية مفتوحة، والرد على الاستفسارات والتعليقات على منصات وسائل التواصل الاجتماعي بشكل منتظم. فمن خلال تعزيز التواصل في الاتّجاهين، يمكن للسياسيين بناء روابط أقوى مع الرأي العام ومعالجة مخاوفهم بشكل أكثر فعالية.
الاهتمام بالمنصات الرقمية: مع استمرار تطور التكنولوجيا، يجب أن تتبنى وسائل الإعلام السياسية الرسمية استراتيجية للمنصات الرقمية وأن تتكيف مع اتجاهات الاتصال المتغيرة. يجب على السياسيين الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي و”البودكاست “ومحتوى الفيديو وتطبيقات الهاتف المحمول للوصول إلى جمهور أوسع والتواصل مع المواطنين المتقدمين في استخدام التكنولوجيا والذين يستهلكون المعلومات على أجهزة مختلفة.
التخصص والاستهداف: يمكن أن يؤدي تخصيص الرسائل حسب الخصائص الديمغرافية والاهتمامات المحددة إلى تحسين فعالية وسائل الإعلام السياسية الرسمية بشكل كبير. باستخدام تحليلات البيانات والرؤى المستندة إلى الذكاء الاصطناعي، يمكن للسياسيين تخصيص المحتوى ليكون له صدى لدى مجموعات الناخبين المختلفة، مما يضمن أن تكون رسائلهم أكثر صلة وتأثيرا.
رواية القصص والتوجه العاطفي: بالإضافة إلى تقديم المواقف السياسية والمعلومات الواقعية، يمكن أن تصبح وسائل الإعلام السياسية الرسمية أكثر فاعلية من خلال استخدام تقنيات سرد القصص. يمكن للروايات التي تثير المشاعر وتنقل القصص الشخصية أن تساعد السياسيين على التواصل مع المواطنين على مستوى أعمق، مما يجعل الرسائل السياسية أكثر ارتباطًا وتذكرًا وفعالية في التواصل مع الجمهور العام.
التعاون مع المؤثرين والمنافذ الإعلامية: يمكن لوسائل الإعلام السياسية الرسمية الاستفادة من التعاون مع المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام القائمة. فالشراكة مع المؤثرين قد تسهم في الوصول إلى جماهير أصغر سنًا وأكثر تنوعًا، في حين أن التعاون مع مصادر إعلامية موثوقة يمكن أن يضفي الشرعية على المحتوى الذي يقدمه السياسيون والهيئات الحكومية.
التكيف مع دورات الإخبار السريعة: في عصر التغطية الإخبارية على مدار الساعة 24/7 واتجاهات متزايدة لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، يجب أن تكون وسائل الإعلام السياسية الرسمية سريعة الاستجابة، حيث يعد الاتصال المناسب، في الوقت المناسب، بشأن الأحداث الجارية أمرًا حاسمًا لضمان بقاء الرسالة جزءًا من الخطاب العام.
من خلال تبني هذه الاستراتيجيات، يمكن لوسائل الإعلام السياسية الرسمية أن تصبح أكثر فاعلية في التعامل مع المواطنين، وتشكيل الرأي العام، وفي نهاية المطاف تعزيز الديمقراطية القائمة على المعرفة والتشاركية.