يدور جدل، قديم جديد، حول السياسة الخارجية المصرية. هناك من يطالب بسياسة خارجية نشيطة حازمة، فى حين يوصى آخرون باتباع سياسة خارجية حذرة متحفظة. ليس هذا جدلا أكاديميا نظريا فحسب، لكنه بالأساس جدل سياسى بامتياز.
لأنصار السياسة الخارجية النشيطة الحازمة جذور قوية فى التكوين المصرى والثقافة السياسية المصرية. تتداخل السياسة الخارجية النشيطة مع الزعامة الإقليمية، وقد كانت مصر زعيمة المنطقة لفترة طويلة من العصر الحديث الذى بدأ فى القرن التاسع عشر، إذ تبوأت مصر موقع القيادة الإقليمية فترة أطول من كل القوى الإقليمية التى لعبت هذا الدور خلال القرنين الماضيين.
ارتبط تكوين الدولة المصرية الحديثة بالدور الخارجى النشيط. الحداثة المصرية كانت فى جانب كبير منها استيفاء لمتطلبات بناء جيش حديث قوى، تم استخدامه بكثافة لتنفيذ سياسة خارجية نشيطة حازمة، شارفت حدود التوسع والمغامرة. فى البدء كانت الرغبة لبناء جيش قوى، ثم جاء بعد ذلك تحديث التعليم والإدارة والاقتصاد لتوفير ضرورات جيش حديث، وكان كل ذلك جزءا من عملية التأهب لاتباع سياسة خارجية نشيطة، أداتها الرئيسية هى الجيش، الذى حارب فى إفريقيا حتى منابع النيل، والجزيرة العربية وبلاد الشام واليونان والأناضول. لم يكن المصريون الذين عاصروا هذه الحقبة سعداء بالحروب وتكلفتها العالية متمثلة فى التجنيد الإلزامى لفترات طويلة والضرائب الباهظة. لكن المصريين الذين أتوا بعد ذلك رأوا فى الجيش والحرب والتحديث والوطنية المصرية والفخر الوطنى حزمة من الأمور المتلازمة، فبدا الدور الخارجى النشيط كما لو كان جزءا لا يتجزأ من الوطنية المصرية.
الكشف عن عظمة الحضارة المصرية القديمة، بعد فك رموز لغتها، وما صاحبه من اكتشافات أثرية مدهشة، ودمج كل هذا فى وطنية مصرية حديثة ذات جذور ضاربة فى القدم؛ كل هذاعزز شعور المصريين بالسبق والجدارة والاستحقاق فى علاقاتهم بالإقليم.
حتى عندما وقعت مصر تحت الاحتلال البريطانى، فإن سبق مصر فى التحديث والتحضر رشحها لزعامة إقليمية فى مجالات الثقافة والتحديث. تحولت الزعامة المصرية إلى زعامة سياسية عندما أسس العرب الجامعة العربية فاختاروا مصر مقرا لها، واختاروا مصريا أمينا عاما لها. بعدها جاءت الحقبة الناصرية التى تزعمت فيها مصر العالم العربى بلا منازع.الحديث هنا يدور عن أكثر من مائة وخمسين عاما من الزعامة المصرية، حتى بدا الأمر لكثير من المصريين وكأن زعامة مصر للإقليم هى النظام الطبيعى للأشياء، وأن التخلى عن الزعامة هو انقلاب يخالف الناموس المستقر.
غير أن حقبة الزعامة والسياسة الخارجية النشيطة وصلت إلى نهاية غير سعيدة، بعد أن صادفت مصر سلسلة من الانتكاسات، توجتها هزيمة يونيو 1967. أدت هذه النهاية الدرامية لظهور تيارات ترفض السياسة الخارجية النشيطة، والسعى وراء الزعامة الإقليمية.دعت النسخة المتطرفة من هذا الاتجاه إلى تبنى سياسة الحياد تجاه الصراعات الإقليمية، وهى الدعوة التى أطلقها الكاتب الكبير توفيق الحكيم، وسانده فيها مثقفون آخرون، أشهرهم حسين فوزى ولويس عوض ووحيد رأفت. لم يكن لهذه الدعوة صدى مهم فى الرأى العام والمجتمع السياسى المصرى، فلم تتحول دعوة الحياد أبدا إلى تيار سياسى وكتلة كبيرة.
للسياسة الخارجية المتحفظة نسخة أكثر شيوعا، تحذر من التكلفة الباهظة لسياسة خارجية نشيطة، وتحذر بشكل خاص من الانزلاق والتورط فى مغامرات عسكرية باهظة الكلفة، وغير وثيقة الصلة بالمصالح الوطنية المصرية. هذا هو التيار الأكثر اتساعا فى الجماعة السياسية والرأى العام المصرى، والذى استوعب الدرس الأهم للحقبة التى انتهت بحرب يونيو 1967، وهو الدرس الذى يحظى بإجماع رجال ومؤسسات الاستراتيجية والعسكرية والدولة المصرية.
أزعم أن عموم المواطنين المصريين يتفهمون هذا الخط السياسى ويرونه ضروريا لأمن ورفاهة مصر فى هذه المرحلة. فى الوقت نفسه، فإن أغلب هؤلاء المصريين أنفسهم يرون السياسة الخارجية الحذرة أمرا مفروضا، وليست اختيارا حرا، ويتمنون لو بإمكان بلدهم القيام بدور أكثر نشاطا فى توجيه الأحداث فى الإقليم.لاحظ الترحيب الإعلامى وحالة الاحتفال السياسى التى تقابل بها قرارات وتحركات حازمة تأخذها مصر فى مجال السياسة الخارجية، بدءا من قيادة إيصال المساعدات لأهل غزة، وصولا لخط أحمر يتم الإعلان عنه فى الغرب أو الشرق، فتكون هذه مناسبات يجرى فيها التعبير عن مزيج الوطنية والكرامة والاستحقاق والزعامة، فى مركب تختلط فيه السياسة الخارجية بالثقافة السياسية والشرعية.
السياسة الخارجية المتحفظة هى فى رأى الأغلبية من المصريين هى الاختيار الصائب فى الظروف الحالية، آملين النجاح فى تخفيف القيود، وتوسيع هامش حرية الحركة، والانتقال من تحفظ حذر إلى فعالية مؤثرة، لا تكرر مغامرات الماضى وإخفاقاته، وتستنير بخبرات تراكمت خلال نصف القرن الأخير. السياسة الخارجية المتحفظة فى نظر هؤلاء ليست اختيارا نهائيا، لكنها مرحلة انتقال ضرورية، فتكوين مصر الحديثة وثقافتها السياسية لا يسمح لها بالحياد فى إقليمها، أو بالتبعية لقوى إقليمية أخرى.
سياسة خارجية فعالة، تتجنب المغامرات، ولا تبالغ فى التحفظ. هذه هى الترجمة الأقرب للمشاعر السائدة بين المصريين. سياسة كهذه لها تكلفة، وتحتاج إلى موارد اقتصادية وتكنولوجية، تسمح بدعم الأصدقاء ومعاقبة الخصوم. العلاقة وثيقة بين التنمية فى الداخل، والسياسة الفعالة فى الخارج، وكل إجراء تنموى جاد هو خطوة على طريق سياسة خارجية فعالة.